الحلقة الثالثة
في هذه الحلقة الثالثة، عاد محمود بلحاج ليطل على موروثنا التاريخي انطلاقا من “نوافذه” الضيقة بدل بابه الواسع، عازما على مواصلة الرد على أطروحتي التي يشك في أهدافها وغاياتها المعلنة كما يقول!، إذ لم يكفيه ما سبق أن قدمه من طعون مغالطة وافتراءات هدامة، فأضاف، فيما يشبه تنصيب نفسه وصيا على تاريخ المقاومة الريفية، اعتراضا آخر ينم عن وجود نية مسبقة ومبيتة لدى السيد بلحاج ألا وهي رفض أطروحتي جملة وتفصيلا، والحكم عليها بجرة قلم زاعما أنها «لم تأت بأي جديد يذكر في الموضوع»!، إذ رأى فيها مجرد تكرار لما سبق أن قاله باحثون مغاربة قبلي. لكنه لم يدلِ ولو بنموذج واحد من تلك الدراسات، عدا ما أورده الدكتور أحمد الطاهري المتخصص في تاريخ العصر الوسيط، في محاضرة ألقاها بالناظور (ماي 2016)، من إشارة يتيمة وعابرة لمصطلح «إمارة الغزاة المجاهدين» الذي يرى أن له امتدادا ثقافيا داخل مفهوم الإمارة التي أسسها الخطابي. وغني عن البيان، أن فكرة الصديق الطاهري إضافة أخرى تزكي تجذر مفهوم الإمارة في تاريخنا المحلي منذ إمارة بني صالح في بلاد نكور. أما هل أتيتُ في كتابي بجديد أم لا؟ فذلك الحكم متروك للقارئ وليس من حق السيد بلحاج أن ينصب نفسه وكيلا ينوب على الجميع ليقوم بـ”غسل دماغهم”. وحتى يواصل قراءته “اللاعلمية” والمتهافتة، عاد ليذكر بما سبق أن قاله في الحلقة السابقة حول افتقار أطروحتي «للموضوعية… وقوة الحجة والإقناع» حسب ادعائه، ثم قام بجرد ما أسماه «أربعة أخطاء منهجية فادحة» كدليل على ذلك الادعاء. وسنوردها هنا، لمناقشتها والوقوف على مدى صحتها، وللقارئ الكريم كامل الحرية للحكم عليها:
-“الخطأ” الأول: وفيه يزعم الناقد أنني قمت بإصدار أحكام «قطعية» بدون الاستشهاد بالوثائق، فالتاريخ كما يقول «يعني الوثيقة أولا وأخيرا». وهذا ما ينطبق، حسب ادعائه دائما، على مسألة «شكل الدولة»، ومسألة «الانفصال»، و «علاقة الخطابي بالسلطان». وهي مسائل قمت في دراستي، بتوضيحها اعتمادا على وثائق وبراهين كثيرة، فبالنسبة للمسألة الأولى، أنا جد مقتنع بأن الكيان السياسي الذي أسسه الخطابي في الريف كان عبارة عن الإمارة الريفية، والأدلة على ذلك كثيرة، وسأقتصر هنا، على التذكير بوثيقتين مخطوطتين محليتين موقعتين، وبالتالي لا يرقى إليهما الشك، علاوة على تصريح أدلى به مولاي موحند لصحافي أمريكي لما كان حرا طليقا بعرينه في الريف. الوثقية الأولى هي مبايعة الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي “أميرا للجهاد” من طرف كبار الأعيان والفقهاء (حوالي خمسين شخصا) بأجذير يوم 18 يناير 1923م، تلاه بعد ذلك، تدوين تلك البيعة في وثيقة شرعية في بداية فبراير من نفس السنة، بمناسبة انضمام وفود جديدة قدمت من غمارة وجبالة. وما يؤكد حدث تلك المبايعة، هو شهادة لشخصية أجنبية هو الملازم الإسباني “خوسي كاساريث لوكاس” المعاصر للحدث، لأنه كان مقيما بجزيرة النكور المحتلة، وقد خلف مذكرات هامة، عبارة عن «اليوميات» التي كان يدون فيها الأخبار التي تصله يوميا، من البر المقابل عن طريق مخبرين ريفيين. فمن خلال ما دونه يوم 18 يناير 1923 نقرأ المقطع التالي (والترجمة لمؤرخ يتقن تحقيق النصوص باللغة الاسبانية وهو المرحوم ابن عزوز حكيم): «إن الأمر يتعلق بوفود من القبائل أتت من مختلف نواحي الريف لتهنئة عبد الكريم بمناسبة مبايعته أميرا على الريف». (ابن عزوز حكيم، ومضات مضيئة عن الحرب الريفية. ص. 160). والوثيقة المخطوطة الثانية التي تثبت أن الخطابي بويع أميرا، هي الرسالة التي حررها بيده ووقعها بشكله وختمها بطابع إمارته، ووجهها إلى الشعب الأمريكي الذي خاطبه بالصفة التالية: «من الأمير بن عبد الكريم إلى الشعب الأمريكي الشمالي..»، دون أن ترد فيها أدنى إشارة إلى لفظة “الجمهورية”، فلو كان يعتبر كيانه “جمهورية” لما تردد في استخدامها في هذه المناسبة المواتية، خصوصا وأنه خاطب شعبا أجنبيا يؤمن بالديمقراطية ويدرك جيدا معنى تلك اللفظة. أليس هذا أكبر دليل على أن الخطابي لما كان يتحدث عن نظامه السياسي يستعمل تسمية الإمارة ولقب الأمير دون أية عقدة نقص؟. أما موقفه من مقولة «الجمهورية» فقد عبر عنه بكل وضوح ودون الشعور بأي دونية، في الحوار الذي أجراه مع صحافي ليس بفرنسي ولا إسباني، بل أمريكي يُفترض أن يكون محايدا هو “فنسينتْ شيين“(V. Sheean) الذي زاره في بلدة أيث قمرة سنة 1925 حين قرر الوقوف بنفسه على تسمية الكيان السياسي الجديد الذي ظهر في الريف بدل الانسياق مع الشائعات. ومن خلال ذلك استجوابه مع الزعيم الريفي، توصل “شيين” إلى حقائق صارخة، إذ صرح له الأمير إن: «تسمية جمهورية الريف هي نموذج مؤسف للتسميات غير الموفقة. إن الصحف الإنجليزية هي التي أطلقت علينا هذه التسمية في البداية، وكذلك بعض عملائنا الإنجليز ذوي النيات الحسنة. لكن لم تكن لدينا جمهورية بالمعنى الغربي للكلمة، ولم نعتزم قط إقامة شيء من هذا القبيل.». (ف. شيين، أمريكي بين الريفيين، رحلة مراسل “شيكاغو تريبيون” في شمال المغرب (1925). تعريب محمد الداودي. ص 198). أليست هذه حجج دامغة.؟
صورة لرسالة من الخطابي إلى الشعب الأمريكي بتاريخ
10 أكتوبر سنة 1924م. الموافق 11 ربيع الأول عام 1343هـ.
ينطبق نفس الكلام على مسألة “الانفصال” وعلاقة الأمير بالسلطان، فالخطابي لم يسع يوما للانفصال عن باقي التراب المغربي، ولا كان يطمح ليحل محل السلطان كما تطرقنا لذلك في الحلقة الماضية، وحتى صلاة الجمعة في الريف لم تكن تتم باسم الخطابي، ومع ذلك وُجهت له تلك التهمة المجانية من قبل سلطات الحماية الفرنسية عندما استشعرت خطر الحركة الريفية على وجودها في المغرب وربما في شمال إفريقيا كله، ولما لم تستسغ تلك السلطات فكرة ظهور إمارة إسلامية مستقلة في شمال المغرب، لجأت إلى دعاية خبيثة مفادها أن ابن عبد الكريم ينوي الهجوم على فاس ومتى دخلها أعلن نفسه سلطانا.! ويبدو أن المارشال ليوطي نجح فعلا، في محاربة الخطابي باسم السلطان يوسف، حين اعتبر هذا الأخير الأمير الريفي مجرد “فتان” تجب محاربته، بالرغم من كثرة المناشير والبيانات التي وجهتها قيادة أجذير إلى السلطان والنخب وعموم الشعب المغربي تؤكد عكس تلك الدعاية المغرضة.
–“الخطأ” الثاني الذي نسبه إلي السيد بلحاج اختزله في عدم توفري على حجج وأدلة قطعية تؤكد أقوالي!، وفي الحقيقة هذا الحكم إنما ينطبق عليه هو، وليس علي أنا، لأنه لحد الآن، وحتى فيما سيأتي، لم يدلِ ولو بوثيقة واحدة تعزز وجهة نظره، وكل ما هنالك هو ضرب الأخماس في الأسداس و لف ودوران ومحاولة الاستنجاد بنصوص وأقوال وانطباعات متأخرة لا تقوى على الصمود أمام “النقل”(الموروث المحلي) والعقل معا.
-“الخطأ” الثالث حسب زعمه دائما، يتجلى في تعاملي بطريقة “انتقائية” مع المراجع الأجنبية. ويبدو أن السيد بلحاج لا يفرق بين “المرجعية الأجنبية” والمراجع الأجنبية، فالطعن في ما قد تنطوي عليه هذه الأخيرة من أخبار منافية للصحة، أو أحكام قيمة تتناقض مع مجريات الأحداث، لا يمنع من التعامل معها والاستفادة مما هو إيجابي فيها، وهذا ما نسميه القراءة النقدية. أما الجانب النظري، فيتجسد في الكشف عن البعد الفلسفي وطبيعة الخلفية النظرية التي تؤطر المرجعية الأجنبية، وهي قراءة أحادية الجانب بطبيعة الحال، فكان لابد من وضعها على محك المرجعية المحلية التي لا ينبغي الاستهانة بها وازدرائها، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر كما يقال. وقد رأينا أن وثيقة واحدة من عيار وثيقة مبايعة الخطابي بالإمارة، كانت كافية وحدها لإحداث انقلاب معرفي أو “ثورة كوبرنيكية” في ما يخص طبيعة الشعار السياسي الذي تبنته الحركة الريفية، و التصور الذي ظل مترسخا لعدة عقود، في أذهان الكثيرين حول تسمية ذلك الكيان، وثيقة جعلت تاريخ المقاومة الريفية وبالأخص كيانها السياسي المنبثق عنها، يمشي على رجليه بعدما كان يمشي على رأسه.!
-“الخطأ” الرابع، وفيه توخى السيد بلحاج اتهامي بالإقصاء والتغاضي عن المراجع الريفية التي تؤكد حسب اعتقاده، أن فكرة “الجمهورية” كانت متداولة في الريف قبل أن تظهر على يد الأجانب، أي أنها ذات مصدر محلي وليس أجنبي، وقد سبق أن وضحتُ عدم صحة هذا الكلام، ليس فقط لأن السيد بلحاج استدل بأفكار وأقوال متأخرة قيلت في سياق خاص، بل قام أيضا بالتعسف على تلك المراجع فقوّل بعضها ما لم تقله، فإلحاحه مثلا، على ورود لفظة “الجمهورية” لدى شاهد عيان معاصر للأحداث هو المرحوم بلقاضي، لا يعدو أن يكون تشويها للتاريخ وقراءة مغلوطة للنصوص، ورميا لصاحب “أسد الريف” بالزور والبهتان. لأن ما أورده الأستاذ بلقاضي من تداول “الجمهورية” لدى النخبة الريفية هو كلام نقله عن غيره (أحمد عسة)، ولم يكن مما علق بذاكرته باعتباره شاهد عيان. وليكن في علم السيد بلحاج، أن شاهد عيان متعلم هو الآخر (شعيب الخطابي بورجيلة)، لم يتطرق بتاتا، في مذكراته، لتسمية “الجمهورية”، إذ اكتفى بالقول إن اللبنة التنظيمية التي تبلورت في رباط القامة هي نوع من “اللجنة الوطنية“. في نفس السياق أورد المؤرخ البريطاني بينيل، بناء على المعلومات الاستخباراتية بالأرشيف العسكري الإسباني (أرشيف مليلية سابقا)، أن الخطابي لما طولب منه (من طرف قومه) توضيح الغاية من حركته، وكان ذلك قبل ماي1921، أجاب أنه يريد “أرض بحكومة وعلم“، (وهو الشعار الذي سيختاره بينيل عنوانا لكتابه). وكما نلاحظ، لا شهود عيان المحليين، ولا الخطابي نفسه، ناقشوا فكرة “الجمهورية” في جبل القامة. وعليه، فمن حقنا أن نتعامل بالحيطة والحذر مع ما ورد في المراجع المتأخرة مهما كانت قيمتها. فما وصلنا مثلا، من اقتباسات عن مذكرات الخطابي بالقاهرة لا يبعث على الاطمئنان بخصوص فكرة “الجمهورية”. فلابد من مقارنتها بما ورد في المذكرات الأولى، واستحضار سياق الأحداث التي دونتْ فيها تلك المذكرات.
وحتى يبرهن السيد بلحاج على الأصل المحلي للفظة “الجمهورية”، أضاف إلى النصوص السابقة، نصين جديدين لكنهما حديثين ومتأخرين هما أيضا. النص الأول للزميل المرحوم الدكتور زكي مبارك، لكنه نص-إن كان صحيحا- ينطوي على مبالغة وأخطاء، وعذر المرحوم زكي أنه متخصص أكثر في تاريخ فجر الاستقلال، وجيش التحرير تحديدا. وتكمن لمبالغة في قوله إن الخطابي استدعى ثلاثمائة من أعيان القبائل الريفية لحضور تجمع عام انبثقت عنه «حكومة جمهورية الريف المؤسسة في 21 يوليوز 1921». من المؤكد أن الدكتور زكي لم يستدل بوثيقة، وإنما ربما اعتمد على أحد المراجع العربية التي كثيرا ما تقع في مثل هذه الأخطاء، لأن تاريخ 21 يوليوز 1921 كما يعلم الخاص والعام، هو تاريخ معارك إغريبن-أنوال، أما التجمع الشهير الذي انبثقت عنه حكومة الريف فعقد بموضع “ادهار السلوم” بأجدير في مطلع سنة 1923. وحتى إذا افترضنا جدلا، صحة كلام الأستاذ زكي مبارك، فإنه يتناقض مع المكان والتاريخ الذي ذكره المرحوم محمد سلام أمزيان (اجتماع القامة 1921) الذي استدل به الناقد في الحلقة الأولى. فكيف يقبل السيد بلحاج الاستدلال بنصين متناقضين؟ نفس الشيء بالنسبة لدستور 1962 الذي قال زكي مبارك أن الخطابي عارضه «انطلاقا من تجربة دستور حكومة الجمهورية الريفية». صحيح أن الخطابي انتقد ورفض ذلك الدستور، وهذا لا يختلف عليه إثنان، لكن حسب مذكرات الخطابي التي دونها علي الحمامي، كان البديل الذي اقترحه الخطابي مستمدا من التجربة الريفية التي كان دستورها القرآن والشريعة الإسلامية كما يؤكد أكثر من باحث (أمين سعيد. ثورات العرب. ص 179. وحسن البدوي، الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. ص. 45). ومادام السيد بلحاج تزايد علينا في كلامه انطلاقا من أقوال نسبها للدكتور زكي بخصوص دستور الحكومة الريفية، فإني أدعوه للتأمل قليلا في وثيقة عبارة عن تصريح للخطابي، أوردها الدكتور زكي مبارك نفسه، في ملحق مقاله المنشور في كتاب جماعي بعنوان: «لجوء محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مصر: الأبعاد والدلالات الوطنية والدولية (ندوة علمية).ط.2. 2011»، وفيها يقول الأمير الخطابي محددا موقفه من المسألة الدستورية بالمغرب سنة 1962: «إن المغاربة لا يحتاجون إلى دستور منمق بجمل وتعابير تحمل بين طياتها القيود والأغلال… إنهم يريدون تطبيق دستورهم السماوي الذي يقول: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وغير ذلك من الآيات..» (عن مقال زكي مبارك، ملحق رقم 3. ص. ص. 168-169). وعلاوة على كل هذا، فإن نص دستور الحكومة الريفية لم يصلنا، وحتى إن وجد فإن تاريخ تحريره لا يمكن أن يحصل إلا بعد سنة 1923. أما القول بأن ممثلي القبائل الريفية وضعوا اللبنة الأولى لدستور الحكومة الريفية في 21 يوليوز 1921 فهو أمر جد مستبعد وغير مقبول بتاتا. كما أن قول السيد بلحاج بأنني تغاضيت وتغافلت عن هذه النقطة التي تحدث عنها الدكتور زكي مبارك، هو كلام لا أساس له من الصحة ومجرد تهمة باطلة تضاف إلى حقيبة تهمه الزائفة. إذ يكفي القارئ الكريم الرجوع إلى كتابي ليتأكد من توقفي ملياً، عند هذه المسألة (عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال. ص. 74).
نفس الشيء يقال أيضا، عن النص الثاني الذي استشهد به الناقد، أي كتاب “التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي” للأستاذين عبد الرحمان الطيبي والمرحوم الحسين الإدريسي، اللذان اعتمدا على نسخة لمخطوط ضاع أصله، ويُجهل كاتبه وتاريخه، يحمل عنوان “البرنامج العام” وردت في مقدمته عبارة “الجمهورية الريفية“، لذا اعتقد الأستاذان المذكوران ومعهما السيد بلحاج، أن ذلك دليل على تأسيس الخطابي لحكومة “الجمهورية”، مع العلم أن الكاتبين اعترفا ببيعة الخطابي أميرا للجهاد. وأثناء مناقشتي لرؤيتهما، رجحت أن يكون مدير المدرسة النظامية التي أسسها الأمير بأجدير، هو مَن كان وراء إعداد تلك المخطوطة. وإذا علمنا أن ذلك المدير هو الحسن بن عبد العزيز القادري الذي استقدمه الأمير الخطابي من الجزائر ليشرف على تلك المدرسة الابتدائية (كان يديرها من قبل، العلامة محمد بن الحاج حدو من أزغار)، وأن ذلك “النص” التربوي لم يكن الأمير الخطابي هو من خطّه بشهادة الكاتبين أنفسهما، فإنني رجحت كما قلت، أن يكون الكاتب والصحفي الحسن بن عبد العزيز الجزائري هو من أعده وحرره كدليل “بيداغوجي وديداكتيكي” يستعين به المعلمون الجدد (يُفترض أنهم جزائريون) العاملين بمدرسة أجدير. بدليل أن الأمير كان قد طلب من السيد الحسن بن عبد العزيز هذا، عندما كان ما يزال مديرا لصحيفة “لسان الدين” بالجزائر، طلب منه أن ينشر بلاغا في تلك الجريدة موجها لمن يرغب من المعلمين والأساتذة الجزائريين في القدوم إلى الريف للتدريس مقابل أجرة مغرية، ولذلك، فإننا لن نفاجأ بعد ذلك، من إدراج عبارة “الجمهورية الريفية” في الصفحة الأولى من ذلك الدليل/ النص التربوي ، لكون الكلام كان موجها إليهم تحديدا، لأن تلك التسمية “الجمهورية” بها عُرفت الحكومة الريفية لدى أولئك المعلمين والأساتذة واستأنس بها عموم المثقفين، سواء في الجزائر أو تونس بواسطة الصحافة الصادرة باللغة الفرنسية. ومهما يكن الأمر، من الصعب التسليم بتبني الأمير الخطابي لتسمية “الجمهورية” لمجرد ورودها في الصفحة الأولى من مخطط “البرنامج العام” الذي ربما تبنته “نظارة المعارف والعلوم” التي أشرفت على المشروع التعليمي الجديد، وإلا كيف نفسر تنصيص ذلك البرنامج أيضا، على عبارة “التعليم بالمملكة“؟ هل يتلق الأمر بالمملكة الريفية؟ أم بالمملكة المغربية كما يرجح الأستاذان الطيبي والإدريسي على اعتبار أن ذلك التعليم المزمع تطويره في الريف آنذاك «لم يكن مخالفا لتجربة المدرسة الأهلية الإسلامية بالمملكة (الشريفة)». (الطيبي والإدريسي، التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد لكريم الخطابي. ص. 135). فهل سيتهم أيضا، السيد بلحاج هاذين الكاتبين بالسعي للنيل من المشروع التحديثي للخطابي لكونهما قالا إن التجربة التعليمية عند الحركة الريفية لم تكن مخالفة للتجربة التربوية المخزنية وربما كانت تقليدا لها؟ أم أن الأمر لا يتعلق لا بـ” الجمهورية” ولا بـ”المملكة”، بقدر ما يتعلق بخبطة عشواء من طرف السيد الحسن بن عبد العزيز الجزائري.؟ ومهما يكن الأمر، من الصعب أن نجزم بأن ذلك البرنامج التعليمي، كان من إبداع الخطابي لكونه لا يحمل شكله الخطي، كما لا نعرف إلى أي حد طبق على أرض الواقع، وهل استجاب المعلمون والأساتذة الجزائريون لنداء الخطابي أم لا؟ فالمرحوم الأستاذ محمد الرايس الذي كان تلميذا بتلك المدرسة، لم يشر في شهادته، إلى ما يوحي بذلك، أضف إلى ذلك عدم التطابق الملحوظ بين مضمون “البرنامج العام” (النظري) وبين المقرر الدراسي (التطبيقي) الذي تلقاه الرايس كما وضحنا ذلك في كتابنا. فكيف نثق ثقة عمياء في ذلك المخطوط وننسبه إلى الأمير شخصيا، مع أنه لا يحمل اسمه ولا توقيعه، بل أكثر من ذلك، هو عبارة عن نسخة لأصل مفقود؟ فكيف نثق بسهولة في ذلك “المخطوط” المنسوخ والمجهول الهوية ولا نثق في وثيقة بيعة الأمير الخطابي بالإمارة مع أنها وثيقة صحيحة شكلا ومضمونا، ولا غبار عليها من الناحية الشرعية والتاريخية.؟
وكختام لهذه الحلقة من الحوار والتفاعل مع الانتقادات التي وجهها السيد بلحاج لكتابي، أقول إن كل ما أدلى به من نصوص متأخرة وضعيفة، سرعان ما تتهاوى وتنكسر على صخرة الحقيقة التي تكشف عنها المصادر الريفية المحلية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن النص المنسوب للمرحوم بلقاضي، و الذي لطالما تبجح واستشهد به الناقد، لا يرقى إلى مستوى الشهادة التي تمناها وتوهمها السيد بلحاج، لا لكونها تتعارض مع نصوص شهود عيان آخرين لا يقلون أهمية كالسيد محمد أزرقان (الظل الوريف)، أو السيد أحمد شعيب الخطابي بورجيلة (الدفاع المجيد)، زيادة على الشهادات التي دونها المرحوم محمد الرايس، ومذكرات الخطابي المسماة “مذكرات لاريونيون” وغيرها من المصادر والمستندات، وإنما –وهذا هو بيت القصيد- لكون الفقرة التي راهن عليها صاحبنا وكررها هنا من جديد، ليست من إنشاء الأستاذ بلقاضي في شيء، وإنما نسبها إليه السيد بلحاج عن باطل وغير حق كما أثبتنا سابقا. وأخطر من ذلك، والمثير للدهشة والشفقة في كلام السيد بلحاج هو عدم أخذه لكلامي على محمل الجد، حين نبهت في كتابي إلى أن ما نقله بلقاضي عن أحمد عسة ليس من كلامه في شيء باعتراف بلقاضي نفسه، حيث صرح بما يلي: «لا يفوتنا أن نستدل بما أورده الأستاذ أحمد عسة في تاريخه ص. 170حيث قال…» (أسد الريف، ص. 83). ما ذا يريد السيد بلحاج أكثر من هذا الوضوح، ألا يشير بلقاضي بصريح العبارة، إلى أنه سينقل ما كتبه أحمد عسة وليس ما شاهده أو وقف عليه هو، باعتباره معاصرا للأحداث؟ فلو كان الأمر كذلك، لما احتاج أن ينقل عن غيره. أما رأيه الحقيقي في طبيعة الحكومة الريفية التي أسسها الخطابي فيمكن أن نستشفه مما ورد في صفحة 132 من كتابه “أسد الريف” عند حديثه على ما وقع الاتفاق عليه في مؤتمر عام عقد بأجدير حضرته «قبائل الريف وجبالة» كأن «يعطى لهذا الرئيس لقب (الأمير) بدلا من الفقيه الذي كان الناس يلقبونه به». فلقب الأمير مشتق من الإمارة وليس “الجمهورية”. كما أن كلام الأستاذ بلقاضي لا يختلف عما قاله السيد أزرقان ناظر الخارجية في تلك الحكومة لما تحدث بتفصيل عن تلك البيعة.
(يتبع)