رن هاتفي مشيرا إلى العاشرة صباحا، عقدت العزم قبل أسبوع على زيارة تمسمان للمرة الثانية في حياتي، مر على أول مرة وضعت فيها قدماي ببلدة “كرونا” أزيد من عشر سنوات، ما دفعني لتكرار الزيارة دعوة كريمة من صديق كريم اختار أن يجعل من أرضه في تمسمان جنة تسر الناظرين!
محطة سيارات الأجرة بمدخل إمزورن تعج بالحركة، السوق الأسبوعي للمدينة يطبع شوارعها ببعض الهيبة، قد يراودك هذا الشعور بقوة وأنت تتذكر قوافل المغادرين من شباب المدينة عبر قوارب الموت حتى أضحت شرايين شوارعها تنبض ببطء قاتل. استغربت لوهلة عدم وجود سيارات أجرة حديثة بمحطة تمسمان، على قارعة الطريق اصطفت سيارات مرسيدس طراز 240 تنتظر راكبيها في شموخ عتيق. اتخذت لنفسي مكانا في الكرسي الأمامي متطلعا إلى اقتناص بعض مقاطع الفيديو على طول الطريق التي تتخلل “إيذورار نتمسمان”.
سألت أحد الركاب عن ثمن التذكرة ثم دفعت للسائق ثمن تذكرتين حتى لا يقلق راحتي أحد، ثلاثون درهما للفرد لمسافة 35 كلم، انطلقت السيارة تطوي الطريق مزمجرة، عداد السرعة تالف و الغبار يتسرب إلى الداخل عبر منفذ ما، ابتلعت ريقي و كتمت بداخلي الكثير من الأسئلة التي طفت على السطح بعد دقائق معدودة. كنت أود مناقشة ثمن التذكرة المرتفع مع السائق، تلاشت الفكرة تماما وأنا أعدّ المطبّات و الحفر على طول الطريق، بادرته بالسؤال: كيف تغامرون بتدمير سياراتكم على هذه الطريق مقابل “جوج فرنك”؟، رمقني السائق بنظرة تشرح كل شيء، أجاب:
- هل تعرف الصراط المستقيم؟ أشار إلى الطريق مستطردا: هذا هو الصراط غير المستقيم!
الطريق المتهالكة مطلة على مشهد عظيم، خليج الحسيمة البهيج والمصنف ضمن أجمل خلجان العالم يغمر أقدام الريف ببعض البلل، بين الفينة و الأخرى أخرج هاتفي موثقا بعض المشاهد بالفيديو وأنا أمسك به بقوة حذَرَ المطبات التي لا تنتهي، أحيانا يبدو لك الطريق مستقيما قبل أن تتفاجأ من حيث لا تدري بمنحدر مباغت فنتوء مرتفع فَمطبّ ثم حفرة وأخرى، لاحظ السائق فوضى الأفكار التي تخالجني ثم قال مطمئنا:
- لا تخف، أعرف هذا الطريق كما أعرف وسادتي، يبدو أن أحد المسؤولين قد مر من فوق الصراط وقرر ترميمه، قاموا بصباغته بالأصفر بانتظار فعل شيء ما، بعد عام ربما أو عامين! Rkhedmeth nij osuggas ginas 10 osk’uthi
وضعت المقاتلة الألمانية أثقالها أخيرا بمحطة تمسمان، ترجّلت من السيارة وأنا أشعر بامتنان بالغ للزمان والمكان وألمانيا، أدركت الآن فقط سبب ندرة سيارات داسيا الحديثة بالمحطة، الصراط الذي عبرته قبل قليل يحتاج للعمل الصالح والكثير من الدعاء، تستطيع القول بكثير من اليقين أن السيارات الفرنسية ستصبح خردة على هذا الطريق بعد رحلتين.
استقبلني السي محمد بحفاوة قبل أن ننطلق إلى جنته الصغرى حيث النخيل و الشجر و الثمر، الأرض من نوع الحمري قرمزية بلون الدم، دم الرجال الذين بذلوا أرواحهم في المرحلة الاستعمارية من أجل حرية وكرامة المنطقة و البلد، حرص الرجل على تزيين ممرات أرضه بالحجارة وأحاطها بالورود، ألواح الطاقة الشمسية تلمع غير بعيد تضخ المياه الجوفية إلى صهريج إسمنتي يسقي المغروسات الزراعية عبر تقنية التقطير، عبر لي السيد محمد عن سعادته البالغة بتواجده في أرضه بشكل دوري، إذ يقطع المسافة من هولندا إلى تمسمان ليتمشى فوق أرض أجداده، في بقعة جغرافية تتنفس فيها هواء رمزية تاريخية صارخة، أنوال و دهار أوباران.
بعد وقت قصير التحق بنا أحد أبناء البلدة، رشيد شاب بملامح أمازيغية وقورة فضّل العمل و التجارة بتمسمان واستقر بها، بعد نقاش مستفيض حول الهجرة وإكراهات العيش في المنطقة، دعانا الرجل إلى تناول الغذاء معه بقمة دهار أوباران، قادتنا السيارة رباعية الدفع بين شوارع بودينار إلى قمة الجبل، أمطرته بوابل من الأسئلة طوال الطريق عن السكان والرمزية التاريخية للمنطقة، فاجأني عندما عبر عن شدة تعلقه بهذه الأرض قائلا:
- الحب الذي نحمله نحن سكان تمسمان لترابها لا ريب فيه، لدرجة قيامي بترميم بيت الوالد القديم، حتى يظل همزة وصل بين الحاضر وعبق الماضي.
أمطرنا السي رشيد بكرم حاتمي، بعد حوالي نصف ساعة قضيناها بقمة الجبل تحت فيء أشجار الأرز الباسقة، توقفت بالقرب منا سيارة بيضاء نزل منها بعض الشباب يحملون ما لذ وطاب من الطعام، جلبوا معهم الطاولة و الكراسي وصحون الدجاج البلدي والأرانب المطبوخة على الفحم، سلطة خضراوات وصحن فواكه مشكلة قبل أن يضعوا فوق الطاولة البلاستيكية طبق خبز القمح الأسود الطازج الذي أكمل معالم اللوحة الفنية، لوحة خيرات أرض تمسمان.
رغم الشمس التي لفحت ذراعي طوال اليوم، إلا أنني شعرت كمن أزاح عن كاهله تعب سنوات مرهقة قضيتها أمام شاشة الكمبيوتر، بعد تناول طعام الغذاء توجهنا نحو أحد المشاريع المواطنة القريبة من دهار أوباران، فندق صغير تم تصميمه على الطراز القديم يبدو كقلعة صغيرة مهيبة بلون التراب، حيث لا يتجاوز ثمن الغرفة مبلغ 20 يورو، رغم تصنيف النزل كمأوى سياحي من الدرجة الأولى ، صرح لنا المالك أنه يعاني من انقطاع الماء الصالح للشرب، وأن غياب هذا الأخير أدى به إلى إغلاق أبواب المشروع منذ فترة ليست بالبسيطة.
ودعت رفقتي قبل الغروب بعد قضاء يوم صاخب استمتعت خلاله بالرفقة الكريمة، كرم النفوس هنا ريفي أصيل ككرم هته الأرض، بعض الهروب إلى حضن الجمال فرض عين على كل مغربي. الارتباط بالأرض هو أحد العلاقات الأساسية التي يجب على الإنسان أن يمتلكها. فالأرض هي المكان الذي نولد فيه ونعيش عليه طوال حياتنا، وهي البيئة التي توفر لنا الغذاء والمأوى والموارد الطبيعية الأساسية. ومع ذلك، اكتشفت أن العلاقة بين الإنسان والأرض في تمسمان ليست مجرد علاقة استخدام واستغلال، بل علاقة تقدير واحترام ورعاية.. من الطرفين!