ما يقع في فرنسا كان منتظرا وسيتكرر في المستقبل إن لم تراجع فرنسا، ومؤسساتها ونخبها، سياستها ونظرتها إلى الآخر. فرنسا مثقلة بماض إستعماري إجرامي أليم تراكم عبر السنين. المؤسسة العسكرية والأمنية لعبت دورا محوريا في إنتاج هذا الماضي. حتى أن هذه الفرنسا عرفت بضباطها وجنرالاتها ( اليوطي، بيتان، دوغول، جوان…) أكثر مما عرفت بسياسييها. حتى أنك تحس أن هذه المؤسسات العسكرية والأمنية تشتغل بعقيدة وعقلية خاصة بها مهما كان لون الحكومة. هذه المؤسسة الأمنية قتلت الأبرياء أحياء بدون رحمة وزرعت فيهم حقدا لن يمحوه الدهر. هذه المؤسسة الأمنية عذبت المجاهدين والمكافحين في مشارق الأرض ومغاربها بشكل بشع وغريب مستعملة كل الاساليب البشعة والحاطة بكرامة الإنسان. ولم يكن هناك لا قضاء ولا عدالة تابعت هؤلاء القادة.
فرنسا أبعدت، déportation، وسجنت خارج حدودها (يعني حدود فرنسا) أكثر من 150 ألف أدمي. حملتهم مكبلين من بلدانهم الأصلية إلى زنازن غويانا وكاليدونيا الجديدة والهند الصينية. أكثر من 100 ألف من هؤلاء لقوا حتفهم في هذه الأماكن بدون قبور ولا أثر. 50-60 ألف سقطت وحدها في سجون غويانا، وتم رمي جثمانهم لكلاب البحر والأسماك المفترسة وذلك حتى يمحوا آثار الجريمة.
تخيل أن تخرج نقابة الشرطة الفرنسية يوم أمس ببيان تعلن من خلاله بالحرف :” ..نحن في حالة حرب:”. هذا البيان قرأه البارحة ميلونشون في برنامج حواري تلفزي، ليتساءل: كيف يعقل أن تعلن مؤسسة الأمن الحرب على الشعب أو على جزء منه؟ من يحكم هؤلاء؟ من يعطي لهم الأوامر؟؟. وهو يصرخ عاليا خلال البرنانج.
في نفس السياق كتبت جريدة لوموند لهذا اليوم 3 يوليوز ما يلي:”..هناك حقيقة مأساوية تضع فرنسا وجهاً لوجه بعنادها في عدم الإعتراف بالماضي الإستعماري العنيف. وتواصل فرنسا تهميش أجيال من المهاجرين، ورفضت، بالرغم من ولادتهم على أراضيها، أن يتمتع هؤلاء بجميع الحقوق.. “.
لم أتفاجئ، رغم تخيل بشاعة المشاهد، أن يصل الأمر بالمقاتلين الفيتناميين إلى تقطيع الجنود الفرنسيين إلى قطع صغيرة، كمن يحضر وجبة الطاجين، بل هناك من شرب دمهم، أثناء حرب التحرير في عدة معارك.
إنها ليست من الصدف أن تثار تشنجات أينما حل المسؤولون الفرنسيون حاليا وخاصة في إفريقيا.
ربما سيقال أن نفس الشيئ وقع مع فرانكو وهتلر وموسوليني وبينوشي وآخرين. وهو كذلك، لكن الفرق هو أن هؤلاء أعلنوا عن هويتهم كدول فاشية، بينما فرنسا قالت عن نفسها أنها فرنسا الحرية وحقوق الإنسان والإخاء والمساواة..
لماذا لم يقدم الإشتراكيون عندما كانوا في السلطة الإعتذار للأفارقة وشعوب أخرى؟ وهم يعترفون نظريا ببشاعة ماضيهم الاستعماري؟. شغايدير دابا الميت قدام غسالو، لأن بيان نقابة الشرطة يعني أمرين: إما أن الأمن يتحدى السياسيين والرئيس شخصيا، وإما أنهم متفقين جميعا على الحرب، وهذا مستبعد.
المهم لن يكون هناك أفق للتعايش إذا لم تقدم فرنسا اعتذارها على هذا الماضي الأليم والذي لا يتلاءم ورسالتها الحضارية بالنظر إلى إرثها الفكري والفلسفي والابداعي والحقوقي.
جمال الكتابي: فرنسا تحصد ماضيها الاستعماري
