إلياس الخطابي: قارئ يراسل كاتبا

27 يونيو 2023
إلياس الخطابي: قارئ يراسل كاتبا
إلياس الخطابي
إلياس الخطابي

أهلا وسهلا محمد، الشاعر المختفي والسارد المختفي أيضا. انتظرتك أن تكتب، لكنك لم تكتب. على عاداتك خيبت أملي. ربما لا يعجبك كتابة الرسائل، وربما أمور أخرى، تجعلك لا تكتب. رغم ذلك، رغم انقطاعك عن الكتابة إلي، أتفهم قرارك وظروفك. حياتنا ليست حياة الترف، كي يكون لنا فراغ دائم للكتابة والقراءة.

بدأت الكتابة إليك، فبدت لي الحروف بحجم النمل. توقفت. ارتدت نظاراتي الطبية، وعدت لأواصل الكتابة. متى سيصدر جديدك الذي أخبرتني به في رسالتك القصيرة؟ ربما من غير اللائق أن أسألك عن عنوان عملك القادم! لا أعرف كيف تنظر لهذه الأمور. هناك كتاب حساسون، لا يفصحون عن جديدهم حتى يظهر في دار النشر، أو الطباعة.

في الآونة الأخيرة، لا أقرأ كثيرا. لم يختف الشغف كليا، إلا أنني أحس بنوع من الإرهاق النفسي وكذلك الجسدي. أتفهم أنني منهك، وشيء عادي أن أرهق نفسيا، لأن طاقتي مستنزفة. استنزفت طاقتي كلها، لأنني أعيش في المكان الخطأ، في مكان لا أريده، لكنني أتحمله، وأعيش فيه كرها، وهذا ما يحدث لي كذلك مع الكثير من الناس. أتعامل معهم رغم أنني لا أريد أن أرى حتى وجوههم. الواقع يفرض علي أن أعيش وسطهم.  ما لا أقدر على فهمه، هو إرهاقي جسديا. إنني لا أفعل شيئا، ومنذ أمد لم أفعل أي شيء. لا أحمل أثقالا، ولا أعمل ما يُتعب جسدي، ورغم ذلك، متعب إلى حد كبير.

بدأت أقرأ رواية “هلوسات ترشيش” للكاتب حسونة المصباحي. قرأت في الرواية: الخوف كما تعلمون يعمي الإنسان، ويذهب بعقله وبصيرته. الشهر الماضي، كنت أود أن أقتني كتابه الأخير “الرحلة المغربية”، لكن حينما رأيت ثمنه على الغلاف “140 درهم”، صعقت. تركت الكتاب، وخرجت من المكتبة. أسئلة كثيرة لا نجد لها جوابا حول هذا الغلاء الفاحش للكتب. ربما في العمق، هناك سياسات لا تريد أن يوجد قارئ. يظهر القارئ، لكن لا أحد يهتم به، أو يوفر له الكتاب بثمن معقول.

استنزفت طاقتي كلها، لأنني أعيش في المكان الخطأ، في مكان لا أريده، لكنني أتحمله، وأعيش فيه كرها، وهذا ما يحدث لي كذلك مع الكثير من الناس

عدت من القرية منذ أيام. الضياع يلازمني، سواء كنت هنا بالمدينة أو بالقرية. في المدينة أشعر بالضياع، لأنني مجرد ضيف فيها. لا أملك فيها بيتا، ولا أي شيء يُذكر. في القرية أضيع، لأنني أفقد الأمكنة التي توجد في المدينة. في القرية، لا تجد الناس، ولا المقهى، ولا أي شيء يمكن أن يخرجك من الروتين الممل، إلى البهجة والسرور.

لم أنه بعد كتاب “الاستياء العالمي”. قرأت فيه قليلا في الصباح. سأل ديفد برسميان تشومسكي قائلا: فيما يتعلق بمسؤولية المثقفين، ماذا يمكنك أن تقول عن الجيل الحالي منهم؟ هل هم مختلفون؟ أجاب نعوم تشومسكي: لا أعتقد أنهم مختلفون على مدى التاريخ. هناك مسؤولية من المتوقع منهم أن يلتزموا بها، وهي بالذات التملق لدى البلاط الملكي. وهناك المسؤولية الأخلاقية بأن يلتزموا بالحقيقة وبالدقة وبالفكر الناقد والتركيز على الجرائم والمخالفات.

لا أكتب كثيرا. أكتب بعض اليوميات، وبعض الرسائل. القصة تأبى أن تطاوعني كلها. أفكار كثيرة تختمر بالذهن، وحينما أود أن أكتب، يهرب مني ما كنت أريد كتابته. لا أعول على الكتابة، ولا أفكر فيها كثيرا. أكتب حينما لا أحتمل القراءة. ذهني ليس مليئا بالأسئلة فحسب، بل بما يقال وما لا يقال أيضا. ولأنني في المكان الخطأ، فلا أجد ما أريد قوله لأحد، ما عدا عبر الكتابة. كنا ننتظر أن تبنى الجامعة هنا بالحسيمة. لكن بدأنا نسمع أن المشروع قد فشل، وتلاشى كل شيء. الصلح بين الدولة والريفيين، لا وجود له إلا عبر الورق. في الإعلام نسمع كثيرا، الصلح، والمصالحة، وأشياء أخرى.. لكن في الواقع يوجد العكس، يوجد الصراع، يوجد كره الدولة للريفيين، ويوجد كره الريفيين للدولة. الكره متبادل. إلا أنني أعتقد أن المسؤول عن هذا الكره، ليس هو الإنسان الريفي. كما تعرف، الإنسان نتيجة مؤسسة، والإنسان الريفي نتيجة مؤسسات فاشلة. أنا حزين على ذلك. كنت أود أن تبنى الجامعة ليتقلص الجهل، وليحقق الشباب والشابات أحلامهم، وليواصلوا دراستهم. لكن يبدو الآن أن لا شيء من ذلك يحدث. لا أعرف أين الجمعيات التي تناضل من أجل حقوق الإنسان. وددت لو كانت هناك جمعيات تساعد “فتيات الريف” ليتابعن دراستهن في الجامعات.

أنا هنا الآن في أجدير. متعلق بهذا المكان، رغم أني لم أولد فيه. ربما أصلي من هنا، وربما متعلق بهذا المكان بسبب المناضل محمد بن عبد الكريم. لا أعرف. ما أعرفه هو أنني أرتاح بهذا المكان، بخلاف حينما أكون بالحسيمة، أو بإمزورن، أو في تماسينت، أو في مكان آخر. جالس في مقهى “النكور”، معي كتاب “عبد الكريم .. التاريخ الآخر ” لمحمد أمزيان. هذا الكتاب بدأته منذ أيام. لكنني لا أقرأه بشكل مستمر. فتحته، وجدتني قد سطرت على مقولة: الأرض هي الأرض، لا تغير جلدها وهويتها بمجرد أن تستوطنها عناصر إثنية خارجية أو تتبنى لغة غير لغتها الأصلية. حينما أفكر في الهجوم الذي يأتي من الداخل على الحسيمة، يبدو لي أن صناع القرار، يريدون تذويب الريفيين وتشتيتهم. الإنسان يأتي من بعيد، في وقت وجيز، تجده قد حقق الكثير هنا. كيف يفعل ذلك!

رسالتي هذه المرة طويلة أكثر من الرسائل التي كتبتها لك في السابق. إنني لا أكتب كثيرا. لكن حينما أكتب فإنني أكتب كثيرا. القلم لا يتوقف على النزيف، وكأنه يعوض الفترات التي لم ألب فيها نداءه. قهوتي لم أنهها بعد. أشربها ببطء. الكتاب الذي معي، ما أزال أنظر إليه. الشمس على وشك أن تغيب. تبدو لي صفراء على جبال تمسمان وأربعاء تروكوت. أتذكر معركة أنوال، ومعارك أخرى. لم أشارك في أية معركة من هذه المعارك. معركتي الوحيدة هي مع ذاتي. المعركة مع النفس ليست سهلة، تجرني نحو المجهول، وأنا أمسك بها كي تصمد، وتبقى معي ما تبقى لي من أيام وسنوات على هذه الأرض. أريد أن نرحل معا. لكنها تعجل الرحيل. لا أعرف من سيفوز، ومن سيهزم. إذا ظللتُ هنا بالريف، فسيصيبني ما أصاب الكثيرين.

أنهي رسالتي هنا، وإلى حين آخر.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق