التوفيق فتحي: تكلم حتى أراك!

التوفيق فتحي: تكلم حتى أراك!
30 مارس 2023
التوفيق فتحي

تكلم حتى أراك مقولة تنسب الى سقراط. وتروى عن مناسبة قولها عدة حكايات منها أن رجلا وسيما بملامحه وأنيقًا بملبسه وقف يوما أمام سقراط يتبختر دون ان ينبس ببنت شفة، فوجّه له سقراط كلمته “تكلم حتى أراك”، ومنها رواية أخرى تقول أن سقراط لاحظ يوما أن كل تلامذته طرحوا عليه أسئلتهم فأجاب إلا واحدا، فقال له سقراط كلمته “تكلم حتى أراك”.

تنسب المقولة إلى سقراط دون يقين، لكن معناها يتوافق كليا مع فلسفة سقراط وما طوره منهجا لاستخراج الحقيقة عبر الخطاب والحوار. سقراط هو من أسس منهج المايوتيقا Maïeutique أو أسلوب التوليد الذي جعل التفلسف يقوم على الحوار للوصول إلى الحقيقة، ولسان حاله يقول إسأل وحاور لتعرف. لكن دعونا نكون واقعيين وصرحاء قليلا مع أنفسنا، هل فعلا حينما نتكلم أو نكتب، باعتبار الكتابة كلاما منثورا على الورق،

نكشف فعلا عن ذواتنا، فنصبح شفافين امام الآخر لكي يرانا؟ أم أننا في حقيقة الأمر نخفي أنفسنا، او على الأقل جزءا منها، ونخفي الأشياء بالكتابة وعبرها؟ حينما نكتب فإننا نختفي أكثر ونخفي الأشياء أكثر فأكثر وإن أعلنّا عكس ذلك في ديباجة الكلام ومتنه. حينما نكتب عن أصدقائنا، فهم دائما مثقفون وأصحاب مناصب ومهن رفيعة وربما أغنياء وذوو حسب ونسب وحُظوة، لنخفي كل من عداهم من أصدقائنا اللذن هم ربما أغلبية في حياتنا! حينما نكتب عن الأشياء الجميلة في حياتنا ونسلط الضوء عليها فإننا نقبِر كل البشاعات الأخرى الكثيرة التي تسكننا وتحيط بنا وهي الأكثر والأغلب! لكننا بالكلام المنثور نضرب عليها حصارا كي لا تفوح روائح نتنها فتتجاوز الواجهات المطليّة بالدهان البراق.

حينما نكتب عن طهارتنا فإننا نخفي كل انحرافاتنا وأوساخنا المترسبة في القاع! أوساخ لو نُشرت في العراء لما كفتها أرض واحدة لنشرها. حينما نكتب عن “وعينا” الحاد واليقظ فإننا نتحدث عن قمة جبل الجليد الذي يخفي في تحته “لاوعينا” اللامحدود، بخرافاته وتناقضاته الذي نخفيه حينما نخرج ونتكشّف للآخرين بوشاح وعينا الرقيق الذي بالكاد يخفي كومة الجهل واللامعرفة التي تسكننا. حينما نكتب عن المصلحة “العامة” فإننا نخفي مصالحنا ونواريها في ثناياها عن أعين الآخرين! لأننا نؤمن ان المصلحة لا يمكن أن تكون عامة إنلم تكن لنا فيها مصلحة خاصة. حينما نكتب فنحن في واقع الأمر نكتب عن صورة ظاهرية ليست سوى انعكاس غير أمين لحقيقتنا التي لا قاع لها…
نحن مغارات النفس البشرية عند شوبنهاور وعند نيتشه، كل مغارة تؤدي إلى مغارات أخرى، والتي بدورها تؤدي لمغارات أعمق دون قاع ولا نهاية!

لنكتب إذن ما نريد، ولتقرؤوه كما تشاؤون.

رابط مختصر

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق