في كتابه “وداعاً للحلم الأمريكي”، يقدم نعوم تشومسكي تشريحًا عميقًا للنظام الاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة، مُظهراً كيف انقلب هذا الحلم الذي كان رمزًا للأمل والفرص، إلى واقع يرسخ الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لكن، ما الذي جعل هذا التحول ممكنًا؟ كيف تلاشت آمال الطبقة الوسطى الأمريكية لتصبح السلطة مركزة في أيدي قلة من النخب؟ وما هي العوامل التي أسهمت في تآكل تلك القيم التي شكلت الحلم الأمريكي؟ هذه الأسئلة تشكل المحور الرئيسي لتحليل تشومسكي، الذي يعرض من خلاله عشر مبادئ أساسية شكلت نظامًا اقتصاديًا يسعى إلى تكريس الفوارق الاجتماعية وتركيز السلطة.
السياق التاريخي والفلسفي للحلم الأمريكي
في بداية القرن العشرين، كان الحلم الأمريكي يعبر عن تصور مثالي للمجتمع، حيث تكافؤ الفرص هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها حياة كل فرد. كان هذا الحلم يشمل رؤية تفاؤلية لحياة أفضل، حيث يُمكن لأي شخص، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية أو الاقتصادية، أن يحقق النجاح من خلال العمل الجاد والإصرار. كان هذا التصور مغروساً في العقل الجمعي للأمريكيين، إذ شكلت قصص النجاح الفردية وأسطورة “الرجل العصامي” جوهر الهوية الأمريكية.
ولكن، مع تطور الأحداث السياسية والاقتصادية، بدأ هذا الحلم يتحول تدريجيًا إلى سراب، حيث تزايدت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبدأت النخب الاقتصادية تفرض سيطرتها على مؤسسات الدولة. هذا التحول يعكس انحداراً من مرحلة كان فيها الحلم الأمريكي مرتبطًا بمفاهيم العدالة والمساواة، إلى مرحلة بات فيها هذا الحلم وسيلة لتبرير الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية للنخب.
تشومسكي والمبادئ العشرة لتركيز الثروة والسلطة
يشير تشومسكي إلى أن هناك عشرة مبادئ أساسية عملت على تحويل النظام الأمريكي إلى نظام يرسخ اللامساواة ويقوض الديمقراطية. هذه المبادئ لا تعمل بشكل منفصل، بل تتداخل وتتكامل لتشكيل بنية نظامية تضمن استمرار هيمنة النخب على حساب باقي المجتمع.
- تقليص الديمقراطية
يرى تشومسكي أن القوى الاقتصادية الكبرى تسعى دائمًا إلى تقليص الديمقراطية عبر تهميش دور الحكومة المنتخبة، بحيث يتم استبدال الإرادة الشعبية بمصالح النخب الاقتصادية. يتجلى هذا التقليص في سياسات تتجه نحو إضعاف دور المؤسسات الديمقراطية التي كانت في السابق صمام الأمان لحماية مصالح الشعب.
- تشكيل الأيديولوجيا
بحسب تشومسكي، فإن وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية أصبحت أدوات قوية لنشر أيديولوجيات تخدم النظام القائم. من خلال الترويج لفكرة “السوق الحر” كآلية لا غنى عنها لتحقيق التقدم، يتم تهميش البدائل المحتملة التي قد تعطي الأولوية للمساواة الاجتماعية والعدالة. يشير تشومسكي إلى أن هذه المؤسسات تعمل على تشويه الوعي العام، مما يجعل من الصعب على المواطنين إدراك طبيعة التلاعب الذي يتعرضون له.
- إعادة تصميم الاقتصاد
يشرح تشومسكي كيف تحولت الولايات المتحدة من اقتصاد صناعي يُركز على الإنتاج إلى اقتصاد خدماتي يتمحور حول قطاع مالي يسيطر عليه عدد قليل من الشركات الكبرى. هذا التحول لم يكن عشوائيًا، بل كان جزءًا من خطة ممنهجة لتعزيز مصالح النخب الاقتصادية على حساب العمال والطبقات الوسطى. تم تقليص دور القطاع الصناعي لصالح القطاع المالي، مما أدى إلى تقليص فرص العمل ذات الأجور المرتفعة وزيادة الاعتماد على وظائف منخفضة الأجر وغير مستقرة.
- تحويل العبء إلى الفقراء والطبقات الوسطى
في هذا السياق، يوضح تشومسكي أن السياسات الاقتصادية باتت تصب في صالح الأغنياء، حيث يُطلب من الفقراء والطبقة الوسطى تحمل الجزء الأكبر من العبء الضريبي. يرى تشومسكي أن الحكومات تعمل على تخفيض الضرائب على الأثرياء بينما تضيق الخناق على الفئات الأكثر هشاشة من خلال تقليص الخدمات الاجتماعية وزيادة الضرائب غير المباشرة التي تؤثر بشكل غير متناسب على الفقراء.
- مهاجمة التضامن الاجتماعي
يستعرض تشومسكي كيف أن النخب الاقتصادية تسعى لتفكيك التضامن الاجتماعي من خلال تعزيز الفردية والمنافسة. في هذا الإطار، يصبح الناس أقل استعدادًا للتعاون والتضامن مع بعضهم البعض، مما يسهم في تآكل الروابط الاجتماعية التي تشكل الأساس لأي حركة جماعية تهدف إلى التغيير. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إضعاف المجتمع ككل، بحيث يصبح عاجزًا عن مقاومة هيمنة النخب.
- ترك المصالح الخاصة تدير الجهات التنظيمية
ظاهرة “الباب الدوار”، حيث ينتقل الأفراد بين المناصب الحكومية والشركات الكبرى، تمثل أحد أكثر مظاهر الفساد المؤسسي الذي ينتقده تشومسكي. هذا التداخل بين القطاعين العام والخاص يؤدي إلى هيمنة المصالح الخاصة على السياسات العامة، مما يضمن أن تظل التشريعات والنظم التنظيمية متوافقة مع مصالح النخب الاقتصادية، حتى لو كانت على حساب المصلحة العامة.
- هندسة نتائج الانتخابات
يشير تشومسكي إلى أن هناك محاولات متعمدة للتلاعب بنتائج الانتخابات لضمان فوز المرشحين الذين يخدمون مصالح النخب. هذه الممارسات تتجلى في التلاعب بالدوائر الانتخابية وتقييد حقوق التصويت، مما يؤدي إلى تقليص فرص التمثيل الحقيقي للشعب في النظام السياسي.
- استخدام الخوف وقوة الدولة للسيطرة على الشعب
الخوف، كما يرى تشومسكي، هو أداة فعالة تستخدمها الدولة لقمع الشعب. سواء كان الخوف من الإرهاب أو من الأزمات الاقتصادية، يتم استغلال هذا الشعور لتبرير سياسات قمعية تقلص الحريات وتقوض الحقوق الديمقراطية. هذا الاستخدام الممنهج للخوف يعزز من قبضة الدولة على المجتمع، ويحول دون حدوث أي مقاومة فعلية للنظام القائم.
- تصنيع الرضا العام
واحدة من أكثر الاستراتيجيات فعالية في الحفاظ على الوضع الراهن هي التحكم في الخطاب العام من خلال وسائل الإعلام. بحسب تشومسكي، يتم توجيه الرأي العام نحو قبول السياسات التي تخدم مصالح النخبة، بحيث يصبح الناس راضين بوضعهم الحالي وغير مدركين للبدائل الممكنة. هذه السيطرة على الوعي العام تجعل من الصعب على الشعب تنظيم حركات احتجاجية فعالة.
- تهميش السكان
تشير تحليلات تشومسكي إلى أن تهميش شرائح كبيرة من السكان، خاصة الفقراء والأقليات، يسهم في خلق فجوة اجتماعية واقتصادية ضخمة. هذا التهميش لا يؤدي فقط إلى تزايد الاستقطاب الاجتماعي، بل يضعف من قدرة المجتمع على تحقيق التوازن وإصلاح النظام.
نقد وتحليل
بينما يقدم تشومسكي تحليلاً نقدياً دقيقاً للواقع الأمريكي، تثار العديد من التساؤلات حول مدى دقة توصيفه للوضع الراهن. هل يمكن تعميم هذه المبادئ على النظام الأمريكي بأكمله، أم أن هناك استثناءات يجب أخذها بعين الاعتبار؟ وهل هذه التحولات نتيجة حتمية للرأسمالية النيوليبرالية، أم أنها ناجمة عن سياسات معينة يمكن تصحيحها؟
تشومسكي يضع النقاط على الحروف عندما يتعلق الأمر بانتقاد النظام النيوليبرالي الذي يسيطر على الولايات المتحدة، لكنه لا يقدم حلولًا تفصيلية لكيفية معالجة هذه القضايا. بالرغم من ذلك، يُعد كتابه “وداعاً للحلم الأمريكي” دعوة قوية لإعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي والسياسي الأمريكي.
المقاومة الممكنة
على الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها تشومسكي، إلا أن هناك إشارات إلى وجود حركات اجتماعية وسياسية تسعى لمواجهة هذه الاتجاهات. حركة “احتلوا وول ستريت” وحملة “بيرني ساندرز” تُظهِر أن هناك مقاومة فعلية لتلك المبادئ التي تحدث عنها تشومسكي. هذه الحركات، بالرغم من محدودية تأثيرها حتى الآن، تُظهر أن هناك وعيًا متزايدًا بين الناس حول طبيعة النظام النيوليبرالي والرغبة في تغييره.
ولكن السؤال الذي يطرحه تشومسكي، والذي يبقى مفتوحًا، هو: هل هذه المقاومة قادرة على إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام؟ أم أن النظام قوي بما يكفي لامتصاص هذه الاحتجاجات وإعادة تدويرها في إطار يخدم مصالحه؟
المستقبل والتوقعات
تشومسكي يحذر من أن استمرار تطبيق هذه المبادئ قد يؤدي إلى مزيد من التدهور في المجتمع الأمريكي. إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فعالة لمعالجة هذه القضايا، فقد نشهد مزيدًا من تركيز الثروة والسلطة في أيدي النخبة، مما سيؤدي إلى تصاعد حدة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي.
في الختام، يتضح أن نعوم تشومسكي في “وداعاً للحلم الأمريكي” يقدم تحليلاً نقدياً حاداً للنظام النيوليبرالي الأمريكي، مسلطاً الضوء على كيفية تآكل الحلم الذي كان رمزاً للعدالة والفرص المتساوية. في هذا السياق، يصبح من الواضح أن الحفاظ على القيم الديمقراطية يتطلب وعيًا نقديًا وإرادة جماعية لمواجهة النظام القائم. إن إدراك طبيعة هذه التحولات ليس نهاية المطاف، بل هو بداية الطريق نحو بناء بدائل حقيقية تعيد إحياء الحلم الأمريكي بمعناه الأصيل – حلم يعتمد على العدالة والمساواة والفرص المتاحة للجميع.
(يتبع)