
مر على رحيل الباحث الاجتماعي مالك بن نبي 49 سنة، ولكن أفكاره باقية حية تحثنا على النهوض من كبوتنا وشحذ همتنا بالتوجه إلى بحث مشكلاتنا النفسية والاجتماعية.
ابتدع مالك بن نبي منهجية خاصة في بحث مشكلة تخلف المسلمين، أسسها على دراسات النفس والاجتماع وقوانين التاريخ، مما أفضى به إلى كشف كثير من الأمراض التي تعاني منها مجتمعات المسلمين، منها مرض القابلية للاستعمار.
عندما كنت منكبا على دراسة فكره في تسعينيات القرن الماضي، وجدت صعوبة في تقبل هذه الفكرة! الاستعمار هو الجاني والسبب في تخلفنا وجهلنا واستغلالنا .. إلخ! وكيف تكون لنا قابلية للاستعمار؟ ماذا يقصد بها بن نبي؟..
القابلية للاستعمار هي آفة تجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمر عنه ويقبل بالحدود التي رسمها لشخصيته، بحيث يصبح يدافع عنها ويكافح ضد إزالتها. فعامل القابلية للاستعمار، كما يشرحه مالك بن نبي هنا، هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي وهو الاستعمار. إنه رضوخ نفسي عميق يرسخ الاستعمار ويجعل التخلص منه صعبا.
لم يضع مالك بن نبي هذه النظرية هكذا عبثا، إنما استوحاها من رحم التجربة التي مر بها في بلده الجزائر في مواجهة المستعمر وأذنابه. يرى أن سبب مشكل تخلفنا وضعفنا يرجع بالدرجة الأولى إلى أنفسنا وذواتنا. نحن من يهييء الظروف المناسبة للمستعمر فيستعمرنا ويستضعفنا. تخلصنا من الاستعمار عسكريا، ولكن ثقافته باقية تتحكم في سلوكنا ومصيرنا. ولهذا فهو يقول في سياق ذي صلة: “هذه الملاحظة الاجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكّن له في أرضها، وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذُل مستعمِر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهلها للاستعمار”. (شروط النهضة، ص. 33).
كتابه: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، هو نتيجة الصراع المرير الذي خاضه ضد المستعمر، يشرح فيه معاناته وتجربته المرة التي واجه فيها المعسكرين: مكائد المستعمر وخبث عملاء المستعمر الذين يحسبون على التيار التقدمي.
كتب يقول في مدخل كتابه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة: “.. نرى أن الكاتب التقدمي، في الخارج، يجهل هو الآخر هذا الصراع، فنراه مثلا يشارك في المعركة ضد الاستعمار بجانب المستعمرين، ولكنه يشارك فيها ما دامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري كأنما يضيق صدره منها في طابعها الجديد، أو أنه بعبارة أخرى، يرى أن من حق الرجل المستعمر أن يدافع عن نفسه ما دام دفاعه في الحقل السياسي، ولكنه حينما ينتقل دفاعه إلى الميدان الفكري، يرى أن هذا الرجل قد دخل مكانا لا حق له في دخوله”.
أدرك الاستعمار أن المعركة العسكرية معركة خاسرة، كلفته ثمنا باهضا في العتاد والأرواح، فلجأ إلى طريقة أخرى أجدى وبأقل ثمن هي تكوين نخبة مثقفة تحمل ثقافته وتنوب عليه في خدمة مصالحة السياسية والاقتصادية والثقافية.
نجح هذا المستعمر الطاغي في المهمة نجاحا باهرا!.. إلى يومنا هذا لا زالت هذه المنظومة الاستعمارية تدير شؤون حياتنا وتتحكم في مصائرنا بفضل هذه النخب التي تمسك بخيوط تسيير البلاد، ومن ورائها هذا الاستعمار يؤيدها ويؤازرها ويسكت على جرائمها.
القابلية للاستعمار عبودية أصيب بها الإنسان العربي المسلم، جعلته يرضخ لإغراءات الاستعمار، كالجلوس على كرسي الحكم وامتيازات اقتصادية على حساب توجهات الشعب وتقرير مصيره.
بحث مالك بن نبي “القابلية للاستعمار” بحثا سيكولوجيا، بين فيه آفاتها وأثارها السلبية على تفكير النخبة المثقفة والسياسية التي تدير شؤون الدولة، بحيث يسخرها المستعمر تسخيرا فاحشا في تنفيذ خططه وخدمة مصالحه على المدى البعيد. ويحضرني في هذا الصدد وثيقة استقلال أو ما تسمى بمعاهدة “إكس ليبان” التي وقعت بين المغرب وفرنسا سنة 1955، دبرت بخطة محكمة، ضمن المستعمر فيها امتيازاته ومصالحه على مدى البعيد.
هذه الوثيقة المشؤومة هي حلقة من حلقات القابلية للاستعمار، لم يوافق عليها المناضلون الشرفاء المخلصون الذين أدركوا خطط المستعمر الشريرة أمثال المناضل محمد عبدالكريم الخطابي رحمه الله. جاهد الرجل على الجبهتين الخارجة والداخلية: حارب المستعمر بحفنة من المجاهدين البسطاء لتخليص العباد والبلاد من قبضته، فتحققت له انتصارات لا يستهان بها (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، وأما على صعيد المفاوضات مع فرنسا، فكان موقفه واضحا لا غبار عليه!
كان الرجل يدرك بنظره الثاقب وتجربته مع المستعمر المخادع أن زعماء حزب الاستقلال والشورى يقامرون على جواد خاسر. محمد عبدالكريم الخطابي استعصى على المستعمر ترويضه وإغراؤه ببريق كرسي الحكم. أبى إلا أن يبقى وفيا لمبدئه الإنساني، ووفيا لروح الشهداء الذين قضوا نحبهم في جبال الريف والجنوب مدافعين عن كرامة الإنسان المغربي وحريته!
لم يهزمنا المستعمر، بل هزمتنا القابلية للاستعمار المتغلغلة في نفس النخبة المحسوبة على الثقافة والسياسة. القابلية للاستعمار لعبة قذرة يديرها المستعمر بإتقان ونفس طويلة عبر مؤسسات وهيئات فكرية وتبشيرية ضخمة، تؤهل الإنسان المستعمَر لخدمة سيده المستعمِر بكل تفان وإتقان!
فالمشكلة داخلية بالدرجة الأولى وليست مشكلة الاستعمار كما يظن كثير من المسلمين، ويرجعون سبب تخلفهم وضعفهم وقلة حيلتهم إلى الاستعمار، لكن الباحث الاجتماعي الجزائري أراد أن يرجع المشكلة إلى أصولها المغيبة عن الذهن، ويردها إلى سببها الأول وهو “القابلية للاستعمار”، أي إلى الخسائر التي ألحقناها بأنفسنا قبل أن نتحدث عن الخسائر التي ألحقها بنا الآخرون… من صادق على وثيقة الاستقلال التي صاغتها فرنسا بعناية ومكيدة؟ أليس مسؤولو حزب الاستقلال هم من وقعوا على تلك الوثيقة مقابل توليهم شؤون إدارة البلاد؟! لم نر من هؤلاء الموقعين ومن صار على شاكلتهم بعد الاستقلال (الاحتقلال كما يسميه الخطابي) إلا الفساد والاستبداد وجر البلد إلى الهاوية! ينهبون ثروات الشعب ويعبثون بالمال العام ولا أحد يقول: اللهم إن هذا منكر! ومن يجرأ على هذا القول يكون مآله التشويه والمتابعة والسجن والشك في ولائه للوطن!..
رحم الله الخطابي وكل من صار على دربه من الشرفاء والمخلصين! جاهدوا وناضلوا من أجل كرامة الإنسان وحريته، قدموا حياتهم قربانا في سبيل نشر الخير وإحقاق الحق. “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا”. هذه الآية في سورة الأحزاب نزلت من أعلى العليين تزكي عمل هؤلاء المجاهدين المكافحين والمنافحين عن كرامة الإنسان. أما المثبطون وأصحاب الأهواء والمفسدون والمستبدون فمآلهم الزوال مهما طال الزمن!