دراسات : إسهام الطائفة اليهودية في تشكيل الثقافة المغربية

13 نوفمبر 2022
دراسات : إسهام الطائفة اليهودية في تشكيل الثقافة المغربية

قال الفاعل الثقافي محمد أكيام إن “التأريخ لتواجد المكون اليهودي بالمغرب يعتبر من بين القضايا التي تطرح إشكالات تاريخية كبرى، حيث يصعب الاستدلال على ذلك علميا، كما يصعب على أي مهتم بتاريخ اليهود بالمغرب التوصل لنتائج دقيقة تجيب عن مختلف الفرضيات المتعلقة بهذا التساؤل”.

وأضاف أكيام، في مقال له بعنوان “دراسات حول المكون الثقافي المغربي اليهودي”، أن “هجرة اليهود الأندلسيين كان لها تأثير كبير على يهود المغرب”، موضحا أنه “منذ بداية القرن السادس عشر بدأ عصر ازدهار اقتصادي ملحوظ، وشهد المجتمع فترات من الحركية، وصاحب هذا النمو الاقتصادي دينامية في المجال الثقافي؛ فحملات التهجير التي تعرض لها اليهود والمسلمون من أرض الأندلس، حيث أقامت جالية من اليهود الأندلسيين في المغرب، حاملة معها تراكما يهوديا مميزا في التأليف والغناء الموسيقي”.

وبعدما تطرق الباحث الثقافي إلى مجموعة من الدراسات التي استطاعت أن تعالج جوانب مختلفة من حياة المغاربة اليهود، ختم مقاله بالإشارة إلى أن ما يمكن استنتاجه من خلال هذه الدراسات المقدمة هو أنها استطاعت أن تعالج موضوع “تأثير الطائفة اليهودية على الثقافة المغربية” وفق مقاربات اجتمعت في طابعها الكيفي والتاريخي من حيث المنهجية المتبعة، وتوحدت من خلال نتائجها في أن التواجد اليهودي في المغرب يعود لزمن بعيد، وساهم بنصيب كبير في تشكيل الثقافة المغربية.

هذا نص المقال:

يعتبر التأريخ لتواجد المكون اليهودي بالمغرب من بين القضايا التي تطرح إشكالات تاريخية كبرى، حيث يصعب الاستدلال على ذلك علميا. كما يصعب على أي مهتم بتاريخ اليهود بالمغرب التوصل لنتائج دقيقة تجيب على مختلف الفرضيات المتعلقة بهذا التساؤل. لذلك، فإن مسألة التواجد اليهودي بالمغرب تثير العديد من التساؤلات؛ أهمها: هل ينحدر اليهود بالمغرب من أصول أجنبية وافدة؟ أم أنهم من أصل محلي وينتمون إلى الأراضي المغربية؟

للإجابة عن هذا التساؤل، يمكن الاستدلال ببعض المصادر التاريخية التي تثبت أن الطائفة اليهودية بالمغرب هي أول مجموعة غير أمازيغية وصلت إليه منذ حوالي 28 قرنا، أي بعد تدمير الهيكل الأول سنة 586 قبل الميلاد. وهذا الإثبات تؤكده بعض المصادر الأثرية المتمثلة في العثور على أحجار في مدينتي طنجة وفاس، والتي وضعها يوواب بن سوريا قائد جيش الملك داود عند دخوله المغرب، إثر تعقبه لنحبة من العائلات المشرقية الأصل؛ لكن اليهود في هذه المناطق يتميزون بالتحدث باللغة الأمازيغية، وأنهم يشبهون أساليب الأمازيغ في اللغة ونمط الحياة والعادات والتقاليد ولا يختلفون سوى في ممارسة الطقوس الدينية.

غير أن الحركية التي يبرزها التاريخ المغربي في حضور المكون اليهودي تعود إلى نهاية القرن الخامس عشر، جراء حملة الهجرة الواسعة الوافدة على المغرب من شمال البحر الأبيض المتوسط بعد طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال خصوصا خلال سنة 1492، نتيجة بسط السلطة المسيحية الجديدة هيمنتها على شبه جزيرة إيبيريا وتأسيس دولة تتمتع بسلطة مركزية من طرف فرديناند وإيزابيلا حيث شرع التأكد من ولاء السكان، وبدأ الاضطهاد المسيحي عبر مجموعة من الإجراءات من فرض ضرائب وتحريم زواج المسيحيات من اليهود ومنع إجراء الختان والذي كان من شعائر اليهودية. كما صدر قرار برجم وحرق كل من اعتنق غير المسيحية. فبعد أن تنصرت أعداد كبيرة من المسلمين واليهود كانت ثمة أعداد منهم لا تزال تمارس دينها سرا، مما دفع فرديناند إلى طرد المسلمين واليهود خارج الحدود.

وصل عشرات الآلاف من اليهود إلى أحياء تجمع اليهود التي تسمى باسم “الملاح” بمجموعة من المدن المغربية. وشكل يهود المغرب المقيمون والوافدون الجدد أو ما لقبوا بـ”السفارديم” (نسبة لكلمة “سفارد”؛ وهي اسم مدينة في آسيا الصغرى تم ربطها بإسبانيا عن طريق الخطأ، وأصبحت ابتداء من القرن الثامن الميلادي تطلق في العبرية للإشارة إلى إسبانيا) مجتمعين متمايزين، لكل منهما عاداته وقواعده الخاصة.

ومع ذلك، كان لهجرة اليهود الأندلسيين تأثير كبير على يهود المغرب؛ فمنذ بداية القرن السادس عشر بدأ عصر ازدهار اقتصادي ملحوظ وشهد المجتمع فترات من الحركية. صاحب هذا النمو الاقتصادي دينامية في المجال الثقافي، فحملات التهجير التي تعرض لها اليهود والمسلمون من أرض الأندلس أقامت جالية من اليهود الأندلسيين في المغرب، حاملة معها تراكما يهوديا مميزا في التأليف والغناء الموسيقي. فخلال العصور الوسطى، شارك “السفارديم” في الانتشار الإبداعي والثقافي للأندلس، التي اتسمت بسياق خصب متعدد الثقافات بين المسلم والمسيحي واليهودي، في مجالات الفلسفة والشعر والعلوم. وطوروا أيضا ثقافتهم الخاصة وطريقة حياتهم ولغتهم، اليهودية-الإسبانية؛ الشيء الذي ظهر بداية في فنون ذات أصول أندلسية. فـ”السفارديم” غادروا إسبانيا دون أية ممتلكات، لكنهم دخلوا المغرب محملين بتراث غير مادي متمثل في اللغة والثقافة وأيضا الموسيقى التي كانت تعتبر تقليدا ثقافيا مهما. مباشرة بعد وصولهم واستقرارهم، ساهم تلاقي اليهود المقيمين بالمغرب ويهود الأندلس في تطوير تقاليد الموسيقى الكلاسيكية الأندلسية. كما حافظ “السفارديم” على القصائد الرومانسية التي تعتبر الشكل الأكثر شعبية بالثقافة الإسبانية. وقد أثبتت مجموعة القصائد أنها ذات أهمية استثنائية لأصحاب الأصول الإسبانية بسبب طبيعتها القديمة وإخلاصها لمصادر القصائد القديمة. نتجت عن ذلك نشأة مدارس للغناء الأندلسي الذي تأثر بالمنطقة الأندلسية التي هاجروا منها.

وعليه، استطاعت مجموعة من الدراسات أن تعالج جوانب مختلفة من حياة المغاربة اليهود. نذكر منها دراسة متعلقة بـ”الحياة الاجتماعية ليهود المغرب، من منتصف القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين” للدكتورة عزي أنسي سيد، الأستاذة بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر المصرية، والتي طرحت إشكالية: “كيف هي الحياة الاجتماعية ليهود المغرب عبر تتبع أوضاعهم داخل المجتمع، ومدى تمتعهم بالحقوق وسط أغلبية من المسلمين، خلال الفترة الزمنية الممتدة بين القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟”. فنهجت الباحثة المنهج الكيفي التاريخي، واعتمدت على مجموعة من المصادر اليهودية كالمعاجم ودوائر المعارف العبرية “التلمود” مثلا، إضافة إلى مراجع باللغات العربية والعبرية والأجنبية، ثم من مواقع شبكة المعلومات الدولية.

وقد تمكنت هذه الدراسة من التوصل للعديد من النتائج، من أبرزها أن التواجد اليهودي في المغرب يعود إلى زمن بعيد، حيث كان عدد اليهود بالمغرب يشكلون أكبر نسبة مقارنة مع بقية بلدان العالم؛ فتمكنوا من الاندماج داخل المجتمع المغربي، ولم يظلوا فقط داخل أحياء خاصة بهم (الملاح)، وإنما تنقلوا خارجها فكانوا يتمتعون بالحرية في الإقامة أينما شاءوا. كما تخلص الدراسة إلى أنهم نجحوا في مواكبة كافة التغيرات، لاسيما في مجال التجارة وظهور العديد من العائلات اليهودية التي كان لها دور بارز مع القوى الأوروبية. نتيجة أخرى تمثلت في تمتع اليهود بالمغرب بحق المواطنة المغربية الكاملة، حيث كانوا يعاملون بوصفهم مواطنين مغاربة من الدرجة الأولى لا يختلفون عن بقية السكان، وأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع المغربي، وحظوا بالحماية الشخصية للملك الراحل محمد الخامس وابنه الملك الراحل الحسن الثاني. وامتلك يهود المغرب تراثا ثقافيا ممزوجا بالبيئة المغربية، لذا احتفلوا بأعيادهم المختلفة في شتى الأماكن وبحرية مطلقة. ويرجع ذلك إلى اندماجهم في المجتمع المغربي، والتواصل مع سائر السكان المسلمين، ويتضح ذلك في الاحتفال بـ”ميمونة” ومشاركة بعض المسلمين لهم. كما يتضح من البحث ارتباط يهود المغرب الشديد بوطنهم الأم (المغرب) واعتزازهم بهويتهم وتراثهم وثقافتهم المغربية، وحرصهم الشديد على نقل الكثير من أنماط حياتهم في المغرب إلى إسرائيل فيما بعد.

دراسة أخرى تتعلق بالبحث الذي أجراه الدكتور محمد الحداوي تحت عنوان: “من مظاهر تراث اليهود المغاربة في الحضارة المغربية”، والذي نشر سنة 2015 بدعم من مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي. وتجدر الإشارة إلى أن الحداوي، دكتور في التراث الموسيقي اليهودي في الغرب الإسلامي من جامعة باريس VIII تحت إشراف الأستاذ الأكاديمي “حاييم الزعفراني وأستاذ جامعي باحث مسؤول عن خلية التراث اليهودي المغربي بمديرية التراث التابعة لوزارة الثقافة المغربية سابقا، وله أبحاث ودراسات عديدة في مجال تخصصه. حدد الباحث إشكاليته في: “أين تتجلى أهمية مظاهر الإرث الحضاري المشترك بين اليهود والمسلمين كالتعايش العربي الإسلامي بالأندلس، وهجرة اليهود من الأندلس، وإبراز أهم الموسيقيين المغاربة اليهود وانتاجاتهم خلال القرن العشرين؟”. اعتمد الدكتور الحداوي في بحثه على منهجية كيفية تاريخية من خلال الاعتماد على العديد من المخطوطات والصور التاريخية، إضافة إلى مصادر ومراجع عربية وأجنبية. وخلصت الدراسة إلى أن العنصر اليهودي ساهم بنصيب كبير في تأسيس الحضارة المغربية الأندلسية. كما أن الدراسة استنتجت أن المكون اليهودي حافظ على تقاليده وعاداته وأعرافه، على الرغم من مختلف التواريخ التي مرت على المغرب ورغم توالي الأحداث. نتيجة أخرى توصلت لها الدراسة هي تلك المتعلقة بمحافظة المغاربة اليهود وإسهاماتهم الكبيرة في الميدان الفني الغنائي الأندلسي والغرناطي ومختلف الأزجال الشعبية. ليختم الدكتور الحداوي بحثه بتدوين مجموعة من القصائد التراثية وكلمات الأغاني الشعبية (حوالي ثلثي البحث) التي كان يغنيها رواد الأغنية المغاربة اليهود.

أما الدراسة الثالثة فهي حول موضوع: “الموسيقى اليهودية بالمغرب” للدكتور أحمد عيدون، الباحث المغربي في علوم الموسيقى. والتي تم دعمها (أي الدراسة) من طرف وزارة الثقافة المغربية ومجلس الجالية المغربية بالخارج. اعتمد الباحث في هذه الدراسة أيضا على المنهج الكيفي معتمدا على الجانب التاريخي والوثائقي، وعلى العديد من المراجع ذات الطابع التاريخي والصور التي تؤرخ لحقب زمنية مختلفة من تاريخ المغرب. إشكالية البحث تركزت في: “كيف ساهم المغاربة اليهود عبر موسيقاهم الدينية والدنيوية، في خلق رصيد موسيقي شكل مرجعا لمهما لبروز العديد من الأنماط الغنائية بالمغرب ؟”.

وخلص البحث إلى نتائج عديدة؛ أولاها أن تاريخ اليهود في المغرب على الرغم من أنه قد عرف العديد من الأحداث والوقائع فإن المغاربة اليهود ظلوا رافضين للتمثل والاقتلاع من الأصول المغربية. ثانيتها أن الطائفة اليهودية ساهمت في نقل الموسيقى التي امتدت إلى الأنواع الموسيقية الأمازيغية. ثالثتها أن العرب تعلموا الكثير من الموسيقيين والمغنين المتحدرين من أصول يهودية، إذ إن هناك أنواعا من الموسيقى يصعب تحديد مصدرها اليهودي من مصدرها العربي من جهة، أو تمييز التجديد في بصمة الاقتباس من جهة أخرى. رابعتها قد تم حمل الموسيقى اليهودية الدينية والدنيوية من قبل المطربين والموسيقيين الذين حافظت عليهم الذاكرة والذين بفضلهم استمرت الموسيقى حتى العصر الحديث. ومهما كان تم فصل السجلين الديني والدنيوي فمن الصعب تصنيف كل فنان باعتماد درجة هيمنة أحد النمطين على رصيده الفني.

ما يمكن استنتاجه من خلال هذه الدراسات المقدمة هو أنها استطاعت أن تعالج موضوع: “تأثير الطائفة اليهودية على الثقافة المغربية” وفق مقاربات اجتمعت في طابعها الكيفي والتاريخي من حيث المنهجية المتبعة. وتوحدت من خلال نتائجها في أن التواجد اليهودي في المغرب يعود إلى زمن بعيد، وساهم بنصيب كبير في تشكيل الثقافة المغربية، وأن المكون اليهودي حافظ على تقاليده وعاداته وأعرافه رغم اختلاف التواريخ التي مرت على المغرب ورغم توالي الأحداث. إضافة إلى أن المغاربة اليهود (عبر تسبيق الجنسية عن الديانة لأنهم مغاربة أولا ثم معتنقون لديانة ثانيا، أي وجب وصفهم بـ”مغاربة يهود” عوض “يهود مغاربة”) كانت لهم إسهامات كبيرة في الميدان الفني الغنائي عبر الموسيقى الدينية والدنيوية من قبل فنانات وفنانين حافظوا الذاكرة وبفضلهم استمرت الموسيقى حتى العصر الحديث؛ غير أن الملاحظ من خلال الدراسات الثلاث أن مقاربة موضوع المغاربة اليهود وتأثيرهم على الثقافة بالمغرب تمت معالجته من لدن حقول معرفية متباينة، تنمي إلى المنهج التاريخي أو الآداب أو الدراسات الثقافية إضافة إلى مجال علم الاجتماع المهتم بالجانب الثقافي والفني.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق