للمرة الثالثة على التوالي، وفي ظرف ستة أشهر، تردد موضوع الاستثمار ضمن الخطابات الملكية لمرات عديدة، بشكل لا يمكن أن تخطئه عيون الفاعلين الاقتصاديين، لاسيما الدعوة الملكية المتكررة إلى إفراد عناية خاصة لاستثمارات الجالية المغربية في الخارج.
وقال الملك محمد السادس خلال خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان إنه “لتحقيق الأهداف المنشودة تم توجيه الحكومة، بتعاون مع القطاع الخاص والبنكي، إلى ترجمة التزامات كل طرف في تعاقد وطني للاستثمار”، موضحا أن هذا التعاقد يهدف إلى “تعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات، وخلق 500 ألف منصب شغل، في الفترة بين 2022 و2026”.
وبنبرة الصراحة والوضوح وتحمل المسؤولية، قال الملك محمد السادس مخاطبا البرلمانيين: “إن افتتاح البرلمان ليس مجرد مناسبة دستورية لتجديد اللقاء بممثلي الأمة، وإنما نعتبره موعدا سنويا هاما لطرح القضايا الكبرى للأمة، لاسيما تلك التي تحظى بالأسبقية”.
وخصص الجالس على عرش المملكة المحور الثاني كاملا من خطابه هذه السنة لموضوع الاستثمار، “الذي يحظى ببالغ اهتمامنا”، مجددا دعوته في هذا السياق، إلى “إعطاء عناية خاصة، لاستثمارات ومبادرات أبناء الجالية المغربية بالخارج”.
وليست هذه المرة الأولى التي يشدد فيها الملك على ضرورة إشراك الجالية في الاستثمار وإنتاجيته باعتباره رافعة لإنعاش الاقتصاد الوطني؛ فبعد خطاب ذكرى عيد العرش (يوليوز 2022) الذي أفرد حيّزا هاما للحديث عن “معيقات الاستثمار وعراقيله بالمغرب”، توجّه عاهل البلاد، في خطاب 20 غشت 2022، إلى “المؤسسات العمومية وقطاع المال والأعمال الوطني”، مُطالبا بصريح العبارة بـ”الانفتاح على المستثمرين من أبناء الجالية؛ وذلك باعتماد آليات فعالة من الاحتضان والمواكبة والشراكة، بما يعود بالنفع على الجميع”.
وتابع الملك، حينها، في نبرة تأكيد: “نجدد الدعوة للشباب وحاملي المشاريع المغاربة، المقيمين بالخارج، للاستفادة من فرص الاستثمار الكثيرة بأرض الوطن، ومن التحفيزات والضمانات التي يمنحها ميثاق الاستثمار الجديد”.
4 قطاعات استثمارية إستراتيجية
تحليلا لمضامين الخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية الخريفية، قال محمد كريم، رئيس شعبة الاقتصاد والتدبير بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بسلا (جامعة محمد الخامس-الرباط)، إن “الخطاب الملكي، وكعادته، جاء مُتسما بوضوح أفكاره ورسائله لكل الفاعلين”، مؤكد أنه يأتي استمرارا لسلسلة من الخطب الملكية التي تحمل “أفكارا حكيمة وتصورا عميقا وبعيد الأفق علينا الافتخار بها كمغاربة”.
وأشاد كريم، في تصريح صحفي، بـ”الاهتمام الملكي المستمر الذي ما فتئ يخص به موضوع الاستثمارات المُنتجة في علاقتها بالجالية المغربية في الخارج”، مشيرا إلى أن “تقرير النموذج التنموي لم يتحدث فقط عن التشخيص، بل حمل حلولا لا تنتظر سوى التنفيذ والتفعيل”.
وأورد الخبير الاقتصادي الذي يشغل أيضا عضو اللجنة التنفيذية لـ”الشبكة الدولية للاقتصاد والنمْذجة EcoMod”، أن دراسات قام بها لفائدة البنك الدولي “أثبتت أن الاستثمار بالمغرب، وتشجيع مستثمري الجالية في القطاعات ذات القيمة العالية والمضافة، يجب أن يتم توجيهه إلى 4 قطاعات إستراتيجية من أصل 44 قطاعا تتضمنها الحسابات الوطنية”.
وعدّد المتخصص في الاقتصاد والتدبير هذه القطاعات الأربعة في “الصناعات الغذائية والتحويلية، التجارة، الأبناك، والطاقات المتجددة لاسيما الشمسية”، لافتا إلى أنها قطاعات قد تبدو كلاسيكية لكن الاستثمار فيها سيكون ذا عائد أكبر على خلق فرص الشغل والقيمة المضافة العالية.
كريم أكد أن “المغرب يمتلك واحدا من أعلى نسب الاستثمار وتمويله على صعيد العالم، إلا أن تعقيد المساطر ونوعية مشاريع الاستثمار لا يجعلانها تعطي النتائج المرجوة على معيش المواطنين”.
تسهيل المساطر ونوعية المشاريع
وقصد تشجيع الجالية المغربية بالخارج على الاستثمار في المغرب، والمساهمة اقتصاديا في دينامية نمو بلدها الأم، سجّل كريم أن “الملك سبق أن دعا إلى القطع مع منطق الريع والامتيازات والرشوة والمحاباة في منح المشاريع الاستثمارية”، مؤكدا بصراحة من خلال خطاباته السابقة أنه “وجب تسهيل المساطر وتشجيع رؤوس أموالهم على العودة إلى أرض الوطن”.
ولفت المتحدث ذاته إلى أنه “يجب مواكبة مستثمري الجالية المغربية في مختلف دول العالم عبر تقديم بطاقة المشروع لهم، فضلا عن تعزيز الامتيازات والتسهيلات الضريبية”، مُنوها بدينامية “تقليص آجال خلق المقاولة بالمغرب وتحسين مناخ الأعمال”.
واقترح الخبير الاقتصادي أن يتم توجيه الجالية إلى القطاعات الاستثمارية الواعدة سالفة الذكر، بعيدا عن الاستثمار في قطاع البناء والعقار والأشغال العمومية والخدمات، لأنها تظل “قطاعات محمية وغير منتجة تضر بتنافسية الاقتصاد ودينامية مناخ الاستثمار”، ومنبها إلى “ممارسات ريعية” مازالت تعترض طريق المستثمرين من أبناء الجالية عند الشروع في إطلاق مشاريعهم بالمملكة.
منطق رابح – رابح
رئيس شعبة الاقتصاد بكلية الحقوق في سلا أورد، في معرض حديثه مع هسبريس، أن “منطق الربح الشخصي يجب ألا يظل طاغيا على استثمارات الجالية في وطنها”، مشيرا إلى أن أي مشروع استثماري رأسماله يمتلكه مغاربة العالم يجب أن يستحضر مصلحة الوطن واقتصاد الدولة التي ذهبت بعيدا في تشجيع استثمار الجالية عبر استفادتها من إمكانيات المناطق الصناعية الحرة مثلا”، قبل أن يستدرك بأن “مجهودا وعملا يجب أن يُبذل لتوزيع عادل لفرص الاستثمار على الجالية وتوجيهها إلى قطاعات واعدة وخالقة لفرص النمو والشغل المُنتج، فضلا عن توزيعها على الجهات ترابيا بشكل مُنصف مجاليا”.
وخلص كريم إلى أن دور الدولة في المجال الاستثماري يجب أن يتعزز من خلال أدوار “التصحيح والتقويم والتنظيم القانوني والتوجيه إلى القطاعات المنتجة والمساهمة في خلق الشغل والثروة”.
في سياق متصل، جدد الملك دعوة “نواب الأمة” إلى النهوض بـ”دور المؤسسة البرلمانية في مجالات التشريع والتقييم والمراقبة، والدفع قدما بإشكاليات الاستثمار، وبمختلف القضايا والانشغالات، التي تهم الوطن والمواطنين”، داعياً البرلمانيين أيضا إلى تحمل مسؤولياتهم على اختلاف تلاوينهم، لاسيما في الظروف الوطنية والتقلبات العالمية الحالية.
جدير بالتذكير الخطاب الملكي بمناسبة 20 غشت الماضي لم يَخلُ من إشادة ملكية بـ”مجهودات كبيرة” تقوم بها الدولة قصد “ضمان حسن استقبال مغاربة العالم”. “لكن ذلك لا يكفي”، يستدرك الملك، الذي أردف شارحا: “لأن العديد منهم، مع الأسف، مازالوا يواجهون العديد من العراقيل والصعوبات لقضاء أغراضهم الإدارية، أو إطلاق مشاريعهم، وهو ما تتعين معالجته”.