العامل الخارجي أم الداخلي؟ أيهما الأهم في سقوط المجتمعات؟

14 أكتوبر 2024
أزمة المجتمع الإسلامي
أزمة المجتمع الإسلامي

محمد أزرقان: مع مواجهة كل أزمة اجتماعية أو الوقوع في كارثة قومية، يحلو لنا أن نوجه أصابع الاتهام إلى العدو الخارجي، كما بدا لي من خلال نقاش جمعني ببعض الأصدقاء في مدينة طنجة في الصيف الماضي. كل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية وإفلاسنا الخلقي -في رأيهم- سببها الغرب والصهيونية!

ولكن هل هذا هو سبب المشكلة؟ أم هناك أسباب أخرى نغفلها؟

إن هذا النمط من التفكير لا يفضي إلى حل المشكلة، بل يفضي إلى نوع من الذهان النفسي المزمن! فمنذ سقوط الأندلس ودولة الموحدين في المغرب ابتلي إنسان ما بعد الموحدين بمرض تقديس الذات وتنزيهها عن كل خطأ. كل الكوارث الاجتماعية والسياسية مصدرها العدو الخارجي. فما دامت ذواتنا خارج مجال المشكلة، سيبقى الحل بعيدا عن متناول اليد وتبقى بالتالي أنفسنا مبرأة عن أي خطأ. فذواتنا فوق الخطأ، لا شأن لها بما يحدث لنا، المشكلة مشكلة الغرب والصهيونية. وفي هذه الحالة تتعطل آلية التشخيص والسبر والتمحيص، كما أن العثور على كبش فداء يكون جاهزا يقود إلى تعطيل آلية الجهد الذاتي بشكل كامل. وعندما نتوهم أن سبب المشكلة لا علاقة لها بذواتنا ينتج عنه تلقائيا إيقاف كل بذل جهد يمكن أن يتدخل في مسار تغيير الأحداث وإصلاحها. يقول المنظر الاجتماعي مالك بن نبي عن إنسان ما بعد الموحدين: “إن نفسه المريضة تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي”.

إن فلسفة القرآن تؤسس لفكرة يغفل عنها الناس وهي (ظلم النفس). فإنسان ما بعد الموحدين اعتاد، ومستعد، أن يوجه أصابع الاتهام إلى الآخرين إلا نفسه فهي مقدسة وفوق النقد: “وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” (س. النحل)، “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (س. الرعد)، “إن الله لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون” (س. يونس). كل هذه الآيات تحثنا على محاسبة النفس والنقد الذاتي. وعملية النقد والنقد الذاتي عندما يتعود عليه الإنسان وتصير لديه ثقافة يمارسها في حياته اليومية، تحفظه من أن يزيغ أو يطغى أو يغش أو يشطط عندما يتولى مسؤولية أو أداء مهمة في المجتمع.

إن كثيرا من شرائح المثقفين والسياسيين عندهم الاستعداد للوم كل القوى كتغطية لعجزنا وفشلنا من الصهيونية والماسونية والاستعمار والشيطان، بل يؤدي بنا الأمر إلى نسب إفلاسنا الخلقي وفشلنا اليومي إلى إرادة الله، وليس لديهم استعداد للوم أنفسهم عما آلت إليه أحوالنا المتردية.

ما يغيب عن ذهن هؤلاء المثقفين والسياسيين هو أن ظلم الإنسان لنفسه هو أم الكوارث الاجتماعية والسياسية التي تردي المجتمع إلى أسفل السافلين، هو السبب الجوهري في فقدان التوازن الاجتماعي والإخلال بالعلاقات الإنسانية عندما يتحول المجتمع من مجتمع أفقي إلى مجتمع طبقي تتمزق فيه وتتصدع الشرائح الاجتماعية إلى بؤساء منبوذين وأغنياء مترفين مستحوذين على خيرات البلد أو إلى مستكبرين ومستضعفين.

لم يحدثنا القرآن عن المجتمع الطبقي الفرعوني هكذا عبثا إنما للعبرة والاتعاظ. يشير القرآن إلى أن مشكلة الاستبداد في المجتمع الفرعوني ليست شخصية فرعون، إنما الناس أنفسهم هم الذين يمدونه بشريان الحياة أو كما يقول مؤلف رسالة العبودية الطوعية: “الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها أو قل: تكبل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمة المستبد”.

ولكن يبدو أن المسلمين المتأخرين لا يفهمون من هذه الحقائق القرآنية إلا القراءة والتبرك حتى صار عندهم القرآن كتابا خرافيا لا يصلح إلا للتعويذة والشعوذة. والبعض الآخر اعتبره سجلا للعلوم والفنون على اختلاف أنواعها. ففيه أسرار الذرة والفلك، وفيه الجغرافية وعلم طبقات الأرض، وفيه أسرار الفراعنة المحنطين في أهرامات مصر…

إننا لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الأفكار تخدر عقول أجيال وتبعدهم عن فهم حقائق القرآن وسنة التدافع الاجتماعي. وهي أفكار يغرسها في عقول الأجيال الوعاظ والكهنة الذين يقتاتون على فتات موائد السلاطين والملوك المترفين. والواقع أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يختلفون كثيرا عن فرعون. فهم مستبدون وسفاكون للدماء، بعيدون كل البعد عن قيم القرآن ومبادئه. ومن ينكر هذا، فعليه أن يدرس دراسة حيادية للتاريخ الإسلامي من عهد بني أمية إلى يومنا هذا.

إن اندثار المجتمعات عبر التاريخ يبدأ من الداخل، فيتفكك المجتمع وينقسم إلى فئات وأحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون. والمؤرخون وعلماء الاجتماع المهتمون بدراسة نشوء وأفول الحضارات لا يختلفون على أن الدول والإمبراطوريات تنهزم وتنهار بتفككها الداخلي. درس ابن خلدون في مقدمته أن العامل الداخلي هو الأهم في قيام وانهيار المجتمعات، وكذلك الدراسة الرائدة التي وضعها المؤرخ الإنجليزي (توينبي) تشير إلى أن الحضارات العظيمة لا تموت قتلا، أي بالهجوم الخارجي، وإنما انتحارا عندما يستنفد الجهاز المراقب لسلوك الفرد طاقته ويتراخى المبدأ الأخلاقي الضامن للتماسك الداخلي للمجتمع. التماسك الداخلي أو شبكة العلاقات الاجتماعية – بتعبير مالك بن نبي – عندما تصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع مريض وأنه ماض إلى نهايته.

وهذه الحالة من العجز عن القيام بأي عمل مشترك هي التي يشير إليها الحديث: “يوشك الأمم أن تداعي عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله..؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.

لم يقف كثير من شراح هذا الحديث – للأسف – عند بعده النفسي – الاجتماعي، بل اكتفوا فقط بتفسيره تفسيرا فقهيا. بيد أن الحديث هو ضرب عالٍ من التنبؤ والاستحضار لما آلت إليه حالة المجتمع الإسلامي من كلالة وغثائية وتمزق، أي عندما لا يعود مجتمعا، بل مجرد تجمعات لا هدف ولا غاية لها كذرات في مهب الريح، غثاء كغثاء السيل.

الحديث يشير إلى سر التحول في المجتمع وهو نفسي حين يصبح عاجزا عن أي نشاط مشترك. وفي الوقت الذي تظهر فيه العقد النفسية وحب الذات والأنانية في المجتمع، يغدو عمله الجماعي صعبا كما هي حالته الراهنة.

ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك حقيقة هذا الحديث أكثر مما يدركه أصحاب النبي (ص). استغرب الصحابة عندما أخبرهم بهذه الحقبة العسيرة من عمر الأمة!! أما نحن فنفهم مضمونه فهما واضحا جليا، نعيشه في واقعنا، والواقع هو أفضل من يفسر النصوص!

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق