في الحلقة الرابعة (من نوافذ سجنه الإيديولوجي) يعترف السيد بلحاج أن الهدف من قراءته “المهلوسة” لأطروحتنا ليس سوى «البحث والكشف عن الهفوات والتناقضات التي تحتويها» لا غير، بيد أن صيده كان مخيبا لأمله، بل كثيرا ما انقلب ضده كانقلاب السحر على الساحر، حيث عاد ليكرر ويجتر ما سبق أن قاله في الحلقة الماضية بخصوص النصوص التي اعتبرها بمثابة أدلة مقنعة، لكني حسب زعمه، تغاضيت عليها وتعمدت عدم مناقشتها، مثال ذلك، النص الذي اقتبسه عن بلقاضي، أو كذلك عن زكي مبارك وغيرهما مما لا مجال لتكراره هنا، كذا وثيقة مبايعة الزعيم الريفي بالإمارة سنة 1923، حيث حاول أن يطعن في القيمة والمصداقية التاريخية لتلك الوثيقة، مع أن كبار الباحثين الذين انتشلوها من ملف “أوراق عبد الكريم” كما تُسل الشعرة من العجين، وأخضعوها للدرس والتحليل، لم يشككوا في صحتها ومحتواها بل ترجموها إلى اللغات الأجنبية.
وبدل أن يناقشنا السيد بلحاج على ضوء فحوى تلك الوثيقة الدفينة ومنطوق مفاصلها، عاد في هذه الحلقة ليطعن في كفاءة “أهل الحل والعقد” الذين بايعوا الزعيم الخطابي، وشكك حتى في وجودهم ومؤهلاتهم وتكوينهم العلمي والفقهي، كما عاب علي عدم توضيحي لحيثيات بروز فكرة البيعة على مسرح الأحداث وسبب تأخرها إلى سنة 1923؟ وهي أمور حاولت تتبعها والوقوف عند أطوارها في كتابي بدءا من قَسم جُب القامة (1921) إلى اجتماع “دهار السلوم” (1923) مرورا بمحطة “أمزاور” و”مؤتمر ماورو” (غشت 1921)، وخاصة السياق الدقيق الذي تبلورت فيه تلك البيعة سنة 1923، فقد خلصت في دراستي تلك، إلى التمييز بين ثلاث محطات أساسية:
أولها اجتماع نخبة من العلماء والفقهاء (عددهم أربعة) على رأسهم العلامة محمد بن علي البوكيلي التوزيني المعروف ببولحية، إلى جانب أغلبية من أعيان القبائل الريفية ووجهائها (أيث ورياغل، بقيوة وبني بوفراح)، وهؤلاء الذين تحدث عنهم أزرقان في مذكراته (الظل الوريف. ص. 117)، وكذلك الكاتب الاسباني “هيرنانديث مير” H. Mir هُم من اجتمعوا في “ادهار السدْجوم” بأجذير يوم 18 يناير 1923 لمبايعة الخطابي، ولا يمكن الطعن في المؤهلات العلمية لأولئك الفقهاء، ولا في النفوذ السياسي لأعيان القبائل (إمغارن)، إذ يكفي أن نعلم أن بعضهم تقلدوا مناصب قضائية أو سياسية في الحكومة الخطابية نفسها.
والمحطة الثانية التي مرت منها سيرورة تلك البيعة، هي حفل تنصيب الأمير الجديد بعد مرور ثلاثة أيام من مبايعته، أي يوم 22 من نفس الشهر، وفيه أجهر الخطابي ببيعته، حيث سرعان ما انتقل خبرها إلى الحاكم الإسباني لحجرة النكور المحتلة ومنها إلى مليلية وتطوان وغيرهما، فضلا عن قبائل الجوار. وحسب أزرقان الذي كان بمثابة شاهد عيان، ألقى الأمير خطابا مدويا في الحاضرين بين فيه موقفه من الولاية المسندة إليه، وألح على أن إمارته ليست إمارة مُلك، وإنما هي إمارة جهاد (وهذا قبل تحرير وثيقة البيعة المعروفة).
أما المحطة الثالثة فكانت تزكية وتتويجا لمسار الخطابي السياسي والعسكري، حيث انعقد مرة أخرى بأجذير اجتماع موسع حضرته هذه المرة، قبائل غمارة وجبالة إلى جانب القبائل الريفية بالمعنى الحصري للكلمة، وكان الهدف من ذلك العرس السياسي الكبير إعادة تكوين الحكومة الريفية وتجديد هياكلها بعدما ظهرت عدة مستجدات لعل أبرزها انضمام جبالة وغمارة تحت لواء المقاومة التحريرية بقيادة الخطابي. وموازاة مع ذلك، تم توثيق البيعة التي أسندت للأمير الخطابي الذي بموجبها، أصبح لأول مرة يُعرف بـ”أمير الريف والجبل” بتاريخ 14 من جمادى الثانية عام 1341 هـ الموافق ليوم الاثنين فاتح فبراير 1923م. معنى هذا، أن توثيق عهد بيعة الخطابي لم يكن حدثا عابرا أو معزولا أو تم في السرية التامة، فهي تبلورت بموازاة تبلور الحكومة الريفية المعروفة نفسها، وبحضور الأمير وعلى نفقته، فلا يمكن إذن، التشكيك في مصداقية تلك الوثيقة التي تعد بمثابة “البنت الشرعية” لمبايعة 18 يناير إن جاز التشبيه، فهي لاحقة لها وليست سابقة عليها، كما أنها هي التي رسمت القواعد الأساسية التي قامت عليها الحكومة الريفية وحددت علاقة الحاكم بالمحكوم، وإلا سيتم التشكيك أيضا، في وجود تلك الحكومة أصلا.
وكما يتجلى من خلال أسماء الموقعين على تلك الوثيقة الشرعية، فهُم علماء وفقهاء لا ينتمون فقط، إلى الريف بمعناه الضيق، بل أيضا إلى مناطق تابعة لقلعية و أيث وليشك وغمارة وقبائل أخرى مجاورة، وهؤلاء العلماء والقضاة (الأفاضل) هم في الغالب، من خريجي جامعة القرويين، على غرار ابن عبد الكريم نفسه، و من ثم لا يمكن الاستخفاف بمستواهم العلمي، ولنا في التاريخ عدة نماذج من الفقهاء والعلماء الأرياف الذين لمع نجمهم في القرويين، أو اشتهروا في الريف بتضلعهم في أصول الفقه والفتيا و تولي خطة القضاء، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، العلامة والقاضي الشهيد سي محمد بن سي حدو أو عزوز الورياغلي، والقاضي عبد الكريم (الأب) وأخيه سي محمد (الملقب بالمنفوشة) الذي ذاع صيته كأحد أبرز العلماء بالقرويين، الذي أدرك شهرة كبيرة في الذكاء، إلى درجة استدعاه السلطان الحسن الأول لتعليم أبنائه. وباختصار، إن فرز هذه المحطات الثلاث الأخيرة التي مرت منها مبايعة الأمير الخطابي سنة 1923، لم يكن بالأمر الهين، بل تطلب مني النبش والتنقيب في مختلف المصادر والمظان مع عدم إغفال تتبع خيط الأحداث كما وضحت ذلك سواء في كتابي الرئيسي “عبد الكريم وأسطورة الانفصال”، أو كذلك في كتابي الثاني “عبد الكريم وإمارة الريف”، عكس ما يدعيه السيد بلحاج.
نفس الشيء فيما يخص تعاملي مع مذكرات أزرقان، فهو تحدث عن تلك البيعة اعتمادا على ذاكرته، ولذلك لم يتطرق سوى للسنة التي جرت فيها وقائع البيعة في “دهار السلوم” أي 1923، حيث ذكر أن ذلك حصل بعد مرور يومين على تاريخ تسريح القيادة الريفية للأسرى الإسبان (27 يناير 1923)، وهذا خطأ، بل بالأحرى سهو من طرف السيد أزرقان الذي ربما خانته ذاكرته فلم يتذكر كل الجزئيات. لأن البيعة حصلت يوم 18 يناير من تلك السنة، أما ما حدث بعد تسريح السجناء الإسبان فهو الاجتماع العام الذي حضرته القبائل الجبلية والغمارية إلى جانب الريفية أي، ما سميته بالمحطة الثالثة، وقد عرفتْ وقائع تجديد الحكومة الريفية وتدوين النص الشرعي لتلك البيعة التي تحمل تاريخ فاتح يناير 1923. فهل تعاملي مع مذكرات أزرقان كان تعاملا سطحيا ولم أنتبه إلى ما اعتراها من العوائق والنواقص كما زعم صاحبنا؟
وتحت عنوان فرعي سماه السيد بلحاج: “المبحث الثاني: الحركة الثورية الريفية بين القراءة السياسية والقراءة الدينية“، عاد الناقد إلى مسألة المشروع السياسي عند الخطابي، ليطرح مجددا، سؤالين هما:
هل كانت حركة الريف حركة جهادية أم أنها كانت وطنية تحررية؟ ولكنه بدل أن يقدم إجابة جديدة تدعم رأيه بخصوص طبيعة هذه الحركة، نجده يقفز، كما هي عادته، إلى أسئلة أخرى سأعود إليها بعد أن أوضح باختصار، تصوري لطبيعة الحركة الريفية، فلا شك أنها حركة تحررية وطنية كانت تروم تحقيق استقلال الريف وكافة المناطق الشمالية التي آلت إلى الحماية الإسبانية بعد سنة 1912. لكن الدين الإسلامي كان حاضرا في خضم تلك الحرْكة والحرَكة منذ البداية، فالأستاذ محمد عمر بلقاضي (الذي لطالما استشهد السيد بلحاج بكتابه) ذكر أن الأعيان الورياغليين لما اجتمعوا في مؤتمر إمزورن (21 فبراير1921)، برئاسة الفقيه محمد عبد الكريم الخطابي اتفقوا على محاربة الاستعمار الإسباني، و «أن يتمسكوا بالكتاب والسنة في جميع أعمالهم، وأن يتحدوا وينسوا الأحقاد». وأن أول اقتراح اقترحه الزعيم على الحاضرين، يضيف بلقاضي، هو أن «يعاهدوا الله على المصحف الكريم على ما يلي: 1- يعاهدوا الله على أن يدافعوا عن وطنهم. 2- بأن يلتزموا بتنفيذ الأحكام الشرعية على كل من صدرت منه جريمة.»، (أسد الريف. ص. ص. 98-99). وهذا ما نصت عليه بالحرف، وثيقة بيعة الخطابي: «أخذ عليهم في المصحف العقود والوفاء بالمواثيق والعهود فأسس بنيانهم عليها والمؤاخذة بمقتضاها، ثم نظمهم وعلمهم كيفية الحروب والدفاع عن الوطن…» فالحرب الريفية كانت حربا تحريرية بالدرجة الأولى (الوطن) تعاهد قادتها منذ البداية على المصحف الكريم مما يضفي نوعا من “القدسية” و”الشرعية” على تلك الحركة التي تلزم أعضاءها بالاتحاد والوفاء والتضامن من أجل مواجهة الاحتلال الأجنبي (الدين)، وهكذا، فالمحارب البسيط على الأقل، كان يعتبر نفسه مجاهدا يدافع عن أرضه، وإذا لقي حتفه في تلك الحرب التحريرية، اعتُبر في نظر إخوانه، من عداد الشهداء. ويذكر كثير من الدارسين وبالأخص المحليين منهم، كالعربي اللوه (المنهال. ص. 257)، و محمد محمد عمر بلقاضي (أسد الريف. ص. 98)، وأحمد البوعياشي (حرب الريف ج.2. ص. 49)، أن الأمير الخطابي كان يلهم حماس الجمهور بخطبه الدينية الإقناعية ومواعظه “الجهادية“، وهذا ما وقف عليه مثلا، الأستاذ العربي المساري أثناء زيارته العلمية لمنطقة الحسيمة في صيف 1972 واتصاله ببعض الرجال الذين شاركوا في تلك المقاومة المجيدة حيت كتب يقول: «وسمعت من شاهد عيان، أن مفعول مواعظ من هذا القبيل كان لها وقع ملموس في تكتل بني ورياغل ثم جلب القبائل المجاورة إلى الحركة الجهادية»، (المساري، محمد بن عبد الكريم الخطابي، ص. 43). ولفظة “الجهاد” أو المقاومة “المجاهدة” ينبغي أن تُفهم في سياق زمانها، وليس انطلاقا من الحمولة القدحية التي تنسب لها في وقتنا الراهن. وليكن في علم السيد بلحاج أن الأمير الخطابي استخدم نفس المصطلح أي “الجهاد” للتعبير عن النضال والمقاومة التي قادها أبناء المغرب الكبير ضد الاستعمار الأوروبي منذ احتلال فرنسا للجزائر، كما اعتبر “جهاده” امتدادا لمدرسة الأمير عبد القادر الجزائري، فقد كتب الخطابي في مقال قدم به رواية “إدريس” للكاتب والمناضل علي الحمامي (الجزائري) سنة 1948، يقول: «فقد جاهد المغرب ولله الحمد خير جهاد عند نزول الفرنسيين الغزاة أرض الجزائر سنة 1830 حتى أيامنا هذه (…)، منذ العهد الذي ظهر فيه ابن وطني البار وأستاذي الكبير في الجهاد الأمير عبد القادر الجزائري..». (العربي المساري، محمد بن عبد الكريم الخطابي، الملحق وثيقة 6.). كما ربط بين الديني والوطني في نداءاته التي وجهها للمغاربة المسلمين.
والغريب أن السيد محمود بلحاج الذي تنكر أن تكون الحركة الريفية حركة “جهادية”، نجده، في مقال له نشرته مؤخرا «أرابيكا نيوز» بتاريخ 23 أكتوبر 2023 يتعلق بموضوع «الخطابي وعز الدين القسام والثورة الفلسطينية»، نجده كما قلت، يتحدث عن إرسال الخطابي لآلاف المقاتلين من شمال إفريقيا «للجهاد في فلسطين» على حد تعبير بلحاج، وذلك على أثر اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948، وهذا صحيح، ولكن هل المقاومة “الجهادية” التي نظمها الخطابي في الريف شيء (مرفوض)، والنداء الذي أطلقه لـ«الجهاد» في فلسطين شيء آخر (مقبول)؟ فلماذا لم يتحفظ السيد بلحاج من استعمال عبارة «الجهاد» في فلسطين، مثلما فعل بالنسبة للريف؟ وهل إعلان «الجهاد» هنالك في المشرق كان يندرج ضمن عملية تحرير الأرض أم من أجل طرد الصليبيين والنصارى واليهود؟
لا يكترث السيد بلحاج بمثل هذه التناقضات التي يسقط فيها وهي كثيرة، لأن شغله الشاغل في قراءته المتهافتة والمتعسفة هذه، ليس هو قوة المحاجة الفكرية، بقدر ما هو السعي لمحاصرة والإجهاز على كتابي بكل الطرق والسبل الممكنة (لكن كمن ينطح الجبل!..)، والسبب واضح، وهو أن هذا الكتاب يسحب البساط من تحت أقدام “عقيدته” الإيديولوجية وفكره المستلَب، وفعلا، عندما شعر بانفلات تلابيب “الجمهورية” من بين يده بعدما اعترف أنها لم تتجاوز دائرة المناقشة النظرية، حاول مجددا، التمسك والاستنجاد بموضوع حساس ومثير لعله يكسب عطف القراء كما توهم، ألا وهو المشروع السياسي للخطابي وعلاقته بالسلطان، أما القضايا التاريخية الأخرى التي عالجتها في مؤلفي فلم يعرها أي اهتمام (كموقف الخطابي من الإمارة و”الجمهورية” مثلا)، ولا غرابة في هذا مادام أن الناقد اختزل كل انتقاده في البعد السياسوي الضيق بالدرجة الأولى. فغرضه ليس هو التفاعل الإيجابي مع كتابي بهدف إغناء النقاش البناء وتعميق البحث في تاريخنا المحلي، بل هو تقديمه قسراً، أي الكتاب، في صورة معارضة ومناهضة للمشروع السياسي عند مولاي موحند، كيف؟ يجيبنا السيد بلحاج بالقول:
– أولا، لأن السيد أونيا كتب: «إن “الجمهورية” لا تترجم “المشروع السياسي” الحقيقي الذي كان يتطلع إليه ابن عبد الكريم منذ أن تفتق وعيه السياسي بفاس لما كان طالبا بالقرويين، وأن المثل الأعلى الذي كان يصبو إليه شبيه إن لم أقل هو نفسه النموذج الذي عبرت عليه “الأنتلجينسيا” المغربية بفاس في بداية القرن العشرين». إن فكرتي هذه، لم يستسغها السيد بلحاج وما كان ليتقبلها، لأنه ينطلق من فكرة مسبقة وجاهزة وهي أن “الجمهورية الريفية” بمدلولها الغربي، لا يمكن أن تستمد مرجعيتها إلا من القوانين والمصادر الغربية نفسها، وليس من المرجعية العربية الإسلامية. وسيترتب عن هذا المنطق القول أيضا، إن الأفكار السياسية للأمير الخطابي هي كلها أفكار غربية وحداثية ولا يمكن أن تكون محلية أو عربية إسلامية! وهذا أغرب ما يمكن أن يقرأه المرء في خزعبلات وأباطيل السيد بلحاج الذي لم يقدم ولو دليلا واحدا على تلك الأفكار الغربية الجديدة المزعومة لدى الأمير الخطابي غير تلك التي أشرتُ إليها. وما أشرتُ إليه هو النموذج السياسي الجديد الذي طرحته وطالبت به نخبة “متنورة” من العلماء المغاربة والمشارقة بفاس وطنجة، مثل إيجاد دستور للبلاد، وتأسيس مجلس للأمة (برلمان)، وفصل السلط، وفتح مدارس عصرية وإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وهي أفكار ومطالب كانت جديدة في ذلك الوقت، ومعارضة للنموذج المخزني الحاكم. على أن الخطابي الشاب لم يتأثر كما هو مرجح، بهذه الأفكار “السلفية الجديدة” بفاس، والديمقراطية عن طريق قراءته للصحف الصادرة بطنجة فحسب، بل انضافت إلى رصيده ذاك، بوارق تحديثية وإشراقات حضارية اكتسبها أثناء مقامه بمليلية. وما جعلني أميل إلى هذا الاعتقاد، ليس فقط ما توصل إليه الدارسون المهتمون بهذا الموضوع سواء المغاربة أو الأجانب، بل ما أنجزه الخطابي على أرض الواقع كذلك، فمن الناحية السياسية والإدارية قام بالفصل بين السلطات التشريعية (مجلس الأمة)، والتنفيذية (مجلس الوزراء أو النظار)، والقضائية (محاكم جديدة). بالإضافة إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية (المالية والضرائب)، والشروع في أوراش طموحة كشق الطرق، وبناء بعض المدارس العصرية والتفكير في إرسال بعثات طلابية إلى الخارج، وإقامة شبكة الهاتف وربطتها بالمحاكم (إدارات)، وغير ذلك من الإصلاحات والتنظيمات العسكرية الجديدة (جيش نظامي)، غير أن ظروف الحرب المفروضة لم تسمح بتحقيق كل ما كان يصبو إليه الأمير الخطابي. فهذه الإصلاحات التحديثية وغير المسبوقة تمت في إطار دولة إمارة ريفية على رأسها أمير هو محمد بن عبد الكريم الخطابي، لأن سلطته استُمدت من البيعة، ووثيقة البيعة الشهيرة هي التي “شرعنتْ” تلك السلطة وقامت بتزكيتها. وهذا ما لخصته في العنوان الرئيسي للباب الثاني من كتابي الأول، والذي أسميته” الأسس الشرعية للإمارة الريفية بين المرجعية الإسلامية واستراتيجية التحديث” (الخطابي وأسطورة الانفصال، ص. 199).
-وثانيا، عن طريق تأويله الخاطئ للفكرة السابقة وسياقها (أي تأثر الخطابي بالنموذج السياسي الذي طرحته الأنتلجانسيا المغربية)، والتي قد يُفهم منها- حسب افتراضه-أن الخطابي الشاب كان يخطط لتأسيس “الإمارة الإسلامية” منذ أن كان بفاس، مما يعني حسب تأويل الناقد، أن الخطابي كان يتطلع للسلطة وبالتالي للانفصال عن “الشرعية المخزنية” وهذا يتناقض، حسب تأويله دائما، مع ما قلته في كتابي من انتفاء فكرة الانفصال لدى الزعيم الريفي. وفي رأيي إن من يتمسك بمثل هذا التأويل السخيف في حاجة إلى مراجعة معلوماته التاريخية المتعلقة بتلك الفترة تحديدا، لأن محمد عبد الكريم لما التحق بفاس للدراسة، كان والده ما يزال على قيد الحياة، أي كان هو صاحب الأمر والنهي. ثم إن الأسرة الخطابية كانت قد دخلت للتو في “حزب أصدقاء إسبانيا”، أي أنها كانت ما تزال تؤمن وتراهن على التعاون مع الدولة الإسبانية، فكيف لها أن تفكر، آنذاك، في تكوين نواة إمارة انفصالية في الريف وهي لم تستطع بعد، تكوين حتى حرْكة قبلية، أو قادرة أن تجد لها موطأ قدم في خضم الأحداث المتعاقبة والمتسارعة (التصدي لبوحمارة الذي ثار ضد المخزن، اندلاع مقاومة الشريف محمد أمزيان، ظهور عبد المالك ومناوشة فرنسا في المغرب، اندلاع الحرب العالمية الأولى والتدخل الألماني في الريف…). ففكرة تأسيس “هيئة محلية مستقلة” لمناهضة الاستعمار الإسباني لم تراود الزعيم بن عبد الكريم حسبما أرجح، إلا بعد “القطيعة” مع إسبانيا (1919)، ووفاة والده (غشت 1920). وبشكل جلي منذ تأسيس حرْكة تمسمان بجُبْ القامة (ربيع 1921)، أما القول بأنه كان يخطط لتأسيس “إمارة إسلامية” منذ كان طالبا بفاس، فهي فكرة جد مستبعدة ومجانبة للصواب. صحيح أن تأثر عبد الكريم الشاب بالأفكار الجديدة والمعارضة للسياسة المخزنية، جعله يتعاطف إن لم نقل يضم صوته إلى صوت النخبة المغربية المعارضة للاستبداد المخزني الذي عجز عن إصلاح الأوضاع العامة المتردية، وإنقاذ البلاد التي كانت قاب قوسين أو أدنى من السقوط بين مخالب الاستعمار عقب مؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، لكن يبدو أن موقف الخطابي الشاب من “مؤسسة السلطان” (عبد العزيز) لم يخرج عن دائرة موقف العلماء المعارضين والأعيان الذين عزلوا السلطان عبد العزيز وبايعوا أخاه عبد الحفيظ بيعة مشروطة. بل حتى والده وقبيلته الورياغلية، كما أثبتت الدراسات التاريخية، ناصرت السلطان الحفيظ ضد بوحمارة (رشيد يشوتي، إسبانيا والريف والشريف محمد أمزيان. 2011. ص. 58)، فالقاضي والد محمد عبد الكريم الخطابي كان من بين الوجوه المحلية البارزة التي رفضت الامتثال لأوامر “الفتان” بوحمارة، حتى أنه راسل النائب السلطاني بطنجة (محمد العربي الطريس) يخبره بأن: «أهل القبيلة الورياغلية رفضوا قول الفتان وامتنعوا من السماع له وطلبوا التوسط لهم عند الجناب الشريف..»، (رسالة جوابية موجهة من الطريس للقاضي الخطابي، أوردها الطيبي والإدريسي. التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي. ص. 45). فكيف يمكن للطالب محمد عبد الكريم الخطابي أن يفكر في “الانفصال” عن السلطان (عبد العزيز) بينما والده يعد من الذين ناصروه ودافعوا عن شرعيته؟
على أن غرابة السيد بلحاج لم تقف عند هذا الحد من التهور والاضطراب الفكري، فقد زعم أنني لم أبين المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها للقول بأن الأمير الخطابي تأثر بالتيارات الفكرية (السلفية التجديدية وليس التقليدية، والتيارات السرية التحديثية كجماعة الدستور وربما حتى تركيا الفتاة)، في حين أنني أشرت إلى أكثر من سند في كتابي (الخطابي وأسطورة الانفصال. ص. ص. 248-254). ولا بأس أن أكتفي هنا، بخصوص المصادر الفكرية التي تأثر بها الخطابي الشاب، بالتذكير بما توصل إليه أبرز الدارسين المختصين في هذا المضمار، مثل: “ب. شينار” و”دايفيد هارت” اللذان اعتبرا الإصلاحات التي أدخلها الخطابي إلى المجتمع الريفي، إصلاحات ترتكز على قاعدة السلفية التجديدية، وكذلك ما أكده الأستاذ عثمان أشقرا (في الفكر الوطني المغربي. سلسلة المعرفة للجميع. العدد 17، 200. ص. ص. 81 و 96-97.) والأستاذ محمد أقضاض، في مقاله: «رؤية التحديث في تفكير محمد بن عبد الكريم الخطابي»، (مجلة دفاتر الشمال. العدد 4. 2000. ص. 79.) كما تأثر بأفكار الحركة الدستورية أو جماعة دستور 1908 التي كانت تصدر صحيفة “لسان المغرب” بطنجة، والتي لا شك أن الخطابي كان يقرأها أثناء استقراره بمليلية، تماما مثلما كان يقرأ وينتقد جريدة “السعادة” التي كانت تصدر هي الأخرى بطنجة. فمن خلال المقالات التي كان الخطابي ينشرها باللغة العربية في الجريدة الإسبانية “تلغراف الريف“، أمكن لجرمان عياش أن يستنتج درجة عالية من الحس الوطني والوعي التحديثي لدى أمير الريف، وهذا ما اعترف به وزكاه مؤرخ مغربي لا يلقي بالكلام على عواهنه بل يزن كلماته، وهو المرحوم محمد المنوني الذي كتب في معرض حديثه عن مشروع التحديث الذي طرحته جماعة الدستور سنة 1908 يقول:
«ننتقل الآن، إلى عرض بعض التأملات النابعة من حس وطني، ووعي بالتحديث، والقصد-أولا- إلى الأمير عبد الكريم الخطابي وكان يساهم في جريدة “تلغراف الريف” الاسبانية اللسان عام 1911، فيثير بها أفكارا يمكن تلخيصها- حسب ج عياش- في ثلاثة: – التمييز بين أوربا الحضارة والتقدم، – أوربا الاستعمار والغزو. الأولى علينا أن نرحب بها ونقبلها، بل نتعاون معها، والثانية نرفضها ونقاومها.» (محمد المنوني، “صور من الانبعاث المغربي في عصر السلطان الحفيظ”. مجلة دار النيابة، العدد 17. شتاء 1988، ص. 3).
إلى جانب التأثير المحتمل لجماعة الدستور سنة 1908، أشرت أيضا، إلى مرجع مهم من المراجع التي أفصحت عن تأثر الخطابي بحركة الدعوة إلى “الجهاد” والدفاع عن الوطن التي تزعمها أحد أقطاب المعارضة بفاس، والذي ساهم في الإطاحة بالسلطان عبد العزيز، ومبايعة أخيه عبد الحفيظ بيعة مشروطة، ألا وهو الشيخ محمد الكتاني الذي اغتيل بأمر من هذا الأخير (ماي 1909). ففي تقديم حرره الخطابي قبل وفاته بمصر، لكتاب «أشرف الأماني بترجمة الشيخ سيدي محمد الكتاني»، الصادر سنة 2005. عبر الأمير في ذلك التقديم، عن انتصاره وإعجابه وتعاطفه الكبير مع الشيخ الشهيد، واصفا في ذلك التقديم: «ما كانت تكتبه جريدة السعادة-لسان حال المستعمر التي كنت أقرؤها- تنتقد الشيخ الشهيد، وتطعن في أنصاره من كبار المغرب». نلتقط ونقرأ أيضا في ذلك التصدير، إشارة دالة حيث سجل الأمير الخطابي على السلطان عبد الحفيظ عدم سعيه «لتأليف مجلس الأمة» وهو المشروع الذي عمل هو على تحقيقه لاحقا، كما أسلفت، لما شيد حكومته الفتية بالريف. وإذا أضفنا إلى كل هذا، أن الخطابي عندما كان بمليلية، بقي على اتصال بأبرز شيوخه الذين انتقلوا من فاس إلى طنجة كالعالِميْن عبد الصمد ومحمد كنون، أمكننا بعد ذلك القول بدون أدنى تحفظ أو احتراز، بعدم وجود “قطيعة” بين الفكر الذي تشبع به الأمير الشاب لما كان طالبا بالقرويين، وتلك الإشراقات التحديثية الغربية التي انضافت إلى رصيده الثقافي والسياسي عندما انتقل إلى مليلية.
أما من يدعي بأن أفكار الخطابي الثورية نهلت من مرجعية غير تلك التي ألمحنا إليها أعلاه، فعليه أن يثبت ذلك بالملموس وليس بالمهموس.