القذافي هو البدوي الأخير الذي تطلقه الصحراء في اتجاه التمدن والتحضر.
ومثلما قال الحجاج بن يوسف في خطبته بجامع الكوفة، بعد أن أرسله الخليفة عبد الملك بن مروان واليًا على العراق «إن أمير المؤمنين عبد الملك نثل كنانة بين يديه فعجم عيدانها عودًا عودًا، فوجدني أمرها عودًا، وأشدها مسكًا، فوجهني إليكم ورماكم بي»، وهذا ما فعلته الصحراء مع القذافي الذي كان فقيرًا مثل فأر في جامع، وحقودًا مثل جمل، وماكرًا مثل ثعلب صحراوي، ومتوحشًا مثل ذئب أجبر على أكل الجيف، وعنيدًا مثل بغل يفكر في الانتحار، وله إصرار ضب يتمسك بجحره، ويشعر أنه في بيئة معادية مثل قنفذ لا يرى إلا شوكه.
ولعل أول من لاحظ غرابة أطوار القذافي هو الصحفي المصري محمد حسنين هيكل، عندما وصفه بأنه يشبه طرزان في نيويورك، فلا أحد يشبهه من رفاقه لا عبد السلام جلود ولا امحمد المقريف ولا أبو بكر يونس، والثلاثة جاءوا من الصحراء، ولكن القذافي جاء من قبيلة ضعيفة ومن فرعها الأضعف، لذلك كان حقده على المدينة حقدًا نرجسيًا، يلخص ما تعرض له البدو من هوان في المدينة. واكتشف القذافي مبكرًا أنه لن يستطيع التكيف والتأقلم مع المدينة، لذلك كتب في كتابه «القرية القرية الأرض الأرض»: «وإن كنت حاشرًا لنفسك.. حديثًا في المدينة.. ولست من ساكنيها الأوائل، والمتكيفين بكيفها، فأنت أضحوكة المدينة في كل الأحوال.. إن كنت تريد التمسك بما عندك من معانٍ وقيم وسلوك غير مديني، تصبح شاذًا، ولا تجد مع من تتفاهم. وعندما تغير حالك، لكي تصير مدينيًا، تصبح ركيكا».
كان فقيرًا مثل فأر في جامع، وحقودًا مثل جمل، وماكرًا مثل ثعلب صحراوي، ومتوحشًا مثل ذئب أجبر على أكل الجيف، وعنيدًا مثل بغل يفكر في الانتحار، وله إصرار ضب يتمسك بجحره
لذلك كان لابد من إذلال المدينة وتحويلها إلى جحيم، فأوقف شركة النسر للنقل العام، التي كانت حافلاتها تغطي كامل المدينة، وحوَّل شركة عكرة لتنظيف المدينة إلى شركة عامة، فتحولت طرابلس من أنظف مدينة في حوض المتوسط إلى مكب للنفايات، وأغلق كل الآبار التي كانت تزود المدينة بالمياه العذبة ليشرب الناس ماء مالحًا. وذات مرة اقترح أن تربي كل عائلة في المدينة الدجاج البياض في الشرفات، وبالفعل وزعت وزارة الزراعة أقفاص الدجاج على العائلات، حتى قال شاعر شعبي:
«يا نميري ويا سادات
تعالوا شوفوا الإنجازات..
قفص فيه ثلاث دجاجات
معاهم ديك صياحه من الفجر يصحيك».
ويستشهد القذافي بالقرآن ليثبت فضل القرية على المدينة قائلًا: «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)».. تلك صورة رائعة لدنيا القرية والريف.. وكذلك قوله: «وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)» وعندما يقسم بالفجر، إن الفجر لا يُرى إلا في الريف والقرية.. أي فجر لمدينة مكهربة ليلًا ونهارًا؟. متناسيًا أن الرسول أطلق على يثرب اسم المدينة، وعلى مكة أم القرى، ودفن في المدينة وليس في أم القرى.
لا يشبه القذافي بدو الخليج الذين زاوجوا بين تربية الإبل والإبحار نحو الهند للتجارة وصيد اللؤلؤ، ولا يشبه بدو العراق الذين تمسكوا ببداوتهم وهم يقتحمون بغداد والبصرة ويتكيفون معها. إنه أكثر شبهًا ببدو نجد الوهابيين الذين حرموا كل شيء تقريبًا، ولكنه تأثر بصعيدي ولد وتربى في الإسكندرية، ونجح في الوصول إلى السلطة بانقلاب عسكري، ولكن عبد الناصر هذبه النيل ومدينة الإسكندر المقدوني، لهذا احتفى بالثقافة والفن، وجعلهما قوة مصر الناعمة. بينما أعلن القذافي الحرب على الفن والثقافة، وأحرق آلات الموسيقى في ميدان الشهداء باعتبارها غزوًا ثقافيًا، وسمح للشعر البدوي بالسيطرة على وسائل الإعلام، فاختفت أغاني الستينات مثل أغاني سلام قدري، ومحمد صدقي، وشادي الجبل، ومرشان، وكاظم نديم، وخالد سعيد، وسيطرت أغاني ابن عمه علي الكيلاني، وعبد الله منصور، وألحان محمد حسن، واحتل التلفزيون الشاعر الشعبي نور الدين العزومي، وأحمد النويري، وموسيقى النجع.
وذات مرة قال العزومي: «السادات ذيب خش الغابة ومعمر سلوقي مكشرات أنيابه»، فاعتقل وضرب بـ«الفلقة» حتى خرج يزحف على ركبتيه، لأنه أثار سخرية أهل المدينة الذين لا يعلمون أن تشبيه القذافي بالكلب السلوقي قمة البلاغة، ولكن القذافي استهلك هذا التعبير في وصفه للمعارضة بالكلاب الضالة.
وهكذا تحولت بداوة القذافي إلى محنة في المدينة، ولم تُغْنِ عنه تأسيس مدينة حديثة في سرت، فظلت المدينة بدوية، كورنيشها خالٍ من الناس، مثل يتيم تركه الجميع، وبيوتها تفتح باتجاه الصحراء، وخلفها حيث البحر وضع سكانها حظائر للماشية والإبل.
(يتبع)
عمر الكدي: شاعر وكاتب ليبي مقيم في هولندا