د. محمد أونيا
الحلقة الثانية
في الحلقة الثانية من حلقاته “البهلوانية”، توقف السيد بلحاج عند عنوان كتابي: «عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال، حفريات نقدية في خطاب الجمهورية الريف (1921-1926)»، ودون أن يميز بين العنوان الرئيسي والعنوان الفرعي، مزج بينهما بشكل ميكانيكي لا يخلو من تعسف، مما أدى إلى تحريف المغزى المراد من هذا العنوان، حيث ربط تسمية “الجمهورية” بلفظة “الأسطورة”، في حين أنني تعاملت مع تلك التسمية كخطاب يحتاج إلى قراءة تنقيبية، فاستجلاء مكامن هذا الخطاب قمين وحده بتعرية أسطورة وتهمة الانفصال (عن بقية البلاد) التي نُسبت للخطابي عن غير حق، ليس فقط من طرف ليوطي ومن كان في زمرته، بل أيضا من طرف المخزن المغربي وحاشيته، من عهد الحماية إلى الزمن الراهن. فكلما تناهت كلمة “جمهورية الريف” إلى مسامع “الآخر”، إلا وقفزت فكرة الانفصال إلى الأذهان، فتصير بذلك تلك الكلمة عبارة “مسكوت عنه” أو “عقدة” لدى البعض من جهة، ومدعاة للفخر والاعتزاز لدى البعض الآخر (اليسار والتيار التقدمي عموما) من جهة ثانية. وهكذا بقيت فكرة “الجمهورية” تدور في حلقة مفرغة دون تحقيق التجاوز الممكن، وتحرير تاريخ عبد الكريم من أسْر هذا التأويل وسوء الفهم المزدوج. فمن الجائز إذن، القول إن عنوان الكتاب موضوع القراءة، يروم تبديد هذا السوء الفهم المزدوج عبر تفنيد تهمة الانفصال التي عادة ما يتم اختزالها بشكل تعسفي في لفظة “الجمهورية”. وانطلاقا من تفسيره الشخصي لعنوان كتابي الآنف الذكر، أثار الناقد نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى، يرى السيد بلحاج أن دفاعي عن براءة الخطابي من تهمة الانفصال والخروج عن السلطة الشرعية (السلطان) أوقعني في ما أسماه «الرؤية التقليدية للموضوع» والتي تقول إن الخطابي كان سيسلم السلطة للسلطان بمجرد تحرير البلاد وطرد الاستعمار. وهذه الفكرة التي قال بها الأستاذ علال الفاسي، ذكرتها في كتابي من أجل نقدها واستبعادها، لا لكي أستدل بها أو أتبناها كما فهم ذلك خطأ قارئنا السيد بلحاج. وهنا سوف أتفق معه على أن الخطابي لم يصرح بتلك الفكرة، كما أتفق معه على كونه لم يطمح يوما إلى الانشقاق والخروج عن “الجماعة”، هذا تحصيل حاصل، لكني لا أشاطر السيد بلحاج نفس الرأي حين قال: «إن الخطابي نفسه لم يتحدث يوما عن الانفصال والتمرد عن السلطة الشرعية». لأن الخطابي تحدث عن ذلك من باب السياسة الاستباقية، حيث توقع بحدسه وفراسته السياسية، أنه سوف يصبح موضوع تهمة الانفصال عن باقي البلاد والتمرد على السلطان بمجرد ما ينتشر خبر مبايعته، وهي تهمة كانت تنسب لكل متمرد على السلطة المركزية كحالة المدعو بوحمارة مثلا، ولذلك سارع الأمير الخطابي منذ البداية، إلى درء واتقاء شر خصومه، وإبعاد كل شبهة تجعله خارج الشرعية القانونية أو تترك عنه انطباعا سلبيا لدى الشعب المغربي. وهكذا، ومباشرة بعد تلقيه البيعة (18 يناير 1923)، تقدم الأمير خلال حفل تنصيبه الذي أقيم يوم 22 من نفس الشهر، أمام الحاضرين وألقى خطبة مطولة ختمها بالقول: «وفي نيتي أن أكتب أيضا للسلطان مولانا يوسف، وأوجه إليه هدية على قدر الحال، ليتحقق بأننا منقادون لأوامره التي يقضي الدين علينا بطاعته فيها، خصوصا حيث بلغه مبايعتكم لنا، فيظن أننا خارجون عن الطاعة، وبالكتاب إليه ينجلي هذا الوهم عن الحضرة الشريفة». (الظل الوريف. 2022. ص. 120). هذا الكلام الذي دونه القاضي السكيرج عبارة مما أملاه عليه أزرقان بعد نحو سنة من استسلام الزعيم الخطابي. صحيح، ينبغي أن نحتاط من رواية أزرقان رغم مكانته كناظر للخارجية في الحكومة الريفية، حتى لا ننسب للخطابي ما لم يصرح به، ولكن المؤرخ كما هو معلوم، له من الأدوات النقدية والأسلحة المنهجية ما يجعله يهتدي إلى تبين الخيط الأسود من الأبيض في كل خطاب كما في مثل هذه الرواية، وأعني بذلك منهجية التاريخ المقارن. فإذا قارنا مضمون ما جاء على لسان أزرقان أعلاه، بما سيصرح به مولاي موحند لاحقا، لمجلة “آخر ساعة” المصرية، عدد 24/4/1957، سنجد تطابقا كبيرا بين الرأيين، فلقد ذكر الخطابي أنه مباشرة بعد تلقيه البيعة، بعث رسولا خاصا للسلطان هو نسيبه محمد بوجيبار، حمل إليه هدية عبارة عن فرس عربي أصيل وهدايا أخرى، لكن السلطات الفرنسية منعت الوفد الريفي من الوصول إلى السلطان (محمد أمزيان، عبد الكريم الخطابي آراء ومواقف، 2010. ص. 139. وكذلك: عبد الكريم الخطابي، التاريخ الآخر.2021. ص.199.). ويذكر الصحافي الفرنسي جاك مارسيلياك في الحوار الذي أجراه مع الأمير بالريف (20 يناير 1925)، أنه لما سأله عن موقفه من السلطان مولاي يوسف، أجابه الأمير: «كتبت إليه مرارا بأن يضع حدا لتعدي الاسبانيول بما له من صفة سلطنة المغرب، فلم يجاوبني ولا مرة». وأضاف ذلك الصحفي أنه لما سأل الأمير حول صحة الإشاعة التي كانت تروج آنذاك، من كونه كان يرغب في الزحف على فاس ليبايعه الناس سلطانا بضريح مولاي إدريس، أجابه الخطابي: «هذه كلمات مسلوب من العقل، وأنا والحمد لله أظن نفسي عاقلا»، (النص الكامل لهذه المقابلة في ملحق كتابي ص. ص. 330-332). بل أكثر من ذلك، أكد الباحث المصري حسن البدوي في أطروحته، نقلا عن مذكرات الخطابي (نسخة علي الحمامي) أن الخطابي وجه، قبيل اجتماع القامة بشهرين، رسالة إلى السلطان يوسف جاء فيها: «إن حكومة أجدير المؤقتة… لتلجأ إلى جلالتكم لتعلنوا لفرنسا أنها بعملها هذا قد اعتدت على قسم من رعاياكم…»، (حسن البدوي، محمد بن عبد الكريم الخطابي، ودوره في تحرير شمال افريقيا. 2017. ص. 45. ذكرته كذلك مادارياغا، الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال. ص. 438). وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي كان على وعي تام بخطورة تهمة الانفصال، لذلك دافع عن براءته وعن نبل حركته التحريرية منذ بزوغها، فهو إذن، ليس في حاجة لمن يدافع ويترافع عنه اليوم. أما مسألة “شرعية السلطان” فكانت صورية حقا، وهذا يعترف به الجميع، والسبب راجع إلى انفراد الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالسلطة الحقيقية في ذلك العهد، ومع ذلك ظلت تلك “الشرعية” قائمة في الظل، وكورقة احتياطية قد يلجأ إليها المقيم العام الفرنسي نفسه، لاستصدار الظهائر مثلا، أليس باسم تلك “الشرعية” الرمزية حارب المارشال ليوطي عبد الكريم عندما ألب عليه السلطان يوسف؟ وحتى محمد الخامس ظل يحتفظ بتلك “الشرعية” الرمزية في أعين المغاربة في عهد الحجر والحماية، وإلا لماذا انتفضوا عندما عُزل ونفي؟.
النقطة الثانية، وفيها اتهمني السيد بلحاج بالسعي إلى النيل من المشروع التحديثي لمحمد بن عبد الكريم عبر وسيلتين– حسب قوله- هما: إظهار ذلك المشروع بمظهر سلفي تقليدي شبيه بالنسق المخزني أولا، وربطه بالجهاد ثانيا. فبالنسبة للوسيلة الأولى، استدل السيد بلحاج بما قلته في كتابي من أن الأمير شيد في الريف «حكومة محلية مستقلة عن الحماية الإسبانية غلبت عليها قوانين الشريعة الإسلامية، حكومة تشبه من حيث الشكل، النموذج التقليدي للمخزن المغربي بجيشه ورايته وإدارته وباقي رموز الدولة الأخرى، لكنها، في نفس الوقت، تنزع نحو الإصلاح والتحديث رغم طابعها التقليدي». وهذه حقيقة ليست بالجديدة كليا، بل قال بها أيضا، كبار الباحثين مثل “بينيل” و”مادارياغا” وقبلهما جرمان عياش وغيرهم كالأستاذ عثمان أشقرا، وذلك انطلاقا من دراستهم لمنجزات الخطابي على أرض الواقع من هياكل ومؤسسات، وليس انطلاقا من كلام فضفاض وفارغ كما يفعل السيد بلحاج. وأكاد أتحداه أن يأتي بنموذج واحد من المشاريع التحديثية التي طبقها الخطابي في الريف، يراها السيد بلحاج منافية ومناقضة لما أوردته في كتابي (عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال)، وحتى الأنتربولوجي الأمريكي دايفيد هارت الذي يستشهد به السيد بلحاج كثيرا في قراءته هذه، كتب في كتابه أيث ورياغر: «كانت بنية الحكومة المخزنية إذن، هي النموذج الذي اعتمده ابن عبد الكريم لبناء دولته الأصغر حجما» (أيث ورياغر، ج.2. ص. 726). فهل حتى دايفيد هارت سعى للنيل من المشروع التحديثي لمحمد عبد الكريم الخطابي؟ ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على “الجهاز المفاهيمي” الذي استخدمته القيادة الريفية لوصف وتسمية دواليب حكومتها الجديدة، لنجد أنها استعملت في كثير من الأحيان، مصطلحات شبيهة بتلك التي ارتبطت بنظم الإدارة المخزنية المغربية، يقول هارت أيضا، في هذا الصدد: «وتماشيا مع نموذج الحكم المغربي، فإن ألقاب أعضاء حكومة ابن عبد الكريم كانت عربية وليست أمازيغية» (هارت، أيث ورياغر،2016. ج.2. ص. 736). من بين تلك الألقاب والمصطلحات الأخرى كثيرة، نورد مثلا: “المخزن الريفي“، “القائد”، “قائد المشور”، “قائد ارحى”، “قائد الطابور”، “الباشا”، “الحفاظ”، “الأمين”، “المحتسب”، ” الحرْكة”، “الرعية” وغيرها، زيادة على التعابير والألفاظ التي استعملت في مراسلات القيادة الريفية، و التي تشبه في كثير من الأحيان، لغة الظهائر والمراسلات المخزنية، أضف إلى ذلك بعض الألقاب التي كانت شائعة عند عامة الناس ، مثل “سيدنا”، و”السلطان” (أزْدْجيذْ)، و”مولاي” الخ..
وكما نرى، فهذا “القاموس” لم يكن ابتكارا محليا، بل كان متداولا لدى عموم المغاربة. ولم يكن استخدامه في الريف يشكل أي “عقدة نقص” بالنسبة للقيادة الريفية كما يحصل اليوم عند البعض أمثال السيد بلحاج. بل لربما جاز القول إن حكمة وعبقرية “مولاي موحند” تكمن في هذا “التكتيك” السياسي الذي يقوم على خطة فهم الواقع المحلي لـ”تثوير” البنى التقليدية من الداخل، فلا عيب إن استخدم الخطابي لغة إدارية وسياسية أقرب إلى فهم الناس وعقولهم، بدل استيراد وإسقاط مفاهيم أجنبية رنانة وغريبة عن البيئة الريفية. ومع ذلك، وحتى لا يُفهم كلامي خطأ، أشرتُ إلى أن هذا التشابه الملحوظ بين “المخزن المغربي” و”المخزن الريفي” (كما سمي في بعض الوثائق المحلية)، انحصر في الجانب الشكلي فقط، ولم يتعداه إلى الجوهر. إذ من الناحية الجوهرية والاستراتيجية، توحي الإصلاحات الجديدة التي طبقت في الريف آنذاك، أن الخطابي لم يكن يرغب في إعادة إنتاج النموذج المخزني، أو الرجوع إلى الوراء من أجل إحياء نموذج قهري ماضوي، بل كان يسعى لتشييد حكومة طليعية منفتحة على الغرب وعلى منجزاته لتحقيق التقدم المنشود، وجلب الاستثمارات الأجنبية الضرورية لتحقيق إقلاع اقتصادي وتقني وثقافي واجتماعي شامل، لكن دون السقوط في تقليد أعمى لذلك الغرب. فمباشرة بعد انتصار أنوال، خاطب الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي المنتظم الدولي في رسالة وجهها إلى مندوب بريطانيا في عصبة الأمم عبر مبعوثها بطنجة في شهر دجنبر 1921: «إننا شعب حر يرغب في الحفاظ على استقلاله كما كان دائما إلى يومنا هذا، لكننا نعترف بضرورة الاستفادة من الإرشاد والتوجيه من أوروبا المتحضرة في تلك المجالات المتعلقة بالحياة وحاجياتها، كما نتوسل من الدول العادلة أن تمد إلينا يد العون وترفع عنا الأذى الذي تسبب فيه نظام الاستعمار المستبد». (وثيقة رقم2. ص. 334 من كتابي). وعموما، يرى كثير من الدارسين أن تصور الأمير الخطابي لتلك النهضة، استند إلى قاعدة “السلفية التجديدية” التي تشبع بأفكارها أيام دراسته في القرويين بمدينة فاس، وبالأخص تأثره بالفكر “التحديثي” الذي كانت تدعو إليه جماعة “لسان المغرب” و”الحركة الدستورية” في بداية القرن العشرين. كما أن لغته السياسية التي استعملها كصحافي لما كان بمليلية، تجاوزت لغة أقرانه آنذاك. لأن رصيده الثقافي لم يكن وليد أفكار السلفية التحديثية وحدها، بل امتزج ومتح من الإرهاصات الليبيرالية والديمقراطية التي اطلع عليها في الصحف الصادرة بطنجة ومليلية. ويمكن أن نجازف بالقول إن المشروع السياسي للخطابي استحضر بعض مطالب الحركة الدستورية التي ظهرت منذ 1908 بالمغرب، فاستطاع أن يطبق جزءا من تلك الأفكار الجديدة في الريف كتأسيس “مجلس الأمة” مثلا، الذي نادت به تلك الحركة الدستورية، علاوة على محاولة فصل السلط، وتحقيق العدالة الاجتماعية وغيرها. وفي جميع الأحوال، لم ينسلخ الرجل عن مرجعيته الدينية الإسلامية التجديدية، فقد حارب بعض الأعراف المحلية التي سادت في عهد “الريفوبليك” باسم الإصلاح الديني (إلغاء غرامة ارحق، وعادة الأخذ بالثأر..)، وقام بإصلاح القضاء طبقا لقوانين الشريعة الإسلامية على سبيل المثال لا الحصر (هارت. ص.746). لكنه لم يكن فقيها منغلقا ومتقوقعا في جبته الصوفية، بل قاضيا وعالما وزعيما سياسيا محنكا متفتحا و”متنورا” وليس مستلبا استهوته الشعارات الرنانة. كما لا يمكن، من جهة ثانية، أن نختزل مفهوم “إمارة الجهاد” المتجذر في تاريخنا المحلي، في بعده الديني الصرف، أو القول إن الهدف منه لدى الخطابي كان هو إعلان حرب مقدسة ضد الصليبية، فهذا كلام متجاوز، لأن الحركة الخطابية أعلنت منذ البداية، الدفاع عن الدين والوطن معا، عبر مقاومة الاحتلال الاستعماري. فحشد “المجاهدين” آنذاك باسم الدعوة إلى الجهاد، كان وسيلة وليس غاية في حد ذاتها، وقد لاحظ الدارسون أن تصريحات الخطابي في هذا الباب متناقضة، ففي الوقت الذي صرح (للصحافيين الأجانب) أن هدفه ليس هو الجهاد لأن زمن الحروب الصليبية قد ولى، في نفس الوقت، كانت نداءاته الموجهة إلى المسلمين بالمغرب تحض على الجهاد: «لهذا ندعوكم جميعا على المشاركة في هذا الجهاد العظيم». (نداء من الخطابي إلى المسلمين بالمغرب في غشت 1925. أورده محمد داود، تاريخ تطوان. المجلد 11. ص. ص. 246-248). فهو لم يكن مهدويا ولا شريفا، لكن بالمقابل، لم تكن حركته حركة “علمانية” بالمعنى الذي يفيد فصل الدين عن الدولة، فالبعد الديني في صيغته “الجهادية” والعقائدية ظل حاضرا بشكل أو بآخر، داخل حركته التحررية الوطنية، ولعل ما يترجم ذلك الحضور المزدوج للدين والدولة في تلك الحركة، كون معسكر جبل القامة عُرف أيضا باسم “رباط المجاهدين“، ففيه تعاهدوا على المصحف الكريم من أجل الاتحاد والدفاع المشترك ضد الاستعمار الاسباني، كما كان الفقيه الخطابي يؤم الصلاة بأتباعه، ويلهم حماسهم بخطبه الدينية والسياسية، ويصدر أحكاما قضائية وفق الشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت عرف ذلك المكان تأسيس «اللجنة الوطنية الدفاعية»، إن صحت رواية شاهد عيان من رجالات المقاومة المعاصرين للأحداث،(أحمد شعيب بورجيلة، بحث مرقون بعنوان: «الحروب الريفية، الدفاع المجيد بالنار والحديد»). وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن نحكم على طبيعة المشروع السياسي عند الأمير الخطابي انطلاقا من العنوان السياسي لحكومته فقط، بل استنادا إلى ما شيده على أرض الواقع من مؤسسات ودواوين وأجهزة تنظيمية. فكيف يمكن القول إن ذلك المشروع السياسي التحديثي أنجز أو شرع في إنجازه تحت غطاء “الجمهورية” والسيد محمود بلحاج اعترف أن تلك التسمية كانت طوباوية، أي حسب تعبيره، لم تتعد نطاق النقاش والمداولة من لدن النخبة الريفية، ولم يتم إنزالها على أرض الواقع؟ وبما أن صاحبنا كان يعرف أنه لن يستطيع أن يبرهن على أمثلة ملموسة من ذلك المشروع التحديثي خارج دائرة ما فصلناه في كتابنا ولخصناه قبل قليل، أي خارج نطاق الإمارة الريفية، فإنه لجأ إلى المناورة الكلامية، فردّاً على قولي إن “الجمهورية” كانت خطابا دعائيا وبراغماتيا راهن عليه أصدقاء الخطابي والمتعاطفين مع قضيته، تساءل السيد بلحاج: «ما المانع من القول إن الخطابي استعمل (مثلا) خطاب “الامارة” من أجل مواجهة خصومه السياسيين بالداخل؟» بل استطرد متماديا في “حماقته”: «ثم من يدري كذلك، لربما خطاب الإمارة ولقب الأمير هو إنتاج أجنبي!!». وقد فاته أن الخطابي لما نودي عليه أميرا على الريف وجبالة كان في أوج قوته سياسيا وعسكريا، وبالتالي لم يكن في حاجة إلى استعارة واستيراد مقولة الإمارة واستخدامها كخطاب لإسكات معارضيه في الداخل وبالأخص شيوخ الزوايا الدينية، علما أن أهم الزوايا المنتمية إلى الريف تحديدا، كانت قد اصطفت إلى جانب حركته منذ البداية، كالزاوية الخمليشية (زاوية بوغيلب) وفروعها الناصرية، وكذلك البوجداينية وزاوية الشريف محمد أمزيان بأزغنغان، بل وحتى فرع الوزانية باسنادة. إذا كانت هذه الزوايا قد أيدت ابن عبد الكريم بعد انتصار أنوال (1921)، أي قبل ظهور وثيقة بيعته بكثير (1923)، فكيف يمكن أن نفترض أن تلك الزوايا انصاعت لإرادته وخضعت “لخطاب” إمارته الدخيلة وهي التي لم تكن قد أعلنتْ بعد؟! أما احتمال السيد بلحاج بأن يكون خطاب الإمارة بل وحتى لقب الأمير كما يقول، نتاجا أجنبيا، فهذا ضرب من المستحيل، ولا يمكن أن يقبله العقل إلا إذا كان السيد بلحاج يعتقد، وهو مستعد لذلك حسبما يبدو، أن الأعيان الذين أجمعوا على مبايعة الخطابي في “دهار السلوم” بأجذير، وكذا لفيف القضاة والعلماء الذين أشهدوا على تلك البيعة وعلى ثبوت صحتها شرعا، أنهم كانوا كلهم يحملون الجنسية الأوروبية! ثم لماذا لم يعترض الدارسون مثل بينيل، وطحطح ومادارياغا وغيرهم، على زيف وخدعة تلك الوثيقة لو كانت كذلك؟ بل، بماذا سنفسر احتفاظ الأمير الخطابي بذلك “النص” إلى أن صودر منه عند استسلامه للفرنسيين ضمن ما صودر منه من الوثائق التي أصبحت تسمى «أوراق عبد الكريم“، لو كان، أي نص البيعة، مجرد خطاب مستورد أُشهر في وجه المعارضة الداخلية؟ وهل كان الخطابي يكذب على الصحافي الفرنسي “روجيه ماثيو” عندما أملى عليه فقرة من تلك البيعة؟ وكيف سيصبح الخطابي في منظور الريفيين والمغاربة عموما، وحتى غير المغاربة، لو ثبت فعلا، كما يفترض السيد بلحاج، أنه كان يخفي على شعبه حقيقة خطيرة مثل هذه؟ وأخيرا وليس آخرا، لماذا وضع الخطابي-قبل استسلامه- شرطا أساسيا عندما عُرض عليه مقترح “الحكم الذاتي”، وهو أن تعترف به الدول الأوروبية المعنية (فرنسا وإسبانيا..) أميرا على الريف وجبالة، أمِن أجل إسكات أيضا، معارضة قساوسة ورهبان الكنائس الدينية في أوروبا؟! الجواب يعرفه السيد بلحاج وحده.
(يتبع)