فريد بنقدور: حوار ليس كالمعتاد مع راهب كنيسة الحسيمة

5 أبريل 2023
فريد بنقدور: حوار ليس كالمعتاد مع راهب كنيسة الحسيمة

خلال الظهيرة كان الجو حارا بمدينة الحسيمة التي تغير إيقاعها بالمرة من كثرة الوافدين عليها من داخل المغرب وخارج البلد خلال فصل الصيف.

دلفنا لأخذ قسط من الاستراحة بحديقة 3 مارس أنا وصديقي القادم من هولندا ومعه زميلة هولندية تشتغل مساعدة اجتماعية أتت للتعرف على المغرب وعلى عاداته وتقاليده عن قرب.

كنيسة الحسيمة

بعد لحظات من تبادل الحديث بيننا، أثار انتباه السيدة الهولندية بناية الكنيسة المنتصبة أمامها. لتسأل: هل هذه كنيسة حقا؟

فكرة وجود كنيسة ببلد إسلامي لم تكن تدور بخلدها قط.

سألتنا بعد التأكد من أنها فعلا كنسية: هل يسمح لنا بزيارة هذه الكنيسة؟

جرني سؤال الرومية حول الكنيسة إلى سنوات خلت، سنوات الطفولة التي كنا فيها تلامذة نلتقي فيها راهب هذه الكنيسة الذي أتذكره جيدا مرتين في اليوم خلال وقت جد مضبوط. نلتقي به صباحا وعشية وهو يطوف المدينة راجلا عبر طريق كيمادو ثم عبر ميناء المدينة ليصعد الطريق في اتجاه الكنيسة وهو يرتدي زي راهب أسود وبيده كتاب الإنجيل، يحيي كل من يمر أمامه. كانت عادتنا آنذاك أن نبصق داخل صدورنا كلما مر أمامنا الراهب اتقاء لكل مكروه. كنا ننعته ب “زعطوط”، وكنا نفرح كثيرا عندما نجده أمام باب الكنيسة ويرانا تلامذة ويستدعينا للدخول ليناولنا إما حلوى أو قلما ثم ننسحب بسرعة الضوء إلى حال سبيلنا.

تذكرت هذه الكنيسة خلال أيام الأحد سنوات السبعينات صباحا حوالي الساعة العاشرة حين يقرع جرسها وتكون هذه الحديقة التي أنا جالس فيها غاصة بساكنتها الإسبان حين خروجهم من الكنيسة مع أسرهم بعد أداء صلاتهم للتنزه فيها بكل هدوء ثم يغادرونها قصد تنظيم رحلة إلى غابة ميرادور أو خارج المدينة. (هذه المجالات الخضراء للمدينة أتى عليها الجراد بمجرد رحيل ” سكانها الأولين”).

وتذكرت أخيرا راهبات هذه الكنيسة حينما كنت نزيلا بمستشفى الحسيمة بقسم الأطفال قرب ثانوية المعهد الديني، كن يمارسن التمريض هناك كعمل تطوعي. كان دخولهن علينا عبارة عن حفلة وفرجة تريح تعب وغربة وغمَ المريض خلال الصباح وخلال العشية بانتظام للمراقبة الطبية، يدخلن وهن حاملات لعبا يوزعنها علينا وهن ينشدن ويرقصن من حولنا !

هيا بنا أيتها الرومية !

ضغطت على ناقوس باب الكنيسة فإذ براهبة تطل من عل. سألتها هل يسمح لنا بزيارة الكنيسة. ردت علينا بالانتظار قليلا، بعد لحظة وجيزة فُتح الباب وإذا بالراهب في استقبالنا. أمرنا بالدخول، وكنت أحملق فيه فإذا به ليس بالراهب الذي عرفته خلال طفولتي بداية السبعينات. الجو داخل الكنيسة بارد شيئا ما والراهب يبدو نشيطا رشيقا خفيفا في مشيته مرتديا لباسا صيفيا عاديا. بعد أن طاف بنا ببعض مرافق الكنيسة أمرنا بالجلوس للتحدث سويا وسط الكنيسة أمام طاولة كبرى. يبدو المكان كأنه مكان لاجتماع مصغر.

سألنا عن أي مشروب بارد يمكن أن يقدمه لنا. طلبت الرومية مشروب البرتقال واغتنم “الزنادقة” أنا وصديقي فرصة الحرَ لنطلب جعة أندلسية باردة!

بعد أن تعرف الراهب على هويتنا كأبناء المدينة وعن الزائرة الهولندية، شرع يحدثنا عن نفسه وعن مدة مجيئه وتواجده بالمدينة منذ خمس سنوات، ثم عن مهمته وكذا عن تاريخ الكنيسة. يبدو الراهب جديدا بالمدينة لكنه يعرف جيدا تاريخها أكثر من أبنائها. استرسل يحدثنا عن علاقته المحدودة جدا مع ساكنة المدينة ومؤسساتها ومنظماتها وهو الأمر الذي يتأسف له. عرض لنا بأن من يأتي للاتصال به من المدينة هو فقط أشخاص يطالبون منه بأن يتوسط لهم بطريقة أو بأخرى للعبور إلى الأندلس قصد الحصول على أوراق العمل هناك في الوقت الذي يحتاج فيه الراهب إلى حوار ثقافي بناء بينه وبين أهل المدينة ونخبتها وساستها.

يبدو الراهب عارفا بالدين الإسلامي مثقفا واسع المعرفة ومن دعاة حوار الأديان وضد أي دعوة للتمسح أو الانتصار لدينه.

باعتبارنا مهاجرين ببلاد الغرب المسيحي، بدأ الراهب يخوض معنا الحديث بكل جدية وبعمق في قضية الهجرة وتواجد الريفيين ببلاد أوروبا. ولكي يكون حديثه معنا غنيا وممتعا ارتأى الراهب الكاثوليكي الحديث معنا باللغة الفرنسية التي يتقن الحديث بها جيدا!. حين تعمقنا في موضوع الهجرة كنت أحس كأني أجالس عالما في العلوم الاجتماعية ولست بصدد مجالسة رجل دين.

السؤال القذيفة:

ختمنا الموضوع بسؤال ورد من طرف الراهب، لم يتلق منا بعد عنه الجواب ولم نجد له نحن زواره أي جواب مقنع ومنطقي؛ وأرجئنا الجواب إلى فرصة أخرى.

سؤال: ” كم عمر الجالية المغربية عندكم بهولندا؟

 الجواب: 40 سنة بالتمام والكمال. سيدي الراهب.

سؤال: ” هل لديكم جمعيات ثقافية ومساعدين اجتماعيين مغاربة بهولندا؟

الجواب: نعم وما أكثرها/هم.

سؤال: ” 40 سنة تعني 3 أجيال من المغاربة المقيمين هناك؟”

 الجواب: نعم، صدقت ايها الراهب.

السؤال القذيفة: ” أرجو منكم عدم مؤاخذتي وعدم اتهام سؤالي بالعنصرية أو ما شابه ذلك. أنا رجل إنساني، أعانق وأتضامن مع الشعوب المستضعفة من أجل تحررها وتطورها نحو الأحسن.  عندما أكون بإسبانيا خلال الصيف وأشاهد المهاجرين المغاربة القادمين من شمال أوربا ومنها هولندا، وهي دول متقدمة على إسبانيا، حين ألاحظ سلوكهم وتعاملهم في مختلف باحات الاستراحة بإسبانيا يحز في نفسي وأتألم كثيرا عندما أرى هؤلاء المهاجرين القادمين من الشمال يبدون في حالة تعسة يرثى لها وهم نائمون على الأرض مع أطفالهم ونسائهم بطريقة تثير الشفقة. أطفالهم ونساؤهم منهكون، يتناولون طعامهم على الأرض سويا أمام سياراتهم ولا يقومون بجمع بقايا أكلهم ورميه في المكان المخصص لذلك. يبعثون على الشفقة للبعض ويثيرون فضول الكراهية لدى البعض الآخر. لا يتوفرون على أدنى وسائل السفر الجماعي” ودينكم يوصي بآداب السفر.40 سنة من الهجرة ومنظماتكم لم تستطع فيها تأهيل جاليتها وتعليمها على الأقل آداب السفر؟ كم يؤلمني هؤلاء وكم أتألم كثيرا حين أشاهدهم بإسبانيا وهم عائدون في عطلتهم إلى هنا في تلك الحالة المزرية!

جوابنا: ” اج ربصر أمّن يزّو واها أ زعطوط إينو” / هذا موضوع عميق يتعلق بالتأهيل الاجتماعي، سنترك مناقشه معكم خلال الصيف القادم إن شاء الله.

ودعنا راهب الحسيمة وهو يتمنى زيارات مماثلة له، وعقلي شارد بين الهجرة، وبين الحوار الشيق مع الراهب ومدى انفتاحه على مختلف قضايا الساعة، وبين التسامح الديني الذي يسود المنطقة، وبين معيقات تأهيل مجتمعنا المدني، وشارد بين علماء الدين المغاربة بالمهجر الذين لا تخرج خطبهم وتعاليمهم عن مسألة الحرام والحلال و الجنة والنار والكفر والإيمان.

لقد أنتج الفكر الأندلسي لحظة تواجد المسلمين بالأندلس لقرون خلت علماء أجلاء استوعبوا واقعهم واستوعبوا الفكر العالمي الذي عايشوه وعاصروه وأنتجوا علوما وفكرا وأدبا وشعرا وفقها غربيا وفلسفة عقلانية وحداثية. فهل هناك من ابن رشد آخر راقد يتحين فرصة الظهور فينا؟

فريد بنقدور

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق