لقد اعتنى ابن خلدون في مقدمته ببيان أن المجتمعات البشرية تتغير وتتبدل عبر الزمن بفعل عوامل متعددة منها الاجتماعية والثقافية والسياسية. هذه التحولات تنعكس بشكل جلي في الأذواق والقيم السائدة داخل كل مجتمع. ومن بين القضايا التي تشهد تناقضاً وتغيراً كبيراً عبر العصور هي قضية المثلية الجنسية وتقبلها أو رفضها من قبل المجتمعات المختلفة.
النموذج الفرنسي والأدب الكلاسيكي
في نهاية القرن التاسع عشر، كان الكاتب الفرنسي مارسيل بروست يقرأ الترجمة الفرنسية لألف ليلة وليلة، والتي كانت منقوصة من الحكايات الجنسية والمثلية. يعكس هذا التوجه رفض المجتمع الفرنسي آنذاك لمثل هذه المواضيع واعتبارها جريمة ودعوة للرذيلة. وفي مقابل ذلك، كانت تلك الحكايات تُقرأ علانية في المجتمعات الإسلامية، مما يبرز الفرق في الأذواق والقيم بين الثقافتين. وفقاً لموسوعة الأدب الفرنسي (صفحة 214)، كانت الرقابة الأدبية آنذاك تعكس القيم الأخلاقية السائدة التي كانت تستمد قوتها من التعاليم الدينية والأعراف الاجتماعية الصارمة.
الجاحظ وكتابه “مفاخرة الجواري والغلمان”
في القرن التاسع الميلادي، كتب الجاحظ كتابه “مفاخرة الجواري والغلمان”، الذي يتناول مناظرة بين فقيهين حول تفضيل كل منهما لجنس معين. في ذلك الزمن، كان مثل هذا النقاش يعتبر عادياً ومقبولاً في العالم الإسلامي. ومع مرور الزمن، تغيرت القيم والمعايير، وأصبح من الصعب تخيل وجود مثل هذا الكتاب في المجتمعات الإسلامية الحديثة، حيث تُعتبر هذه المواضيع محرمة وغير مقبولة. وكما جاء في دراسات عن الأدب العربي (صفحة 98)، كانت المجتمعات الإسلامية القديمة تتعامل مع قضايا الجنس والمثلية بطريقة أكثر انفتاحاً من بعض المجتمعات الحديثة.
الحضارة الإغريقية وأفلاطون
في الحضارة الإغريقية، كان كتاب “الوليمة” لأفلاطون يُعد جزءاً من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية. يناقش أفلاطون في هذا الكتاب حوارات عن الحب بين الأصدقاء، ومن أبرزها حوار ألسيبياديس، الذي يعبر فيه عن شغفه وحبه لسقراط. كانت العلاقات الإيروتيكية بين الرجال تُعتبر من أعلى درجات الصداقة والقرب. ومع ذلك، شهد الغرب المسيحي، الذي يعتبر الحضارة الإغريقية جزءاً من هويته الثقافية، تحولاً كبيراً، حيث أصبح من أشد المعارضين للمثلية الجنسية لعدة قرون، قبل أن ينقلب الزمن ويصبح متسامحاً معها. هذا ما تم تأكيده في كتاب “الفكر الإغريقي” (صفحة 45) والذي يتناول التحولات الفلسفية والاجتماعية في التاريخ الإغريقي.
حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس 2024
في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس 2024، شهدنا عروضاً تحتفي بالهوية المتحولة والمثلية، مما يعكس تحولاً جذرياً في القيم الثقافية في المجتمعات الغربية. كان من بين المشاركين في هذا الحدث ملكة السحب التي حملت الشعلة الأولمبية، في خطوة غير مسبوقة تعكس التزاماً جديداً بالاحتفاء بالتنوع وقبول الآخر. وفقاً لتقرير مجلة الرياضة العالمية (صفحة 112)، تمثل هذه الخطوة جزءاً من الجهود المبذولة لتعزيز حقوق الإنسان والمساواة.
الحكم الشرعي من منظور فتاوى الأزهر
من الناحية الشرعية، تنظر فتاوى الأزهر إلى المثلية الجنسية على أنها حرام شرعاً. يحدد الإسلام العلاقة الزوجية بأنها بين رجل وامرأة، ويعتبر أي علاقة جنسية خارج هذا الإطار غير مقبولة دينياً. يؤكد الأزهر أن المثلية تتعارض مع تعاليم الإسلام والقيم الأخلاقية التي يدعو إليها. ويستند الأزهر في فتواه إلى الأدلة القرآنية والسنة النبوية، حيث يُعتبر السلوك المثلي مخالفة للشريعة الإسلامية. وفقاً لكتاب “الفتاوى الشرعية للأزهر” (صفحة 321)، تُعتبر المثلية انتهاكاً للقيم الدينية والأخلاقية.
التحولات الاجتماعية وفق منهج ابن خلدون
ابن خلدون يوضح في مقدمته أن المجتمعات تتغير بفعل العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية. ويشير إلى أن العادات والتقاليد تتبدل مع تغير أنماط الحياة وظهور حاجات جديدة. في هذا السياق، يمكننا فهم كيف تتغير النظرة إلى المثلية الجنسية في المجتمع الغربي المعاصر مقارنة بالمجتمعات الإسلامية القديمة والحديثة. كما جاء في “مقدمة ابن خلدون” (صفحة 145)، فإن تغير القيم هو نتيجة لتفاعل معقد بين البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
إن دراسة التغيرات في الأذواق والقيم عبر التاريخ تساعدنا على فهم تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية على ما يُعتبر مقبولاً أو مرفوضاً في أي مجتمع. يبرز لنا منهج ابن خلدون في تحليل هذه التحولات كيف تتغير المبادئ والقيم مع مرور الزمن. ومع ذلك، تظل الأحكام الشرعية ثابتة فيما يخص القضايا الأخلاقية، حيث يُعتبر المثلية الجنسية حراماً في الشريعة الإسلامية وفقاً لفتاوى الأزهر.
[تنويه: الموضوع اثاره الصحفي عبد الله ترابي بصفحته على فيسبوك وأخذت من تدوينته بعض المعلومات]