فتحي التوفيق: دعونا نحلم

23 مارس 2023
فتحي التوفيق: دعونا نحلم

الكل كان يؤكد أن كورونا هي لحظة تاريخية ومفصلية! لها ما قبلها وسيكون لها ما بعدها. أعلن كثيرون أن عالما آخر، مختلفا ومغايرا لما ألفناه، ينتظرنا بعد كورونا، وعلى كل الأصعدة. مرّت (تقريبا) أزمة كورونا وأصبحنا ننظر إليها كذكرى أليمة خلخلت علاقاتنا الإجتماعية وأنظمتنا الإنتاجية و عاداتنا الإستهلاكية، كما غيّرت علاقة الدولة بالمواطن و أشكال ممارسة الديموقراطية…حيث توجد طبعا!

حرب روسيا على أوكرانيا، وآثارها على الإقتصاد والسياسة والأمنين الغذائي والعسكري زادت جرعة ألم عالم فقد البوصلة منذ زمن. اليوم، بعد أن أصبحت كورونا ذكرى (تقريبا) خلفنا، أعتقد أن السؤال الأساسي الذي علينا طرحه ليس ماذا حدث بعد كوروناولكن ببساطةلمن ستكون الغلبة غدا، أي نموذج لتسيير الشأن العام وأي نظام اجتماعي ستكون له الغلبة والسيطرة. كورونا كانت عرضا “صحيا”، سيعود بأشكال مختلفة في المستقبل كما حدث مع كل أمراض هذا العالم فيما مضى، الجديد أن العولمة لعبت دورها في ربط العالم “وبائيا” بشكل فعال كما ربطته من قبل على مستوى التبادلات التجارية والإستثمار وانتقال الرساميل. لكنه في آخر المطاف كورونا لم تنتج نموذج تسيير جديد.

ما بعد كورونا ليس نموذجا جديدا مغايرا لما نعرفه بل ربما سيكون سيطرة وتعميم لنموذج هجين يأخذ من كل نموذج خصيصة أو خصائص معيّنة.

الأزمات والكوارث لا تنتج نماذج جديدة، فقط الطفرات التقنية والتكنولوجية تفعل ذلك. اكتشاف النار مثلا أحدث تغييرًا جذريًا في أنماط الحياة، اكتشاف الزراعة أحدث تغييرًا جذريًا في أنماط الانتاج والإستهلاك، اختراع الآلة البخارية أحدث ثورة في الإنتاجية وبالتالي فينمط الانتاج والعلاقات الإنتاجية، التي تم ترجمتها بعد ذلك في علاقات اجتماعية وسياسية، بكلمة في نظام سياسي واجتماعي. أما كوارث الموت كالطاعون الأسود، والحمى الصفراء، والإنفلونزا الإسبانية وغيرها فلم تغير أنماط الحياة ولم تُنشيء نماذج جديدة بل كانت عاملا حاسما لتغليب نموذج/نمط موجود سلفا على حساب أنماط أخرى منافسة.

في اعتقادي كورونا سيكون لها نفس الدور، أي انها ستكون عاملا محوريا في ترجيح كفة نموذج على حساب نماذج أخرى كلها موجودة،وفي آخر المطاف لا أحد غيرنا، نحن سكان هذه الأرض المجهرية مقارنة بالكون كما هو متصوّر و معلوم اليوم، سيقرّر الوجهة التي نودّ رسمهما وإعطائهما للعالم… عالم الغد!

إجمالا، ثلاثة نماذج تتنازع العالم اليوم، وذلك منذ نهاية ما أطلق عليه الغربيون الحرب العالمية، تختلف في تصوّرها لما يجب ان يكون عليه النظام السياسي الاجتماعي المثالي وكيفية تحقيقه. نقط اختلافها/صراعها يتم التعبير عنها بأجوبة مختلفة، غالبا حد التناقض، على ثلاثة أسئلة جوهرية تتفرع عنها كل الأسئلة الفرعية الأخرى:

السؤال الجوهري الأول يخص معنى وحدود مفهوم السيادة.
السؤال الجوهري الثاني يخص طبيعة النظام السياسي الأمثل.
السؤال الجوهري الثالث يخص دور الدولة وعلاقتها بمواطنيها و بالخارج.
الأمر المفروغ من نقاشه أن الليبرالية والرأسمالية كتعبير اقتصادي عنها فرضا هيمنتهما على العالم. فحتى الأنظمة الئي كانت اشتراكية أو شيوعية فيما مضى تحولت الى أنظمة رأسمالية الدولة المتسلطة القمعية. لا أحد يجادل اليوم أن الصين لم تعد شيوعية ولا اشتراكية بل تحولت منذ عهد الانفتاح لرأسمالية دولة سلطوية أخذت الدولة دور ومكان طبقة البرجوازية الرأسمالية المسيطرة عادة في الأنظمة الليبرالية التقليدية.
جواب الصين على أزمة كورونا، والذي حظي بتقدير وإعجاب كثيرين في الشرق والغرب والجنوب، كان صارما وحاسما. هذا النموذج الذي رأى فيه سياسي مغربي “سابق” في أحد مقالاته نموذجا جديدا ومبتكَرا يجب ان يحتذى به لمواجهة مابعد كورونا. لكن ما غفل عنه هذا السياسي أن هذا النموذج لم يأتي بأي جديد ولا يمثل ثورة ولم يبتكر آليات جديدة لمواجهة الأزمة، بكل بساطة انه نموذج رأسمالية الدولةالتسلطية القمعية التي “تضرب ثم تسأل بعد ذلك الضحية” على حد قول مفتشة الشرطة أليسيا سييرا في مسلسل بيت الورق La casa de papel عندما حاولت وصف طريقة تعامل پوتين مع خصومه! هذه الدولة التي عمّمت حالة الطوارئ، علّقت القانون واتّخذت إجراءاتوتدابير قمعية مستعينة بالتكنولوجيا الحديثة التي تسمح اليوم، إن لم تُقيَّد اخلاقيا وقانونيا، بمراقبة كل تفاصيل الحياة الشخصي للمواطنين. ثم تمّ إسكات كل الاصوات المختلفة التي لا تنسجم مع المعزوفة الرسمية، معزوفة الدولة البيروقراطية المركزية التي عرف مصلحة المواطن أكثر منه وتكتفي باستشارة “الخبراء” لاتخاذ القرارات. هذا النموذج يعيد إلى الواجهة السؤال الجديد/القديم الذي شغل الفكر السياسي: هل يجوز التضحية بالحرية من أجل الأمن؟

أجوبة هذا النموذج على الأسئلة الثلاثة أعلاه ليست جديدة ولا مبتكرة وهي معروفة منذ زمن، هي أجوبة قطعية ومباشرة:

. السيادة المطلقة للدولة على أشخاص لا وجود لهم سوى كوحدات متفرقة دورها الإنتاج لتكسب الدولة حصصًا أكبر في السوق العالمية، ثمالإستهلاك بما يكفي للبقاء على قيد الحياة للإستمرار في الإنتاج!

2. النظام السياسي دوره حماية الأمن ولا وقت ولا مجال للنقاش العام الذي يعتبر مضيعة للوقت وللطاقة. الحجر الصحي رافقه حجر على الفضاء العام باسم الأمن والمصلحة العليا للدولة! إبداء رأي مختلف أصبح جريمة يعاقب عليها قانون أنتج بعجالة وفي ظروف وبطرق إستثنائية.

. الدولة هي الكل في الكل، هي الأصل وهي الهدف وكل ماعداها موجود لخدمتها. لا تحتاج وسائط ولا وسطاء بينها وبين الأفراد الذينتعتبرهم رعاياها أكثر منهم مواطنين، تخاطبهم مباشرة ومن لم يفهمها ترسل له الشرطة والاستعلامات، وإذا اقتضى الحال الجيش لترجمة كلامها له!

هل فعلًا هذا هو النموذج الذي نتمناه لعالم الغد؟ شخصيا لا أتمنى ذلك.

النموذج الثاني أكثر ديموقراطية من الأول لكنه لا يقل سلطوية عنه. ربما كان ترامب، ودون منازع، هو الممثل الرسمي لهذا النموذج الذييحتفظ بطابعه الديموقراطي، على الأقل كواجهة وكآلية إجرائية لانتقال السلطة، لكن ينزع عن الدولة قوتها ويفرغها من خصائصها الجوهريةعبر خصخصة صلاحياتها، خاصة القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والطاقة والنقل. بولصينارو في البرازيل، أوربان في المجر وكازينسكي في بولندا نماذج ترامبية بامتياز. هذا نموذج أضاف للنموذج الليبرالي الجديد جرعة قوية من القومية والشعبوية. فبالإضافة لهوس تدمير المرافق و<الخدمات العمومية وتحويلها إلى سوق كبير مفتوح أمام الشركات الكبرى الخاصة التي يُحركها الربح المالي كشرط
أولى وأسبق تن شروط حياة الإنسان وصحته، يتم أيضا إغلاق الحدود أمام الجميع ثم “خلق” أعداء داخليين وخارجيين وهميين لصرف الإهتمام، و بتواطئ تام من وسائل التحكم الشامل في الجماهير عن قرب وعن بعد، أي عبر وسائل الإعلام المبرمجة والموجّهة! نموذج تعلو فيه المصلحة “الوطنية” على مصلحة مواطنيها وعلى مصلحة العالم المشتركة، وتعلو فيه مصلحة المواطن “الأصلي” على مصلحة الوافد، وتعلوفيه مصلحة المواطن الأصلي الغني على مصلحة المواطن الأصلي الفقير…نموذج المنافسة فيه هي الأصل والتعاون هو الإستثناء. المواطنيمكن له ان يصوّت ويختار من يحكمه لكن إن لم يستطع أن يدفع الثمن (ثمن تعليمه وصحته ومأكله ومشربه) سيموت ماديا او معنويا. فيهذا النموذج الديموقراطي الشركات الكبرى هي التي تحكم ودور الدولة أن توفّر لها شروط الإستغلال الحر دون قيود ولا عراقيل (عبر تفكيك وتخفيف قوانين الشغل، وقوانين حماية المستهلك، وقوانين حماية البيئة…)
هل فعلًا هذا هو النموذج الذي نتمناه لعالم الغد؟ شخصيا لا أتمنى ذلك.

النموذج الثالث الذي أثبت صلاحيته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى عهد غير بعيد، هو نموذج دولة الرفاهية، نموذج الدولة الديموقراطيةالإجتماعية التي بنيت بعد الحرب العالمية الثانية في توافق ثلاثي (الدولة والشركاء الإجتماعيين) وحققت الحرية والرفاهية والأمن لعقود فيدول غرب أوروبا قبل أن تطالها معاول الثاتشرية والريغنية منذ ثمانينيات القرن الماضي. نقطتي ضعف هذا النموذج أنه ظل محصورا فيبقعة جغرافية محددة ثم أنه بُني على حساب دول الهامش وبفضل كثير من مواردها الطبيعية. الحل هو صيغة معدّلة ومُحسّنة لهذا النموذج تنفض الغبار عنه وتصحّح بعض اختلالاته. معالم هذا النموذج لعالم الغد، عالم مابعد الكورونا، لخّصتها نتائج استقصاء رأي قامت به مؤسسة Viavoice بطلب من جريدة Libération الفرنسية نهاية شهر مارس 2020 في أوج أزمة كورونا. أزيد من 70% من المشاركين أجابوا ايجابا على ما يمكن ان يكون أفقًا توافقيا لمجتمعات العالم المنكوب، إجمالا:

. إعادة توطين الصناعات محليًا خاصة الحيوية منها. أزمة الرقائق الإلكترونية خلال أزمة كورونا والأزمة الغذائية (التي أعتقد أنها فيبدايتها) نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية تثبت أن لا مفر من تحصين وتقوية الإنتاجات الوطنية وتوجيهها للإستهلاك المحلي.

. بناء تجمعات قارية سياسية، اجتماعية واقتصادية قوية ومتكاملة والخروج من نظام الأقطاب و الإستقطاب.

. إعادة التحكم في الشركات لجعلها شركات “مواطنة” وعدم تركها فريسة للرأسمال المتوحش العابر للقارات الذي يمكن أن يُضحي بكل شيء من أجل رفع العوائد المالية لقلة على حساب رفاهية الغالبية العظمى.

. القطع مع نموذج الإنتاجية المفرطة والبحث عن الربح اللامحدود، والإكتفاء بعوائد متوسطة تكفي فقط لاستمرار اشتغال الأنظمة الإجتماعية لأداء دورها في خدمة الإنسان ليس للتراكم.
. تأميم القطاعات الحيوية (النقل، الطاقة، الصحة، التعليم والماء…) دون السقوط في انحرافات الأنظمة التسلطية المستبدة التي تؤممرسميا لتخوصص عمليا عبر التسيير و عبر ثقافة الريع.
. السيادة الجماعية والدفاع على الممتلكات المشاعة.

. تجاوز مجتمع السوق نحو مجتمع التكافل، التكافل قبل التنافس! زمن “اثويزا” بدل المقابل المادي لكل شيء!
مرحلة مابعد كورونا لن تكون مرحلة ميلاد نموذج جديد، بل فرصة لحسم المعركة لصالح نموذج الحرية والرفاهية والأمن بعيدًا عن تسلّط الدولة القمعية وبعيدًا عن تسلط الشركات العابرة لمصالح الإنسان… أو ستكون زمن فوضى واقتتال.
دعونا نحلم، فكل الإنجازات بدأت حلما.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق