بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه، وبعد:
سأعكف بتوفيق الله – قراءنا الكرام – في هذه الزاوية الروحية على بث بعض ما قرأته وتعلمته من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسير الصالحين من السلف والخلف، أطمح من خلالها أن أبعث في أرواحنا ما يجدد صفاءها الذي خُلقت عليه، بعيدا عن مواطن الجدل، وإن كنت سأعتذر عن ذكر المصادر وعناوين الكتب باستثناء القرآن الكريم والأحاديث المسندة، لضرورة الاختصار، وإنما يشفع لي نباهة القارئ وحسن ظنه، وأن الغاية إيصال المعنى، وقد أضع كلماتٍ ونصوصاً بين معقوفتين لأشير بذلك إلى أنها ليست لي، وإذا سهيت فاعذروني، وما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي، وأول ما أبثه لكم في هذه الأسطر محاولة لشرح معنى قوله تعالى: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ” [الآية 18/سورة النحل].
فهذه الآية الكريمة تبين لنا أنه مهما كانت هذه النعمة بسيطة في نظرك فإنك ستعجز عن إحصائها، وجمع مصادرها، والمعنى هنا يخرج عن دلالته اللغوية في حكم المفرد والجمع، إلى البيان الرباني والإعجاز البلاغي، إذ تخبرنا أن النعمة الواحدة أيا كانت، لها ارتباط بكل شيء في الكون، حتى هذا النفس الذي تستنشقه كل حين إذا قرأت ما يقوله العلماء المختصون عن مركباته ومكوناته وأين يذهب بعد أن تخرجه من رأتيك، وما ساهم في هذه العملية، ستجد أنه لا قدرة لك على إحصائها، حبة الزيتون هذه التي تضعها في فمك خذ ورقة واكتب سيرتها الذاتية، من زرعها وأين وكيف نمت وبماذا سقيت، من أين جاءت وكيف وصلت إليك ومن ساهم في ايصالها.. لن تتوقف عن إحصاء سجلها. وهنا يوضح لنا الباري في آيات أخرى في معنى تسخير الله سبحانه لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه. “وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الآية 13 /سورة الجاثية] ، لذلك أمرنا أن نسمي الله عند المأكل والمشرب وفي كل حركة وسكنة، ونشكر فضله وكرمه علينا، فهو وحده المنعم ذو الجلال والإكرام. قال سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ” [ الآية (20) سورة لقمان ]. لذلك نجد كثيرا من الأحاديث النبوية تندبنا للمسارعة إلى الخيرات، شكرا لهذه النعم الظاهرة والباطنة. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ»، قَالَ: «تَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ، صَدَقَةٌ»، قَالَ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ. وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ. وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»، رواه مسلم وفي رواية للبخاري: «ودَلُّ الطريقِ صدقة» الحديث، والسُلَامَى: العظام التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان.
لذلك كان الصالحون يكثرون من فعل الخيرات، بل من أعظم أوصافهم وأكثرها تكرارا في القرآن الكريم: “الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، وما كثرتْ عباداتهم إلا معرفة بالله وشكرا على نعمه كما في البخاري عن المغيرة بن شعبة قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. الحديث. ومن أذكار الصباح والمساء: اللهم ما أصبح وأمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد والشكر.