دردشة حول المغرب المتعدد

دردشة حول المغرب المتعدد
24 يناير 2023
فاطمة الزياني

كنت جالسة في غرفة مربعة صغيرة، أنتظر تعليمات صاحبة البيت. جالسة أتأمل حصانا جامحا في لوحة فنية معلقة قبالتي.
أخرجت بصري محاولة استكشاف معالم البيت. نادتني السيدة من مكان ما. قالت لي:
يمكن لك أن تتصرفي بكل حرية. البيت بيتك.
كانت تناديني: يا الريفية!. بعدها ملأت البيت بموسيقى إيقاعية لم يعجبني صخبها. دخل ابنها قادما من عمل ما. وجهه فحمي وأسنانه لبنية اللون. عانقني قائلا: نهار كبير هذا أخالتي .. وأكد لي أن أمه هاجر تحبني كثيرا. هل تحبني فعلا أم مجرد مجاملة؟ لست متأكدة من شيء. الولد يكلمني ويهز رأسه راقصا مستجيبا لنغمات الموسيقى. فجأة قام وبدأ يرقص. حسبته نمرا إنقض على فريسته يريد أن يلتهمها. نغمات گناوة . العشق الغير المشروط لهؤلاء المجاذيب المجانين. هاجر كانت قد بدأت الرقص قبله. يبدو لي جسدها في مرآة صغيرة مثبتة على جدار رواق يؤدي إلى غرفة نومها. ترقص وترقص. لا شيء يوقفها. إنها في عالم آخر . تسرب الخوف الى داخلي. سمعت جرس الباب. حاولت لفت نظريهما. إن أحدا ما يدق جرس الباب … ولا حياة لمن تنادي. قمت بنفسي. فتحت الباب. جاءت الأستاذة سهام المرأة الفاسية، الحادة الملامح حاملة محفظتها المليئة بالوثائق. كانت لديها قضية مصيرية في المحكمة. وقد حكت لي تفاصيل قضيتها وتعقيداتها. حينها قلت في نفسي: الحمد لله أنني أعيش في قرية يحكمها العرف أكثر مما يحكمها القانون.
جاءت بعدها نساء من مختلف المدن المغربية. كنت متميزة بينهن لأنني من الريف، مغلفة بقشرة من الخجل، لا أستطيع القفز على حواجز نفسية متراكمة في عمقي. وجدت صعوبة في الانسلاخ عن هويتي وعن تاريخي . وجدت نفسي أتأرجح بين الرغبة وعدم الرغبة. هل كان ذلك إيجابيا أم كان مجرد معيقات للاندماج والذوبان في هوية مشتركة ووطن واحد؟ لا أدري .
هاجر في المرآة. تطلق ما تبقى من عنانها للرقص. ابنها يتصبب عرقا. أحاديث ثنائية مقتضبة في الغرفة المربعة. أخذت هاتفي. بحثت عن كوثر. كنت قد سجلت اسمها بكوثر سمارة. امرأة هادئة، ترتدي اللحاف الصحراوي عبارة عن قطعة قماشية مزركشة. كانت قد حاولت أن تعلمنا ذات لقاء كيف ترتديه. كيف تلفه حول جسدها وترفع جزءا منه من الوراء على هامتها، لتسقط أطرافه على ساعديها. كانت تعلمنا ذلك بحركات يدوية خفيفة. لم نتعلم شيئا . صعب أن تتعلم أي امرأة غير صحراوية ارتداء ذلك الزي. ولا أن تقتنع به حتى.
اتصلت بكوثر السمارة. طلبت منها أن تلتحق بنا. كانت قد حكت لي عبر الهاتف بلهجتها البدوية الصحراوية التي لا أمل من سماعها، عن طلاقها من زوجها الرباطي السي محمد. قالت أن السي محمد هذا نزح الى الجنوب للعمل كموظف في وزارة ما وقد التقت به عندما كان يكتري بيتا من والدها. تعارفا وتزوجا . لكنه خانها مع زميلته في العمل. وانتهى بهما المطاف إلى الانفصال بعد أن تركت فيها مدة زواجهما كدمات نفسية لا تندمل.
جاءت كوثر بجسدها الملفوف بالإيزار . وجهها مبتسم. فرحت لرؤيتها. مع مرور الوقت ذاب الجليد الذي حملته من جبال الريف داخل صدري. الجو حميمي. البساطة سيدة الموقف. شربنا شايا منسما بأعشاب ما. الحلويات كانت لذيذة. سألتهن غير ما مرة عن ماذا يعرفن عن الريف ؟ الجواب كان في كل مرة ، الريف يعني محمد بن عبد الكريم الخطابي. علمتهن بعض الكلمات بالريفية. الكلمات كانت غريبة بالنسبة لهن. صرفت النظر. ماذا تنفع كلمتان في غابة من الكلمات. هاجر المراكشية ذات الروح المرحة أفحمتنا في كثير من النكت ، ضحكت للقليل منها. لا يمكن لنكتة أن تضحكك إن لم تفهم الثقافة الصادرة منها. انضمت والدتها إلينا لا أدري من أين خرجت. سيدة سبعينية أو ربما أكثر. تحمل بين أصابعها سبحة. تتمتم بشفتيها ذكرا ما. جلست في مكان يبدو مخصصا لها. ناولتها هاجر كوب شاي. سألتني وكأنها تعرفني: هل أنت من الحسيمة ؟ أجبتها على مضض بنعم. أشارت إلي بأن أجلس بقربها . قالت لي :” الحسيمة زوينة وناسها معقولين ” . قلت لها:” ومدينتكم ساحرة!ساحرة!”. تنهدت بادية بأنها غير متفقة معي . مراكش كانت مراكش أما دبا ولات مدينة للنخاسة والعهر …
لم أكن مستعدة لمثل هذا النقاش المؤلم. المواجع كثيرة في بلدي، قلت لها أن الله كبير وهو من سيعيد عباده الى الرشد.
خرجت هاجر نحو وسط الدار. عادت الى الغرفة على إيقاع أغنية مغربية شعبية. بدأت بخبط رجليها على الأرض برفق، بعدها بقوة، بعدها تركت جسدها يتكلم ويبوح بكل شيء .

 

رابط مختصر

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق