وراء جل القضايا التقنية او التي تقدم على انها تقنية تختفي دائما رهانات سياسية وايديولوجية. النقاش حول الدخل الأساسي غير المشروط لا يشذ عن هذه القاعدة، فعادة يتم تقديمه من طرف البعض كمجرد تحويل للنفقات الاجتماعية من خط إنفاق نحو آخر في الميزانية العامة للدول. المسألة أعمق من هذا، لأن النقاش الدائر حول المسألة يستبطن رؤية للإنسان ولطبيعة العلاقات الاجتماعية وإعادة قراءة لطبيعة وخصائص العقد الاجتماعي الذي بنيت عليه الدولة الحديثة، بكلمة إعادة النظر في الأنظمة التي تحكم المجتمع. فكرة تخصيص دخل عام لكل افراد المجتمع، بمقابل اجتماعي ام بدون مقابل، ليست جديدة في الاقتصاد السياسي ولا في الفلسفة السياسية، رغم ان الغلبة الفكرية والعملية في آخر المطاف كانت لتيارات "العمل بمقابل مادي" كآلية وحيدة لوجود اجتماعي للفرد ولانتمائه للمجتمع.
سأحاول فيما يلي استعراض أصول الفكرة وبعض التجارب العالمية التي حاولت تطبيق الفكرة للتحقّق من مدى جدوائيتها في أرض الواقع.، لأختم ببعض الاعتبارات العامة.
1. اصول مختلفة لفكرة متعددة الصيغ:
تجد فكرة تعميم دخل أساسي غير مشروط على كل أفراد المجتمع جذورها في أدبيات اقتصادية واجتماعية مختلفة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. ويمكن التمييز داخلها بين ثلاثة توجهات أساسية:
التوجه الاول يجعل من اسقاط الملكية الخاصة بكل انواعها شرطا لتحقق العدالة الاجتماعية، فالإنتاج يكون فقط للاستهلاك ولا مكان لتراكم خاص للفائض. يمكن اعتبار الفيلسوف والسياسي الانجليزي توماس مور (1478 ـ 1535) المؤسس الفعلي لهذا التيار، حيث فصّل وجهة نظره في كتابه يوتوبيا عام 1516 أي حوالي 3 قرون قبل رأسمال كارل ماركس. أعمال الفرنسيين ايتيان غابرييل
موريلي و بانو دي مابلي في القرن الثامن عشر حول نزع الملكية باعتبارها مصدرا للظلم الاجتماعي، للفوضى والخمول هي امتداد
ليوتوبيا مور التي رسم معالمها على لسان الرحالة غابرييل احد ابطال كتابه، عالم تختفي فيه الملكية الفردية نهائيا ويحصل كل
مواطن على بيت مجاني لمدة عشر سنوات مع التزامه بالعمل في الزراعة لمدة سنتين قابلة للتجديد طواعية، عالم يلبس فيه الجميع نفس الملبس ويلجون مجانا ودون قيد الى التعليم والصحة والمأكل والمشرب.
التوجه الثاني لا يُسائِل الملكية الخاصة على إطلاق ولا يضعها موضع الشك بل يعارض فقط ملكية الاراضي. يعتبر هذا التوجه أن
الارض يجب ان تكون مشاعا وان يكون الناس شركاء فيها كما الماء والهواء. السياسي والفيلسوف الأنجلو أمريكي توماس پاين
(1737 ـ 1809) وجه محوري لهذا التوجه، بل ويعتبر المؤسس الفعلي لفكرة الدخل العام اللامشروط واليه ينتسب كثيرون من
دعاة الفكرة والمدافعين عنها في الغرب الحديث، افرادا وحركات اجتماعية. پاين كان اشتراكي الفكر والهوى والفعل، كان مقتنعا ان الفقر انتاج محايث للحياة المتحضّرة. حاجج في اعماله النظرية كفيلسوف ودافع في عمله كسياسي عن نموذج مجتمع عادل يمكن لامتلاك الارض فيه ان يكون قانونيا لكنه ابدا لن يكون مشروعا ولا شرعيا، ثم شرح في كتابه العدالة الزراعية بدقة كيف يتم تأميم الاراضي، زراعتها وفرض ضريبة خاصة على منتوجاتها لتمويل صندوق وطني وظيفته منح دخل كفاف قار لامشروط لكل بالغ.
فكرة جديدة حتى بالمقارنة مع ما دافع عنه في كتاباته السابقة خاصة في كتابه حقوق الانسان الذي دافع فيه عن نموذج اجتماعي أقرب الى نموذج دولة الرعاية الحديثة في الغرب، أي دولة رعاية تعطي حقوقا وتضمن رفاهية لكنها تشترط من المواطنين واجبات والتزامات.
التوجه الثالث، والذي يمكن اعتباره ملهما لفكرة دولة ـ الرفاهية الحديثة، يجد أصوله في أدبيات القرن السادس عشر حول محاربة
الفقر; دون رفض الملكية الخاصة عموما ولا ملكية الاراضي بشكل خاص. نظريات الاسباني خوان لويس ڤيڤيس حول مساعدة
الفقراء يمكن اعتبارها منطلقا لنظريات الدعم العمومي المنظم بعيدا عن الاحسان الفردي او الجماعي الذي احتكرته المؤسسات
الكنسية لقرون واستعملته كآلية فعالة للإخضاع وحشد الاتباع. الحق في العيش وسد الحاجيات الاساسية هو التبرير الاساسي
لأصحاب هذا التوجه. على المستوى السياسي يمكن اعتبار شارلكان (شارل الخامس 1500ـ 1558) من الاوائل الذين استأنسوا بمبادئ هذ التوجه لتثبيت اصلاحاته للنظام الخيري في الاراضي المنخفضة منتصف القرن السادس عشر ويحوله تدريجيا الى نظام
أقرب الى حماية اجتماعية منه الى نظام خيري. وبدون شك يمكن اعتبار جمهورية الثورة الفرنسية (1789ـ 1799) أولى التجارب
المركزية والموحدة لأنظمة الضمان الاجتماعي كما هي معروفة اليوم في الغرب الحديث، او على الاقل هي تعبير بدائي لها. ففي 11 ماي عام 1794 صادقت الجمعية التأسيسية (للجمهورية الاولى) على قانون "العمل الخيري الوطني" بأفق سياسي واجتماعي جديد من اهم نقاطه الحق في المساعدة وفقا لمقررات اعلان 1793 للحقوق، الحق في المساعدة الطبية المجانية، الحق في التعويضات العائلية للأسر كبيرة العدد، الحق في التعويض المادي في حالات المرض والشيخوخة. تثبيت هذا النظام دفع بالخروج نهائيا، على الاقل على المستوى الرسمي، من منطق الاحسان الفردي والجماعي العشوائيين والاخلاقيين لتكريس شرطي الاحتياج والمواطنة (الانتماء للوطن) كشرطين وحيدين للاستفادة من الدعم والمساعدة.
في السنوات العشر الأخيرة، تمت تجربة عدة صيغ لفكرة الدخل الأساسي غير المشروط أو المشروط جزئيا في سياقات مختلفة،
ولكن دائما في إطار مشاريع تجريبية محدودة زمانيا وجغرافيا. كل هذه التجارب فشلت جزئيا أو كلِّيا ولم يتم تعميمها لتعود إلى
رفوف الإرث البشري. فنلندا قامت بتجربة بين 2017 و 2018 بمنح دخل غير مشروط لألفي عاطل عن العمل (حوالي 560 يورو) يمكن مراكمتها دون قيود مع أشكال أخرى من الدخل (أجر، عمل حر…). تمت التجربة لمدة أربع سنوات، النتيجة النهائية للتجربة كانت أن الإجراء كان له أثر جد ايجابي على الأمن الاقتصادي والصحة النفسية للمشاركين وأثر جد محدود على العمل (معدّل 6 أيام عمل إضافية للفرد!).
الهدف الرئيسي لفنلندا كان محاربة البطالة، لم يتحقّق الهدف فألغت البرنامج ولم تعمّمه. في قرية ماجاوا بكينيا تقوم منظمة أمريكية غير حكومية منذ 2018 بتجربة فكرة دخل غير مشروط بدفع ما يعادل 20 يورو شهريا لكل فرد لتغطية احتياجات الحياة الضرورية. تمّ تعميم العملية في قرى شرق كينيا وفي دول أفريقية أخرى خاصة رواندا والكونغو وليبريا. التجربة أقرب إلى العمل الإحساني منه إلى نظام شامل وبنيوي لفكرة دخل عام غير مشروط.
عدة مدن هولندية، منها اوتريخت و تلبورخ، التحقت ببرنامج للدولة لتجربة الفكرة في 2016. تجارب لمدينة اوتريخت بشراكة مع
جامعتها رأت النور أيضا. تقريبا في كل دول اوروبا الغربية وشمال أمريكا قامت بتجارب في هذا المجال.
كل التقييمات كانت سلبية. المفارقة اليوم ان فكرة الدخل الأساسي غير المشروط عابرة لمختلف التوجّهات السياسية و الأيديولوجية، تجد انصارا واعداء من داخل كل الاطياف السياسية والفلسفية الغربية الحديثة من أقصى اليمين الى اقصى اليسار، فقط تختلف صيغ تقديم الفكرة ومبررات قبولها او رفضها من طرف أو من آخر.