منذ انطلاق مسار المقاومة الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني، ظهرت العديد من المحاولات لتأطير الصراع من زوايا مختلفة، بعضها يتعامل مع هذا الصراع وكأنه مجرد خلاف سياسي أو جغرافي بين طرفين متكافئين، بينما هو في جوهره صراع جذري بين حركة استعمارية إحلالية عنصرية وشعب يسعى لتحرير أرضه واستعادة حقوقه المشروعة.
من بين هذه المحاولات، تلك التي أوردها الأستاذ الكبير محمد جلول، الذي يقضي اليوم 2670 يوماً في السجن ظلما وعدوانا اضافة الى خمس سنوات قبلها، حيث يقارن الأستاذ بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقائد حركة حماس يحيى السنوار.
في هذا المقال، سنسعى لتحليل هذه المقارنة وتفكيك افتراضاتها بشكل نقدي ولست في مقام أستاذنا جلول، لكنه جواب تفاعلي، وفق الأسلوب التحليلي الذي يتميز به أستاذنا نفسه. سنتناول في جوابنا الذي يتفق مع كثير منه الاستاذ في رسائله ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، تفنيد الفرضيات الأساسية التي تقوم عليها المقارنة بين نتنياهو والسنوار. ثانياً، وضع الصراع لفلسطيني – الإسرائيلي في سياقه التاريخي الحقيقي. وأخيراً، إبراز طبيعة المقاومة الفلسطينية ودورها في مواجهة المشروع الصهيوني، وتأثير ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية.
المحور الأول: تفنيد المقارنة بين نتنياهو والسنوار
المقارنة التي يقدمها الأستاذ جلول بين بنيامين نتنياهو ويحيى السنوار تعتمد على افتراض أن كلا الرجلين يقفان في مواقف متشابهة من الصراع، وأنهما مسؤولان بشكل متساوٍ عن استمرارية الحروب وسفك الدماء. هذه المقارنة، على الرغم من أن لها جاذبيتها السطحية، إلا أنها تغفل جوهر الصراع وتعيد إنتاج نموذج “الضحية والمعتدي المتكافئين” الذي يسعى إلى تجريد الصراع من مضمونه التاريخي والسياسي الحقيقي.
أولاً: نتنياهو – قائد احتلال وحكومة عنصرية
نتنياهو لا يمثل مجرد زعيم سياسي لإسرائيل، بل هو قائد لمشروع استيطاني استعماري إحلالي. من خلال سنوات حكمه الطويلة، لم يعمل سوى على تعزيز سياسات الاستيطان، وفرض نظام الأبارتهايد على الفلسطينيين سواء داخل الأراضي المحتلة عام 1967 أو في الداخل الفلسطيني. تحت قيادته، تمارس إسرائيل سياسات ممنهجة من الإبادة البطيئة، سواء من خلال الحصار الخانق على غزة، أو الهجمات العسكرية المتكررة، أو التهجير القسري للفلسطينيين.
الجرائم التي تُرتكب تحت قيادته هي جزء من استراتيجية دولة استعمارية تهدف إلى محو الهوية الفلسطينية وفرض واقع جديد بالقوة. سياسة “الأرض المحروقة” التي تعتمدها حكومته تجاه الفلسطينيين هي استمرار لنهج استيطاني طويل بدأ منذ تأسيس الكيان الصهيوني.
ثانياً: السنوار – قائد مقاومة شرعية
في المقابل، يحيى السنوار يمثل حركة مقاومة فلسطينية شرعية، تعمل في سياق النضال التحرري ضد احتلال عسكري وسياسي واقتصادي. من منظور القانون الدولي، فإن المقاومة ضد الاحتلال هي حق مشروع لكل شعب يعيش تحت الاحتلال، وهذا ما ينطبق على حالة المقاومة الفلسطينية. حماس، التي يقودها السنوار، هي جزء من هذا النضال، وليست مجرد “طرف في حرب”، بل حركة تحرر وطني تواجه نظامًا احتلاليًا عنصريًا.
إن مقارنة قائد حركة مقاومة شعبية بقائد احتلال استعماري هي محاولة لتشويه مفهوم المقاومة وخلق توازن زائف بين الطرفين. هذه المقارنة تتجاهل السياق الأساسي للصراع: أن المقاومة الفلسطينية هي رد فعل طبيعي على واقع الاحتلال والاستيطان والحصار.
المحور الثاني: الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في سياقه التاريخي
لفهم جذور هذا الصراع، لا بد من النظر إلى السياق التاريخي الذي أفضى إلى الوضع الحالي. المشروع الصهيوني، منذ بداياته، كان يهدف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، على حساب الشعب الفلسطيني الأصلي. عبر عقود طويلة من الاستعمار البريطاني والتهجير القسري والحروب المتتالية، تمكن الصهاينة من إقامة دولتهم على أنقاض المجتمع الفلسطيني. نكبة 1948 ليست فقط حدثاً عابراً في التاريخ الفلسطيني، بل هي المحور الذي يفسر كل ما تبعها من أحداث حتى يومنا هذا.
إسرائيل كمشروع استعماري
إسرائيل لم تكن أبداً دولة تقليدية تسعى للسلام والتعايش مع جيرانها. منذ البداية، كان المشروع الصهيوني يعتمد على إقصاء الفلسطينيين والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض. هذه السياسة لم تتغير عبر السنوات، بل تطورت لتشمل سياسات الأبارتهايد، وتهويد القدس، ومحاولة تدمير الهوية الفلسطينية بكل السبل الممكنة.
إن فهم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة: أننا أمام احتلال استيطاني إحلالي، وليس مجرد خلاف سياسي يمكن حله عبر المفاوضات أو التنازلات المتبادلة. هذا الاحتلال يهدف إلى إبادة الشعب الفلسطيني، ليس فقط من خلال القتل المباشر، ولكن أيضاً عبر الحصار الاقتصادي والتجويع والتمييز العنصري الذي يُمارس ضدهم.
المقاومة الفلسطينية كجزء من النضال العالمي ضد الاستعمار
المقاومة الفلسطينية ليست حالة فريدة في التاريخ. على مر العصور، كانت الشعوب المستعمرة تقاوم الاحتلال والاستعمار بكل السبل المتاحة. من الجزائر إلى جنوب إفريقيا، كانت المقاومة المسلحة أحد أدوات الشعوب في مواجهة الاستعمار. حركات التحرر الوطني دائماً ما كانت تواجه اتهامات من قبل قوى الاستعمار بأنها “إرهابية” أو “متطرفة”، لكن التاريخ أثبت في النهاية أن المقاومة هي الطريق الشرعي لتحقيق الحرية والاستقلال.
المجتمع الدولي وتواطؤه مع الاحتلال
منذ عقود طويلة، أثبت المجتمع الدولي فشله في تقديم حل عادل للقضية الفلسطينية. قرارات الأمم المتحدة المتعددة التي تدين إسرائيل وتدعو إلى إنهاء الاحتلال ظلت حبراً على ورق، بينما تواصل إسرائيل سياساتها الاستيطانية بدعم واضح من القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذا التواطؤ الدولي يجعل من الصعب الحديث عن أي أفق سياسي لحل الصراع.
المحور الثالث: دور المقاومة الفلسطينية ومستقبل القضية
في ظل هذه الظروف، تظهر المقاومة الفلسطينية كخيار لا مفر منه. فبعد عقود من المفاوضات العقيمة، وتواطؤ المجتمع الدولي مع الاحتلال، لم يبق أمام الفلسطينيين سوى اللجوء إلى المقاومة من أجل الدفاع عن حقوقهم.
المقاومة المسلحة كخيار استراتيجي
السنوات الماضية أثبتت أن المقاومة المسلحة، رغم تكلفتها الباهظة، هي الخيار الوحيد الذي يُجبر إسرائيل على إعادة النظر في سياساتها. رغم التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق، فإن المقاومة الفلسطينية استطاعت فرض توازن رعب، وجعلت الاحتلال يدرك أن استمرارية الحصار والاحتلال لها تكلفة باهظة.
إسرائيل تعتمد على تفوقها العسكري والإعلامي لتصوير المقاومة الفلسطينية كعامل هدم للسلام، لكن الحقيقة هي أن الاحتلال هو المصدر الرئيسي للعنف في المنطقة. المقاومة، في جوهرها، تهدف إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة، وهي بالتالي جزء من حل الصراع وليس عقبة أمامه.
التحالفات الإقليمية والدولية
رغم كل محاولات إسرائيل لعزل المقاومة الفلسطينية، فإن الحركات الفلسطينية استطاعت بناء شبكة واسعة من التحالفات مع قوى إقليمية ودولية تدعم نضال الشعب الفلسطيني. إيران، وحزب الله، وتركيا، ودول أخرى قدمت دعماً سياسياً وعسكرياً للمقاومة، مما عزز قدرتها على الصمود في وجه الضغوط الإسرائيلية والدولية.
مستقبل المقاومة والقضية الفلسطينية
في ظل التغيرات الإقليمية والدولية، تواجه القضية الفلسطينية تحديات كبيرة، لكن المقاومة أثبتت أنها قادرة على التكيف مع هذه التغيرات. التطبيع العربي مع إسرائيل، رغم كونه ضربة للنضال الفلسطيني، إلا أنه لن يغير من جوهر الصراع. الشعب الفلسطيني يدرك جيداً أن حريته لن تأتي من قرارات الحكومات العربية، بل من خلال صموده ومقاومته.
الحلول الممكنة: نهاية الاحتلال أم استمرار المقاومة؟
في النهاية، يبقى السؤال الكبير: هل هناك أفق سياسي لإنهاء الصراع؟ طالما استمرت إسرائيل في سياساتها التوسعية، وطالما استمر المجتمع الدولي في تواطؤه، فإن المقاومة ستبقى الخيار الوحيد المتاح أمام الفلسطينيين. لكن هذا لا يعني أن الحل السياسي مستحيل. الحل الوحيد الذي يمكن أن يضع حداً لهذا الصراع هو إنهاء الاحتلال بشكل كامل، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
خاتمة: ضرورة قراءة أعمق للصراع
الرد على مقارنة الأستاذ جلول بين نتنياهو والسنوار يجب أن ينطلق من فهم جذري لحقيقة الصراع: أنه صراع بين حركة استعمارية وشعب محتل يسعى لاستعادة حقوقه. المقاومة الفلسطينية ليست عبثية أو سبباً لاستمرار الصراع، بل هي نتيجة طبيعية لوجود الاحتلال. الحل الوحيد يكمن في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين شُردوا من أرضهم. هذا الحل، رغم كونه بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، يظل هوالحل العادل الوحيد الذي يمكن أن ينهي دوامة العنف والاحتلال في المنطقة.
المقاومة كفعل سياسي وإستراتيجي
ما يجب على أي قارئ أو محلل للصراع أن يدركه هو أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد ردة فعل عاطفية أو غضب على الاحتلال، بل هي فعل سياسي منظم وله أهداف محددة. كل عملية تقوم بها المقاومة تحمل رسائل متعددة، ليس فقط لإسرائيل، ولكن أيضاً للمجتمع الدولي. عمليات المقاومة تسعى إلى:
- إفشال المشاريع الإسرائيلية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية: الحصار والاحتلال والاستيطان جميعها جزء من مشروع يهدف إلى فرض أمر واقع على الفلسطينيين وجعلهم يقبلون بأي تسوية. المقاومة تعطل هذه المشاريع وتثبت أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاوزها أو تهميشها.
- إعادة تعريف التوازن العسكري والسياسي: رغم الفارق الكبير في القوى العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، إلا أن الأخيرة تدرك أن تكلفة استمرار الاحتلال تزداد مع كل يوم. نجاح المقاومة في الحفاظ على قدرتها على الرد يعني أن إسرائيل لا تستطيع العيش بسلام دون حل الصراع.
- بناء خطاب جديد: المقاومة، عبر صمودها واستمراريتها، تبني خطاباً جديداً للشعب الفلسطيني، خطاباً يقوم على الثبات والكرامة ورفض الحلول الهزيلة. هذا الخطاب يتحدى محاولات التطبيع العربي ويعيد القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العربي والإسلامي.
أفق الصراع ومآلاته
يبدو أن المستقبل القريب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي سيظل مفتوحاً على عدة احتمالات، ولكن الأكيد أن المقاومة الفلسطينية ستظل ركيزة أساسية في أي حل مستقبلي. لا يمكن الحديث عن تسوية عادلة دون إشراك قوى المقاومة في أي حوار سياسي أو مفاوضات.
السنوات المقبلة قد تشهد تصعيدات عسكرية جديدة، ولكن في النهاية، لا يمكن لإسرائيل أن تستمر في استراتيجيتها الحالية إلى ما لا نهاية. من دون حل سياسي ينهي الاحتلال ويعترف بحقوق الفلسطينيين، سيظل الصراع مستمراً، وستظل المقاومة الفلسطينية تتطور وتتكيف مع التحديات الجديدة.
نحو رؤية إستراتيجية للمستقبل
ما تحتاجه المقاومة الفلسطينية في المرحلة المقبلة هو وضع رؤية إستراتيجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الإقليمية والدولية، وتستفيد من التحالفات الجديدة وتطور من أدواتها. كما أن بناء جبهة داخلية متماسكة على مستوى الفصائل الفلسطينية سيكون عنصراً حاسماً في تقوية المقاومة وتوسيع قاعدة دعمها الشعبي.
في الختام، تبقى القضية الفلسطينية أكبر من شخص نتنياهو أو السنوار، وأعمق من مجرد صراع سياسي بين شخصين أو فصيلين. هي قضية شعب يناضل من أجل حريته وكرامته، ولن يتمكن أي احتلال مهما بلغت قوته من إخضاعه. المقاومة هي حق شرعي وأخلاقي للشعب الفلسطيني، وستظل كذلك ما دام الاحتلال قائماً، وهي الأمل في استعادة الحقوق المسلوبة وبناء مستقبل حر وعادل لكل الفلسطينيين.