من سنن الله وآياته حينما تعصف بالأمة الإسلامية رياح التحديات، ويكاد النور ينطفئ في لياليها الحالكة، يظهر من بين سهولها وجبالها رجال صادقون ينبعثون من الركام، يذكّروننا بأمجاد الأوائل وروحهم التي لا تنكسر. في غزة، تلك البقعة الطاهرة من أرض فلسطين، يبرز المرابطون كحماة للعقيدة، وأبطال يعيدون صياغة وتجديد مفهوم الجهاد في زمن كادت فيه هذه العقيدة الكريمة أن تندثر تحت وطأة الحملات الصليبية والعلمانية.
كما أشار الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن، فإن أبعاد “طوفان الأقصى” تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية للأمة إلى العالم كله، لأن الفعل المقاوِم بات يتطلب في زمن ما بعد الطوفان الانتماء إلى العالم. وأضاف أستاذ المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق، ومؤلف كتاب “روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”، أنه لما ظهر أن الطوفان، من حيث كونه تجريفا للشر المطلق، هو السبيل الذي يوصّل إلى التحرر الأمثل، فقد لزم أن تكون “المقاومة الطوفانية” حركة تحررٍ للإنسان عامة أو حركة تحرير للعالم كله، حتى ولو بدت في الظاهر حركة تحرر لشعب مخصوص أو حركة تحرير لأرض مخصوصة.(الجزيرة نت).
وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “مَن ماتَ ولم يغزُ، ولم يُحَدِّثْ به نفسه، ماتَ على شُعبةٍ من نفاق” (رواه مسلم). هذا الحديث يوضح أهمية الجهاد في الإسلام، وأنه ليس مجرد فعل مادي، بل هو نية وعزم في القلب للدفاع عن الدين والوطن.
لقد كان الجهاد على مر العصور ركنًا أساسيًا من أركان الدفاع عن الأمة، وميدانًا تُسترد فيه الكرامة، وتُرفع فيه راية العدل. وقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم” (الأنفال: 60). ولكن مع توالي الأيام وتقلب الأحوال، بدأت هذه المفاهيم تتلاشى تحت وطأة الضغوطات الخارجية والداخلية، وتكاد تختفي من القلوب والعقول. إلا أن المرابطين في غزة أعادوا إحياء هذا المفهوم بروح جديدة، وإرادة صلبة، فعاد الجهاد إلى مكانته السامية كأحد أعظم الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله.
ولم يكن دور المرابطين مقتصرًا على الدفاع بالسلاح، بل كان لهم دور عظيم في تعزيز الوعي الإسلامي وترسيخ المبادئ الصحيحة. فهم لم يكونوا مجرد مقاتلين، بل كانوا معلمين وأدباء، يكتبون بدمائهم صفحات من العزة والكرامة، ويذكّرون الأمة بمعاني الجهاد الحقيقية، بعيدًا عن التشويه والتحريف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رِباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها”(رواه البخاري).
إن تضحيات المرابطين في غزة ليست مجرد أفعال عابرة، بل هي رمزٌ يُقتدى به للأجيال الحالية والمستقبلية. هم يعلّموننا أن الجهاد ليس عدوانًا، بل هو دفاع عن الحق، واسترداد للكرامة المسلوبة. إنهم يُظهرون للأمة أن الجهاد هو نضال مستمر من أجل العدالة، وهو طريق شاق يحتاج إلى صبر وصمود. قال الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”(آل عمران: 200).
وقد روى الحاكم النيسابوري عن معاذ بن جبل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فقال لي: *”إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه”* قال: قلت: أجل يا رسول الله قال: “أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد”*. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الإمام ابن عبد البر في “الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء” ص 75: “حدثنا محمد بن إبراهيم، قال نامحمد بن أحمد بن يحي، قال نامحمد بن أيوب الرقي، قال سمعت أبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار يقول: سمعت عبد الملك بن عبد الحميد الميموني يقول: كنت عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل وجرى ذكر الشافعي، قال: فرأيت أحمد يرفعه ويرفع به، فقال: بلغني أو قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها، قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى”*. وجاء في “ترتيب المدارك” للقاضي عياض في ترجمة الإمام الشافعي رضي الله عنه: “قال أحمد – بن حنبل – : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يبعث الله لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة رجلا يقيم لها أمر دينها”(مجلة دعوة الحق / عبد الفتاح أبو غدة / العدد 242 ربيع1- نونبر 1984، موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب).
وبالفعل، يمكننا أن نرى في المرابطين في غزة تجسيدًا لهذا الحديث النبوي الشريف. فإنهم يجددون للأمة دينها ويعيدون لها الروح الجهادية التي كادت أن تندثر. إنهم يذكّروننا بعظمة الإسلام وبتضحيات الأوائل الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله. وفي هذا السياق، نستذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”(رواه أبو داود).
وعلى مر الزمان، سيبقى المرابطون في غزة منارة تهدي الحائرين، ونموذجًا حيًا يُقتدى به في كل مكان وزمان. إن إسهامهم في إعادة إحياء وتجديد مفهوم الجهاد هو فضل عظيم لا يُنسى، فهو يذكّر الأمة بمجدها وعزتها، ويعيد إليها الروح الجهادية التي لا تنكسر.
في زمننا هذا، حينما تشتد المحن وتتزايد التحديات، يحتاج العالم الإسلامي إلى أمثال هؤلاء المرابطين الذين يذودون عن عقيدتهم بأرواحهم، ويرفعون راية الحق عالياً. فتحية إجلال وإكبار للمرابطين في غزة، هؤلاء الأبطال الذين يُعيدون للأمة الإسلامية مجدها وعزتها، ويُحيون فيها روح الجهاد والنضال من أجل الحق والكرامة.
إن المرابطين في غزة، بهذا المعنى، ليسوا فقط أبطالًا لأرضهم وشعبهم، بل هم أبطالٌ للعالم بأسره، يجسدون روح المقاومة والتحرر التي تتخطى الحدود والجغرافيا، ليصبحوا مثالًا ونموذجًا لكل من يناضل من أجل الحرية والكرامة في أي مكان على وجه الأرض.