د. محمد أونيا: إشكالية الكتابة التاريخية أم أزمة القراءة المؤدلجة؟ تعقيب على قراءة محمود بلحاج (5)

27 نوفمبر 2023
د. محمد أونيا: إشكالية الكتابة التاريخية أم أزمة القراءة المؤدلجة؟ تعقيب على قراءة محمود بلحاج (5)

في الحلقة الخامسة والأخيرة من حلقاته “الانتقادية”، تمادى السيد محمود بلحاج في “فانتازيا” تحامله على أطروحتي، ظانا منه أنه على صواب في ما قدمه لحد الآن من سفاسف الأفكار و”لاواقعيتها” وتكرارها حد الاجترار والملل، بل عاد ليطرح أسئلة عادة ما يطرحها المبتدؤون من قبيل: هل كان الخطابي مجرد فقيه سلفي أو وطني ثوري، وهل كانت حركته حركة جهادية لنصرة الإسلام أم لتحرير الأرض وبناء الوطن؟ فلعل تتويج حركة المقاومة الريفية ضد الاستعمار الاسباني ثم الفرنسي لاحقا، بتكوين دولة محلية مستقلة برموزها السيادية كافٍ وحده للإجابة عن هذا السؤال الساذج، فما خاضه ابن عبد الكريم في الريف والشمال ككل، هي معركة التحرير من المستعمر، وقد وظف وسخر من أجل ذلك كل السبل و الإمكانات المتاحة كالخطاب الديني والتكتيك السياسي المناسب. ورغم تكوينه العلمي والثقافي الذي تلقاه على يد والده ببلدته أولا، ثم بجامعة القرويين ثانيا، وتأثره بالتيارات السلفية التجديدية بفاس والارهاصات الديمقراطية التي روجت لها “جماعة لسان المغرب” بطنجة وغيرها، فإن الخطابي لم يكن ماضويا ومنغلقا يدعو للجهاد من أجل الجهاد، بل من أجل تحرير البلاد وتحقيق الاستقلال من الاستعمار ومناهضة الغزو الامبريالي دون أن يرفض الحضارة الأوروبية، فقد دعا الأمم المتحضرة لفتح سفاراتها بأجدير ورحب التعاون الاقتصادي مع الشركات الغربية وبإدخال التقنيات الحديثة إلى الريف الخ. يقول محمد بن عبد الكريم الخطابي مثلا، في رسالته الموجهة إلى الأمم المتحضرة: «إن الريف لا يعترض على الحضارة العصرية، ولا ينفر من مشاريع الإصلاح، كما لن يقف ضد إقامة علاقات تجارية مشتركة مع أوروبا.» (الكتاب المفتوح الموجه من طرف مـحمد بن عبد الكريم الخطابي إلى سفراء بعض الدول الأجنبية في طنجة وإلى عصبة الأمم في جنيف في شهر شتنبر من سنة 1922. وقد أوردته في ملحق كتابي: عبد الكريم وأسطورة الانفصال. ص. 337).  وعليه، فأنا لم أكتب أن مشروع الخطابي كان “مشروعا سلفيا لا يخرج عن النسق المخزني” كما ادعى السيد بلحاج الذي كثيرا ما يقف عند “ويل للمصلين..” كي يغالط القراء، بل قلتُ إن الأمير أسس في الريف «حكومة محلية مستقلة عن الحماية الإسبانية… تنزع نحو الإصلاح والتحديث رغم طابعها التقليدي»، وأضفتُ في مكان آخر، إن ما شيده الخطابي: «جعل من حركته حركة طليعية تمخضت عنها نواة «دولة وطنية» عصرية تشكلت حكومتها من الكوادر المتعلمة الشابة. ولذلك، فإن الأفكار الدستورية والتحديثية التي تشبع بها وحاول تطبيقها في إطار دولته الفتية، رغم سنوات الحرب المسترسلة ضد القوى الاستعمارية، لَتُعد إنجازا غير مسبوق في تاريخ المغرب المعاصر.» (عبد الكريم وأسطورة الانفصال، ص. 254). فأنا تحدثت عن الإصلاح موازاة مع التحديث في مشروع الخطابي، والتحديث هنا، يتجاوز النسق المخزني، وعززت قولي هذا بما خلص إليه أيضا المؤرخ جرمان عياش حين كتب قائلا بأن مـحمد بن عبد الكريم: «كان وطنيا، ولم تكن وطنيته بدائية، بل توشحت بمفاهيم حديثة بشكل يثير الدهشة، كمفهوم الوطن، وحرية التفكير، والديمقراطية، تلك المفاهيم التي يمكن أن يغبطه عليها أولئك الذين سموا أنفسهم فيما بعد بـوطنيين“».(جرمان عياش، أصول حرب الريف. م. س. ص. 346.)

أما كيف نحكم على ما قام به الخطابي، هل هو إصلاح أم تحديث أم أيضا مشروع حداثي؟ فهو، في رأيي المتواضع،  أقرب إلى إصلاح وتجديد وتحديث منه إلى مشروع حداثي، لأن التحديث ليس هو الحداثة، فهذه الأخيرة تهتم بالبعد الفكري والعقلاني والفلسفي والسياسي كالحرية والمساواة والانتخابات الديمقراطية والمجتمع المدني..، وهو هدف يتحقق على المدى البعيد، فقد احتاجت الحداثة الأوروبية إلى عدة قرون منذ عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر، لكي تصل إلى ما وصلتْ إليه، عكس  التحديث الذي يركز على الجوانب العلمية والتقنية والبنيات التحتية وغيرها من الأوراش التحديثية القريبة والمتوسطة المدى، فلا يمكن تحقيق الحداثة بدون التحديث، أما ما قام به الأمير الخطابي فيمكن القول بأنه إصلاح وتجديد وتحديث معا، بمعنى قام بإصلاح وضع قائم تطلب الإصلاح والتطوير من جهة، وفي نفس الوقت أدخل أشياء حديثة لم تكن موجودة في الريف كشبكة الهاتف مثلا، وتدشين نواة تعليم عصري، وشق بعض الطرق، وإنشاء ما سيمي بـ«المحاكم» وهي نوع من الإدارات على رأسها “قائد” أو “الباشا”، وتكوين جيش نظامي، والتفكير في إيجاد دستور جديد وغيره من الأمور التي تطرقت لها في كتابي. فالخطابي إذن، قام بمجموعة من الإصلاحات التي غيرت ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة في الريف أساسا. لكن هنا يتساءل السيد بلحاج: عن أي إصلاح نتحدث؟ لأن الإصلاح في نظره، «يستوجب وجود شيء يمكن إصلاحه، أي وجود شيء قديم» وذلك الشيء «لا يوجد بالريف آنذاك» حسب ظنه واعتقاده، في حين العكس هو الصحيح، أي كان هناك فعلا، شيء في حاجة ماسة إلى إصلاح وتجديد وهو المجتمع الريفي نفسه، الذي كان غارقا في ما عُرف بـ”الريفوبليك” أي، نوع من “الفوضى” و “التسيب” وشيوع ظاهرة القتل والثأر سيما بعد أن أصبح الريف منطقة متروكة لحالها تعاني من شغور النفوذ المخزني الذي كان ضعيفا أصلا، وقد تطلب إصلاح هذه الظاهرة الاجتماعية، إلغاء القوانين العرفية السائدة مثل قانون “ارْحقْ” (رنصاف)، و منع القَسم الجماعي، ونبذ عملية الأخذ بالثأر، والاحتكام بدل ذلك، إلى القوانين الشرعية التي كانت من اختصاص المحاكم القضائية التي حظيت بالأسبقية في مشروع هذا الإصلاح الشامل، وتبديل المجالس القبلية المسماة “إگراونْ” (مفردها أگراوْ) التي كانت تسن وتنفذ القوانين العرفية، بالسلطات الجديدة التي تم الفصل بينها كالسلطة التشريعية (مجلس الأمة)، والسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، والسلطة القضائية ( محاكم القضاء الشرعي) وما ارتبط بها من مؤسسات سجنية تظهر لأول مرة في الريف. وحتى التعليم لم يكن كله جديدا، أو كان يروم القضاء على التعليم العتيق (القرآني) كما زعم السيد بلحاج، فإلى جانب نواة المدرسة النظامية في أجذير، عين الخطابي فقهاء للتدريس في مؤسسات قديمة كزاوية أدوز (الفقيه مشبال)، والمعهد الديني بالشاون (الفقيه العمرتي)، كما فرضت ظرفية الحرب مَركزة السلطة في أجذير، والاعتناء بالنظام العسكري الذي استحدث وفق طريقة أبدعتها القيادة الريفية، كالجيش النظامي المنضبط لقواعد جديدة، وفرقة “الحُفاظ” (حرس خاص). لكن هذه الإصلاحات وغيرها كثير، لم تكن كلها جديدة، فالقوانين الشرعية كانت سائدة في المجتمع الريفي إلى جانب العرف، ولو أنها كانت تقتصر على البيوع والشراء و الأنكحة والعقود وما شابه ذلك، كذلك النظام العسكري استند على البنية القبلية في اختيار عناصر تتوفر فيها الشهامة والشجاعة والتمثيلية المحلية، علاوة على الاعتماد على التقسيم القبلي الداخلي المعروف أثناء المناداة على عدد معين من أبناء القبيلة كمقاتلين احتياطيين أو ما يسمى أيضان متطوعي القبائل، وكذا توزيع الأدوار وما سمي بـ “النوبثْ” أو حصص ما يقدم للحرْكة من مساعدات غذائية، و التناوب على الإدالة الخ. ناهيك عن ألقاب القادة العسكريين وسلّم درجاتهم واختصاصاتهم كالطبجيين (المدفعية) والمشاة والحُفاظ، وزيهم الذي يشبه الزي التقليدي للساكنة المحلية (جلباب وعمامة مميزة..). فالإصلاحات التي سنها الأمير لم تكن كلها جذرية وراديكالية، أو أنها انطلقت من العدم والفراغ كما توهم السيد بلحاج. وحتى تسمية الكيان السياسي الريفي الجديد لم يُعرف بتسمية غربية راديكالية (الجمهورية) التي تقوم على النظام النيابي والانتخابات وتأسيس الأحزاب، بل كانت تسميته (الإمارة) تحيل على مصطلح معروف في “الآداب السلطانية” ومتجذر في الثقافة المحلية لكن في أفق أن تتحول إلى إمارة دستورية على حد تصريح الأمير الخطابي نفسه، ففي حديث خص به الصحافي الإنجليزي «وارد برايس»  سنة 1924، كتب هذا الأخير موضحا رد الأمير الخطابي على سؤال يتعلق بطبيعة الحكومة التي ينوي إنشاءها في حالة ضمان استقلال الريف، حيث أجابه، أي الأمير، قائلا: «إن الدين الإسلامي يقر بشكل واحد من أشكال الحكم، يمر عبر سلطة الأمير، لأن الحكم من خلال مجالس تمثيلية أمر يتعارض مع المبادئ الإسلامية. لكن، رغم هذا فنظامنا ديمقراطي بكل معنى الكلمة، لأن الأمير يُنتخب بشكل حر من طرف زعماء القبائل، وإذا لم يرض عنه الناخبون فسيتم عزله وتعويضه بأمير آخر». (روبرت فورنو، عبد الكريم أمير الريف (بالانجليزية)، 1967. ص. 106) . ومعنى الأمير عند الباحثين هو “قائد جهادي” أو أيضا، “أمير الجهاد” و”قائد حرب”. (المساري، ص. 33).

أما لماذا فضلتُ الحديث عن الإصلاح أكثر إلى جانب استعمال التحديث بطبيعة الحال، فالسبب لا يرجع إلى ما سبق ذكره أعلاه فحسب، بل، لكون الأمير الخطابي نفسه استعمل هذا المصطلح. فقد عبر عن مشاريعه الإصلاحية بصريح العبارة لما توجه للمغاربة المسلمين بنداء يعود إلى تاريخ 29 غشت 1925، جاء فيه: «أيها المراكشيون، إننا لا نريد من كل هذا أن نتسلط عليكم أو نخرق عليكم عادة كما يموه عليكم العدو … وإنما غايتنا الوحيدة ومقصودنا المنشود هو طرد الأعادي من تراب المسلمين والوصول إلى إصلاح شؤوننا ماديا وأدبيا». (مـحمد داود، تاريخ تطوان، ج. 11. ص. ص. 246-248.). كما خاطب الأمم المتحضرة بنفس اللغة كما رأينا أعلاه: «إن الريف لا يعترض على الحضارة العصرية، ولا ينفر من مشاريع الإصلاح..»، فاستعمال الخطابي لكلمة الإصلاح في وثائقه أمر واضح لا مراء فيه. فهل سيُتهم هو أيضا بتقزيم مشروعه الحداثي كما أنعى علينا ذلك السيد بلحاج؟  نفس الشيء ينطبق على الباحث الأمريكي هارت الذي خبر جيدا المجتمع الريفي، فهو يتحدث عن “إصلاحات عبد الكريم” كما نقرأ في عنوان مقاله الذي ساهم به في ندوة باريس الشهيرة (دايفيد م. هارت، من “الريفوبليك” إلى “الجمهورية”، المؤسسات الاجتماعية والسياسية الريفية وإصلاحات عبد الكريم). كما عبر هارت بوضوح أكثر عن تلك الفكرة الإصلاحية لدى الخطابي في معرض مناقشته ورده على انتقادات عياش لأطروحته “أيث ورياغر”، فبعد تسليمه بفكرة وطنية بن عبد الكريم، قال هارت: «في رأيي فإن عبد الكريم كقاضي (وبعد أن أصبح مجاهدا) قد حول مجتمعا مقسما تقسيما قبليا إلى مجتمع إصلاحي وليس إلى مجتمع ثوري أو شيوعي أو غير ذلك». (هارت، عن مقال: “التاريخ وأصول حرب الريف”، نشرته مترجما إلى العربية، مجلة أبحاث، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد 4، يونيو 1984، ص. 88.).

نصل الآن إلى مربط الفرس أو ما يشكل العقدة لدى السيد بلحاج على نحو خاص، وأقصد بذلك مكانة البيعة في المشروع السياسي الذي تبناه الخطابي أثناء قيادته لحرب التحرير والمقاومة بالمنطقة الشمالية من المغرب ما بين سنتي 1921-1926. لقد انزلق الخيال بالسيد بلحاج إلى القول أن كلامي عن وثيقة البيعة باعتبارها شكلت المصدر الحقيقي الذي استمد منه الخطابي مشروعية سلطته، كلام مزيف ومجانب للحقيقة في نظره، لأن الخطابي قبل واقعة البيعة، كان قد نال شرعيته السياسية. لأول وهلة يبدو تعليل الناقد مقبولا لأن الخطابي فعلا، كان يمارس سلطته منذ سنتين على الأقل أي، قبل المناداة عليه أميرا سنة 1923. وهذا صحيح وقد وضحته بما فيه الكفاية في كتابي، لأن تلك البيعة كما قال بينيل، قامت بتزكية سلطة موجودة سلفا. لكن ما قصدته هو أعمق من هذا الفهم السطحي، ذلك أن وثيقة البيعة المعنية توجت المحطات السابقة التي فوضت للخطابي الزعامة والرياسة (قَسم القامة، مؤتمر “ماورو”..)، وتزامن ظهورها-أقصد البيعة الأخيرة- مع انضمام منطقة جبالة إلى المقاومة واعترافها بنفوذ الخطابي لأول مرة، وهذا مستجد لم يحصل من قبل. كما سيلقّب بطل الريف لأول مرة كذلك، أي سنة 1923، بلقب الأمير بدل الفقيه كما ذكر بلقاضي، وهذا دليل قاطع على وجود علاقة اشتقاقية بين لقب الأمير ونظام الإمارة المعلن بشكل رسمي هذه المرة، وفوق كل هذه المستجدات، انتقلت البيعة من الشفاهي إلى المكتوب، بعبارة أخرى، أصبحت تلك البيعة مقننة بوثيقة مرجعية تضمنت واستحضرت “النموذج الأعلى” الذي شكل الخلفية السياسية لمأْسسة الكيان الجديد الذي اختاره ابن عبد الكريم أي، نموذج دولة الخلافة التي استندت إلى مبدأ “الشورى” والبيعة (بيعة أبي بكر، وبيعة عمر، ثم بيعة عثمان)، قبل ظهور الحكم الوراثي المطلق (الدولة الأموية وما بعدها)،  كما أن تلك الوثيقة المرجعية تعكس إلى حد بعيد، تمثّل أولو الأمر من “أهل الحل والعقد” لطبيعة تلك الشرعية التي استمدت أسسها مما هو موضوعي وواقعي يتعلق بما أنجزه الزعيم الخطابي على الأرض منذ ظهور حركته التحريرية إلى سنة 1923، من جهة، ومما هو ذاتي يتعلق بالشروط التي اجتمعت في شخصه إذ هو من بيت علم وقضاء من جهة ثانية، و هذا ما أهّله لتبوء منصب الإمارة. ذلك ما نصت عليه صراحة، وثيقة مبايعته سنة 1923، فبعدما كانت «قبائل الريف وقبائل الجبال قبل هذا بعامين في غاية من العتو والفساد وكثرة الجهل والطغيان والعناد، وعن الشريعة في غاية الانحراف والابعاد، وعظم الظلم بين العباد…»، ظهر الفقيه مـحمد بن عبد الكريم الخطابي فشرع في توعية قومه للذود عن البلاد والعباد، ومناهضة الحماية الاسبانية و«أخذ عليهم في المصحف العقود والوفاء بالمواثيق والعهود فأسس بنيانهم عليها والمؤاخذة بمقتضاها، ثم نظمهم وعلمهم كيفية الحروب والدفاع عن الوطن…»، و «لما حصل لهم الأمان في النفوس والأموال وكانوا في غاية النمو والازدياد وكثرة الصلاح والنجاح والهناء على أحسن المراد، واضمحل وتلاشى ما كان معتاد بينهم في غابر الازمان من الفساد، من القتل والسلب وضروب المحن، وأُخمدتْ في أقطارهم جميع نيران الفتن…»، لهذه الحيثيات والأسباب كلها «انعقد الاجماع ببيعة من في افق السعادة قد طلع، وظهر في سماء المعارف بدره وارتفع، الذي ألقت إليه الإمامة زمامها، وقدمته الأفاضل بفضله أمامها، من جاءت له الخلافة تجر أذيالها… أمير المجاهدين الواثق بربه المعين، سيدي مـحمد بن العالم الفاضل سيدي عبد الكريم الخطابي الورياغلي الريفي، فبايعوه أعزه الله ونصره على كتاب الله وسنة الرسول…».

ولم يفت ذلك العقد أن ينص على بعض الشروط التي تحكم علاقة الحاكم (الأمير) بالمحكوم (سكان الريف وجبالة): «إننا بايعناك وقلّدناك لتسير بنا بالعدل والرفق والوفاء بالصدق، وتحكم بيننا بالحق…». (النص الكامل لوثيقة البيعة في لمحق كتابي: عبد الكريم وأسطورة الانفصال، ص. 345).

فهذه الوثيقة الشديدة الأهمية، تنص بلغة واضحة وصريحة، على الأسس المرجعية التي استمد منها الأمير الخطابي سلطته الشرعية، أسس مستمدة من “واقعها الذاتي (الواقع الجديد أو الثوري)، وليس أي مثال خارجي مزعوم كما قال أحد الباحثين المغاربة. (عثمان أشقرا، في سوسيولوجيا الفكر المغربي الحديث. م. س. ص. 131.). ورغم كل هذا، فإن السيد بلحاج لم يقتنع بهذه القراءة المتواضعة التي قدمتها في “نص” هذه البيعة حتى أبين أن الخطابي بويع “أميرا للمجاهدين“، فهو، أي بلحاج، يزعم أن تلك «البيعة لا تنص بأي شكل من الأشكال على تأسيس الإمارة»!. مع العلم أن النص واضح لا غبار عليه ولا يحتاج إلى اجتهاد، حيث يقول بالحرف الواحد، كما رأينا قبل قليل: «انعقد الاجماع ببيعة أمير المجاهدين… سيدي مـحمد بن العالم الفاضل سيدي عبد الكريم الخطابي».

نسخة من عقد بيعة الخطابي أميرا للجهاد بأجذير

تاريخ 14 جمادى الثانية 1341هـ/1 فبراير 1923م.

وبالرغم أن شرح الواضحات من المفضحات كما يقال، فلا جرم من دعوة السيد محمود بلحاج إن لم يكن مقتنعا بعد بهذه الحقيقة، للتأمل مجددا، في وثيقة أخرى سبق أن أوردتها في أطروحتي إلى جانب وثيقة البيعة المشار إليها، ويتعلق الأمر بوثيقة طرية معاصرة ومؤرخة للحدث، وأكثر من هذا، فإن كاتبها هذه المرة، هو الأمير الخطابي الذي يؤكد فيها، بشكل حاسم ولا يدع مجالا للشك، مبايعته بالإمارة (إمارة المجاهدين) وتقبله وموافقته على تقلّد تلك المسؤولية الجسيمة التي وصفها بـ«الخطب العظيم» و شبهها بـ«المرْكَب الخشن» الذي «تمالأ [أجمع عليه] أهل الحل والعقد من كبار الأمة الريفية..». وهي عبارة عن رسالة جوابية بعثها إلى الشريف محمد الناصري شيخ زاوية بني بوفراح بتاريخ 15جمادى الثانية 1341هـ/2 فبراير 1923م وفيها يقول حرفيا: «وصل كتابكم الذي تهنؤوننا فيه بتنشئتنا لسدة الإمار الريفية ودعاؤكم لنا بالخير …فجزاكم المولى أحسن جزاء..»                                                           

رسالة جوابية من الأمير الخطابي إلى الشريف محمد الناصري مؤسس زاوية بني بوفراح

بتاريخ 15جمادى الثانية 1341هـ/2 فبراير 1923م. بمناسبة إنشاء «سدة الإمارة الريفة».

هكذا، واستنادا إلى الوثيقتين السابقتين (عريضة البيعة ورسالة الأمير)، فإن الموضوعية العلمية والتجرد من الأفكار المسبقة، يقتضيان الاعتراف بإعلان الإمارة الريفية سنة 1923 من لدن «أهل الحل والعقد من كبار الأمة الريفية..» على حد تعبير أمير “الريف والجبل“. وهذا عكس النظرة “الكلاسيكية” والمغلوطة التي قال بها أغلب الباحثين المغاربة والأجانب الذين لم يكونوا على علم ودراية بالوثائق التي تطرقت لبعضها قبل قليل، وبالأخص بعض الصحافيين الأوروبيين مثل “روبرت فورنو” الذي أورد في كتابه (عبد الكريم أمير الريف) “نداء” موجه إلى جميع الأمم نسبه للزعيم الريفي واعتبره بمثابة الوثيقة التي بموجبها «أعلن عبد الكريم استقلال دولة الريف» في يناير 1923. والأخطر ما في ذلك “البيان” المتصف بالغلو والمبالغة، أنه أصبح بعد ترجمته في العالم العربي وفي المغرب على الخصوص، مرجعا مزيفا ومغالطا لجل الدارسين، يستدلون به لإثبات إعلان «الجمهورية الريفية» اعتقادا منهم أن ابن عبد الكريم هو الذي أصدر ذلك “البيان” ووجهه إلى جميع الأمم (عصبة الأمم) للاعتراف باستقلال «جمهورية الريف»، في حين أصبحنا الآن نعرف أن الوثيقة الحقيقية التي أعلن الخطابي بواسطتها استقلال حكومته بعد مبايعته في 18 يناير 1923، هي وثيقة البيعة التي حررت مباشرة بعد ذلك (فاتح فبراير 1923). أما ذلك “البيان” الذي نص على عبارة «حكومة جمهورية الريف» وبالأخص النسخة التي ارتبط ظهورها بالمغامر الإنجليزي «غاردينير»، فإنه خطاب سياسي خارجي كان رائجا في الصحافة والدوائر الرأسمالية الأوروبية حتى قبل ظهور مصطلح الامارة الريفية نفسها التي كانت تُعرف في الوثائق الأولى التي وجهها ابن عبد الكريم بدوره، إلى عصبة الأمم على التوالي بـ “الهيئة الريفية” سنة 1921، و”الحكومة الريفية” سنة 1922، من ذلك مثلا، المذكرة المطلبية الموجهة باللغة الإنجليزية إلى عصبة الأمم بجنيف بتاريخ 6 شتنبر 1922، التي تحمل اسم وتوقيع كل من مـحمد بوجيبار وعبد الكريم اللوه والتي نصت على تسمية حكومة الريف الجديدة. أما تسمية «حكومة جمهورية الريف» فقد ظهرت في الخطاب البراغماتي والتعاقدي الذي وُثّق خارج الريف وعلى يد المغامرين الأجانب في مناسبتين، الأولى تتمثل في وثيقة ارتبط ظهورها بنفس المغامر الإنجليزي «غاردينير»، ويتعلق الأمر بالاتفاقية التجارية (أبريل 1923) التي وقعها مع الوفد الريفي بباريس المكون من سي امحمد والحاتمي. والمناسبة الثانية قُدمت خلالها تلك التسمية «الجمهورية» كتغطية سياسية “لشرعنة” لتلك الاتفاقية، وتتمثل في البلاغ الذي انفرد نفس «غاردينير» بإذاعته. وغني عن البيان، أن أكبر دليل على ذلك الارتباط المناسباتي والعابر لشعار «الجمهورية الريفية» بوثائق «غاردينير» المذكورة، هو سرعة اختفاء تلك الاتفاقية التجارية وذلك البلاغ معا، بعد أن آلا إلى الفشل. وذلك عقب انكشاف خداع واحتيال ذلك المغامر، وعودة سي امحمد إلى أجذير خاوي الوفاض (ماي 1923)، أي قبل انفراد ذلك المغامر بنشر البلاغ المذكور بنحو شهرين (فاتح يوليوز من سنة 1923). ومعلوم أن نصب واحتيال «غاردينير» سينفضح أكثر عندما عرض على الأمير مجموعة من الأوراق البنكية (الريفانات) التي كان مآلها البحر كما هو معلوم.

وغني عن البيان، إن دعوتي إلى نقد ذلك المنظور “الكلاسيكي” لإعلان الحكومة الريفية الذي كرسه المغامرون والوكلاء الأجانب، وذلك بالرجوع والاحتكام إلى وثيقة البيعة التي ظهرت مؤخرا إلى حيز الوجود بعدما ظلت مغمورة و”مجهولة” لمدة نصف قرن، لقمين وحده، أي ذلك النقد، برسم خارطة طريق جديدة تقودنا إلى فهم صحيح وسليم لماهية التسمية التي تبناها ابن عبد الكريم، ألا وهي تسمية الإمارة بدل “الجمهورية” دون أن يعني ذلك أن الخطابي خطط لإحياء نظام سياسي ماضوي نكوصي وعتيق لا يستقيم مع مشروعه السياسي التحديثي، بل اعتبر إمارته «ديمقراطية» وحكومته «ملائمة للقواعد العصرية». لذا أقول للسيد بلحاج عندما تتوفر على وثائق مخطوطة معاصرة للحدث تنص على عبارة “الجمهورية الريفية” على غرار تلك التي نصت على الإمارة الريفية، وتكون منبثقة من الداخل لا من الخارج، وتخاطب الريفيين أو عامة المغاربة، آنذاك، وآنذاك فقط، يمكن أن أعيد النظر في أطروحتي، فهي ليست قرآنا مُنزلا،  أما أن تستدل بأقوال وانطباعات لشخصيات حديثة العهد ومعاصرة لنا، فذلك لا يرقى إلى مستوى الوثيقة، ولا يمكن التعويل عليه، لأنه لا يعدو أن يكون رأيا شخصيا، عادة ما يجد تبريره في التوجه السياسي لصاحبه، أو في عدم علم هذا الأخير أصلا، بوجود شيء اسمه وثيقة مبايعة الأمير الخطابي. ومن ذلك مثلا، البطاقة التي تلقاها الأستاذ المرحوم محمد العربي المساري في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، من لدن نجل الخطابي المرحوم إدريس، والتي أثارها واستدل بها السيد بلحاج في الخلاصات التي انتهى إليها في الحلقة الأخيرة من حلقات “جذبته” الانتقادية، حيث تساءل كمن يمتلك الحقيقة النهائية والمطلقة: «لا أدري كيف تغاضى (أونيا) مثلا على ما أورده المرحوم العربي المساري حول مراسلاته الخاصة مع نجل الخطابي المرحوم إدريس الخطابي الذي يؤكد تأسيس الجمهورية»، وبرجوعنا إلى كتاب محمد العربي المساري (محمد بن عبد الكريم الخطابي: من القبيلة إلى الوطن، ط. 2012.ص.115)، نجده فعلا، يقول: «وفي بطاقة مكتوبة كالعادة بيننا، كان إدريس الخطابي قد أوضح لي أن رحلة بوجيبار إلى المنطقة السلطانية كانت بتاريخ 28 محرم عام 1342 موافق 10 أيلول/ سبتمبر 1923، وهو تاريخ مغادرة الوفد إلى أجدير (كذا). وأوضح لي أن الأمر كان يتعلق ببعثة تكونت من محمد بوجيبار، والشريف المنوبي التيجاني، ومحمد بوعزة. وكانت المهمة تشتمل على زيارة فاس للاتصال بالكولونيل شاستونيي، ومدينة الرباط للاتصال بالماريشال ليوطي والسلطان، وباريس للاتصال بالحكومة الفرنسية (…) وأضافت البطاقة أن المذبوح غدر بأعضاء الوفد وهم في طريقهم إلى فاس (…) فاجتمعوا بشاستونيي في فاس، بينما وجدوا ليوطي في إجازة في باريس، فاجتمعوا بنائبه الذي حرض المدعو عبد العزيز لحلو على عدم اتصاله بالسلطان، فسافروا إلى باريس »، ثم استطرد العربي المساري موضحا أنهم فشلوا في الاتصال بكبار المسؤولين بباريس وكذا الذهاب إلى جنيف لتقديم مذكرة احتجاج ضد اسبانيا، لدى عصبة الأمم في «محاولة الحصول على اعترافات بعض الدول بالجمهورية الريفية» . 116). لقد تعمدتُ إيراد هذه الفقرة رغم طولها، حتى أبين للسيد محمود بلحاج أن صناعة التاريخ لها مناهجها وقوانينها وقواعدها التي تمكن من قراءة ما بين سطور الخطاب وضبط ما تحت الحدث، فليس كل ما يكتبه الدارسون منهرطقات” و”بدع” تاريخية يعتبر صحيحا، فلقد علمتنا التجربة التعامل مع النصوص بيقظة وحذر وعين ناقدة، فما ورد في “البطاقة” المنسوبة للمرحوم إدريس الخطابي، ينطوي على لُبس وخلط ولغط وغلط، ولا أدري هل مرده الرسالة الأصلية لنجل الخطابي، أم هو ناتج عن التلخيص الذي قام به العربي المساري، لأن الوفد الذي توجه إلى فاس برئاسة السيد محمد بوجيبار عقب مبايعة الخطابي أميرا في مطلع سنة 1923، كان هدفه ودوره إيصال الهدية التي بعثها الأمير الجديد للسلطان، وليوطي، وشاستونيي، بيد أن السلطات الفرنسية حالت دون تحقيق ذلك، وهذا الأمر صحيح وسبقت إليه الإشارة في ما تقدم من الحلقات، لكن هذا الوفد لم يسافر إلى باريس، لأن الوفد الذي قام بذلك أول الأمر، أي في يناير من سنة 1922، كان يتكون من السيد محمد أزرقان، وعبد الكريم بن سي زيان، والسيد حدو بن حم البقيوي. وبعد رجوعهم، نظمت سفارة ريفية ثانية إلى باريس تكونت من سي امحمد شقيق الأمير، والسيد محمادي الحاتمي وذلك في نوفمبر من سنة 1922. أما السيد محمد محمادي بوجيبار فذهب في سفارة ثالثة هو والسيد عبد الكريم اللوه رفقة “جان أرنال” إلى إنجلترا في يونيو من نفس السنة أي، 1922. أما القول بأن الوفد الريفي كان يسعى إلى عقد صفقة تجارية مع المصانع الفرنسية، وكذا السعي للحصول على اعتراف بعض الدول بـ”الجمهورية الريفية“، فهذا ينطبق على السفارة الثانية التي تكونت من سي امحمد و الحاتمي. وبما أنني وضحت في كتابي (عبد الكريم وأسطورة الانفصال، ص. ص. 81-108) الحيثيات الدقيقة التي ارتبطت بكل سفارة على حدة، وبالأخص لحظة ظهور تسمية «الجمهورية الريفية» في بعض الوثائق المرتبطة بسفارة سي امحمد، كالعقد التجاري الموقع مع البريطاني “ألفريد ب. غاردينر” في 23 أبريل 1923 بباريس. فإني أكتفي هنا، بالقول إنه في الوقت الذي كان سي امحمد متغيبا بفرنسا في مهمته الدبلوماسية والتجارية يوقع على أوراق أعدها مسبقا بباريس، اللوبي الفرنسي والإنجليزي، استخدمت قاموسا اصطنعوه اصطناعا لترويج خطابهم بكيفية قريبة من الأفهام كما ذكر المرحوم العربي المساري، في ذلك الوقت كما قلت، كان أخوه محمد عبد الكريم الخطابي قد نودي عليه أميرا على الريف وجبالة كما رأينا (يناير-فبراير 1923). فلا يصح إذن، أن نستدل بوثائق كان مآلها الفشل، وثائق وبيانات أعدها مغامرون غدروا بابن عبد الكريم، سواء أكانوا من أعضاء اللوبي الإنجليزي (أرنال وغاردينر) أو نظيره ومنافسه الفرنسي (دوطايي ولوتوليي) الذين كان همهم الوحيد هو الفوز بحق استغلال معادن الريف التي سارت بذكرها الركبان، ونقول هذا دليل على تأسيس الخطابي “للجمهورية”، بينما في الحقيقة، كان الرجل قد أعلن استقلال دولته في إطار الإمارة التي انبثقت من الداخل كما تفصح عن ذلك الوثائق التي قدمتُ قبل قليل، بعضَ النماذج الدالة منها. ويكفي التذكير هنا، أن الديبلوماسية الريفية لم تتبن خطاب “الجمهورية”، بل كذّبته بشكل ضمني وغير مباشر، فبعد أسبوع فقط، من نشر “ غاردينر” لذلك البلاغ المؤرخ في فاتح يوليوز 1923، كتب السيد محمد أزرقان ناظر الخارجية في الحكومة الريفية، رسالة جوابية مطولة وجهها للكاتب العام للمندوبية السامية بتطوان ” دييغو سافيذرا ” بشأن مفاوضات الصلح بين الريف وإسبانيا، تحدث فيها عن مصطلح الريف ست مرات، والحكومة الريفية، خمس مرات، والشعب الريفي مرتين، ودولة الريف مرة واحدة، لكن دون أن يورد فيها تسمية «الجمهورية الريفية» ولو مرة واحدة.! ونفس الشيء ينطبق على الرسالة التي بعثها سي امحمد باسم شقيقه الأمير، إلى البرلمان الفرنسي بتاريخ 16/ 6/1925.

على سبيل الختم: من نقد ميثولوجيا “الجمهورية” إلى بشائر الاعتراف بحقيقة الإمارة الريفية.

وأخيرا، إذا كان السيد بلحاج يدعوني إلى إعادة النظر في أطروحتي والتراجع عن الخلاصات التي توصلت إليها في عملي المتواضع، خوفا من أن تسحب البساط من تحت أقدام “قناعته الإيديولوجية”، فإن غيره من المهتمين والباحثين ممن يقدرون البحث العلمي حق قدره، تعاملوا باحترام وبرزانة فكرية مع أطروحتي، ومن بين تلك الدراسات مؤلف “يساري” صدر بين سنتي 2019 -2020 ، عن مركز الخطابي لدراسة الحروب الثورية، بعنوان: “الخطابي ملهم الثورات المسلحة..“، ففي هذا المؤلف الذي، وإن لم يشر صراحة إلى كتابي (ربما لأنه كان ماثلا للطبع)، فإنه أورد تعليقا مركزا في أحد الهوامش، يتفق مع وجهة نظري بخصوص طبيعة الكيان السياسي الذي شيده الأمير بالريف، فهو يعترف أن الخطابي لم يؤسس “الجمهورية” بالمعنى الغربي للكلمة (كما يتصور السيد بلحاج)، وإن كان يعتقد أي، هذا الكتاب الجديد، أنها «تمت تسميتها “الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف”»، وهي تسمية لا تؤيدها الوثائق التي وصلتنا، ولذلك فهي، كما سبق لي أن وضحت في كتابي، تسمية “توفيقية-أنثروبولوجية” من وحي بعض الدارسين والزعماء السياسيين (شينار، ومحمد حسن الوزاني..)، ولربما جاز القول أنها تسمية “ميتا-تاريخية” ليس فقط، لكون سلطة الخطابي كانت “فوق-قبلية” وجديدة، بل لكون تلك التسمية “التوفيقية” التي تجعل نفوذ الخطابي محصورا داخل رقعة قبلية ضيقة (الريف بالمعنى الحصري)، تقصي لا محالة، باقي المناطق التي انطوت تحت لواء حركة الريف التحريرية، كمنطقة غمارة وجبالة وصنهاجة. وعلاوة على هذه التسمية التي توحي بنوع من التحفظ والاحتراز، يعترف مؤلفو هذا الكتاب صراحة: «أن الخطابي باختياره لاسم “الجمهورية” لم يقصد أبدا إقامة نظام علماني الفلسفة، بل على العكس من ذلك فقد كانت مرجعيته لا تخرج عن الشريعة الإسلامية… والغالب أن اتخاذ الخطابي لهذا الاسم يريد به أهدافا دعائية، ليدفع عن دولته شبهة الكيان الديني بالمفهوم المشوه لدى الغرب، وهو ما يفسر أن جميع مراسلاته الدبلوماسية لم ترد فيها كلمة الجمهورية بل “حكومة الريف” أو ” إمارة الريف”.» (الخطابي ملهم الثورات المسلحة، ص. 69، الهامش رقم 99.). وكما يمكن أن نتبين ذلك، فهذه الفقرة تلخص بشكل يكاد يكون حرفيا، ما سبق أن توصلت إليه في كتابي “عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال” من أن النظام الحقيقي للخطابي اتخذ تسمية الإمارة، أما لفظة “الجمهورية” فاستُعملت كخطاب خارجي ودعائي من طرف الصحافة والدوائر الرأسمالية الأوروبية ليس إلا. فهل يعترف السيد بلحاج، كما فعل مؤلفو الكتاب المذكور، بهذه الحقيقة التي أطالت كثيرا في “قاعة الانتظار” التاريخي، أم تراه سيواصل عملية الكر والفر ويوجه معاول نقده الهدامة نحو مؤلفي هذا الكتاب الجماعي ويتهمهم هم أيضا، بالسعي لتقزيم “المشروع السياسي الحداثي” للزعيم الخطابي.؟

انتهى

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق