تم تأسيس الخلية الاولى للاتحاد الاوروبي عام 1950 بقوة دفع فرنسية ـــ ألمانية حول انتاج الصلب والحديد، ليتم توسيع صلاحيات هذه المجموعة، خلال 66 سنة من وجودها، الى كل القطاعات وبمؤسسات مشتركة أكثر مركزية وسلطة. المملكة المتحدة لم تلتحق بالمجموعة سوى عام 1973 رغم اعتراض فرنسي أولي مرتبط بالمنافسة الثقافية التاريخية بين البلدين.
منذ البداية دافعت المملكة المتحدة على انضمام يضمن لها: “الحصول على أكبر قدر من الايجابيات بالتنازل على اقل قدر ممكن من الصلاحيات”، موقف جعلها ترفض الانضمام الى اتفاقية شينغن عام 1985، الحصول على “تخفيض” جد هام عام 1984 بخصوص التزاماتها في إطار السياسة الفلاحية المشتركة (1962)، رفض الانضمام الى الوحدة النقدية “اليورو” (2002) واخيرا وليس آخرا المفاوضة للحصول على استثناءات لعدم تطبيق آلية الاستقرار المالي الاوروبية بكل اكراهاتها والتزاماتها (2013). المملكة المتحدة، ومنذ انضمامها الى المجموعة الاوروبية، وضعت رجلا داخل الاتحاد وحافظت على رجلها الثانية وخاصة قلبها على الضفة الاخرى للمحيط الاطلسي.
الاقتصاد البريطاني مصنف الخامس عالميا، قوته تكمن في قطاع الخدمات التي تمثل 73٪ من الناتج الوطني، خاصة الخدمات المالية والبنكية في قلب لندن، كما تكمن القوة الاقتصادية البريطانية في الصناعة بما فيها البترول. صادراتها تحتل المرتبة الثامنة عالميا ووارداتها المرتبة السادسة. 55٪ من هذه المبادلات كانت تتم مع بقية الدول 27 للاتحاد الاوروبي وتمثل تجارتها الخارجية 60٪ من ناتجها الوطني.
ماذا بعد الانسحاب؟
لابد ابتداء من التذكير بأمرين:
الاول، ان الاتحاد الاوروبي فصل منذ ترسيمه آلية الانسحاب من الاتحاد في الفصل 50 من معاهدة لشبونة (2007).
الثاني، انه سبق من قبل ان انسحبت “دولة” من الاتحاد، المملكة المتحدة ليست الحالة الاولى وان كانت الاولى في طلب انسحابها وفق مقتضيات الفصل 50 لمعاهدة لشبونة. عام 1975 انسحبت الغرين لاند من الاتحاد لتستفيد من وضع تفضيلي في علاقاتها معه وبقيت جزءا من المملكة الدانماركية التي هي نفسها عضو في الاتحاد الاوروبي منذ 1973.
فماذا يعني عمليا انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي بعد سبع سنوات من اتخاذ القرار وتفعيله، وماهي الآثار المباشرة وغيرا لمباشرة لهذا الانسحاب؟ يمكن قراءة الانعكاسات على الطرفين المعنيين مباشرة بالأمر: الاتحاد الاوروبي والمملكة المتحدة نفسها. الهدف مما يلي هو اعطاء نظرة شاملة للقضية دون تفصيل كل أثر.
الانفصال تم في مرحلتين متتاليتين: من 2016، تاريخ تصويت البريطانيين لصالح خيار الانسحاب، حتى نهاية يناير 2020، مرحلة انتقالية استمرّ فيها البريطانيون في المشاركة في اتخاذ قرارات الاتحاد مع تكثيف المفاوضات لفك الارتباط، ثم مرحلة ما بعد يناير 2020 حيث خرجت المملكة المتحدة نهائيا من الاتحاد بخروجها من الاتحاد الجمركي ومن السوق المشتركة وفق بنود اتفاقية التجارة والتعاون الموقعة بين الطرفين نهاية 2020.
بالنسبة للاتحاد الاوروبي يمكن رصد أربعة انعكاسات رئيسية:
الاول: تراجع المنظومة الدفاعية للاتحاد. القوة البريطانية استعملت دائما كفزاعة لحفظ التوازن الجيو-استراتيجي في مواجهة القوى الشرقية خاصة روسيا. وان كانت المساهمة الفعلية لبريطانيا في نظام الدفاع الاوروبي المشترك تقارب الصفر المطلق على كل المستويات: العدة، العتاد، العناصر البشرية والتمويل…لكن حضورها الرمزي كان كافيا لخلق التوازن. على الرغم من أن هذه القوة البريطانية كانت في كثير من الحالات عامل ضعف وإضعاف للتأثير الخارجي للاتحاد بسبب ارتباط السياسات البريطانية حد الالتصاق بالسياسات الامريكية، موقف طوني بلير من حرب العراق المختلف عن الموقف الأوروبي في عمومه نموذج لهذا التأثير ذي حدّين.
الثاني: تراجع القوة الاقتصادية للاتحاد خارجيا بفقدانه خامس قوة اقتصادية عالمية من بين اعضائه وأحد أكبر الاسواق الداخلية (66 مليون مستهلك) لتصريف الانتاج الصناعي والفلاحي لبلدان الاتحاد. العلاقات الاقتصادية كانت موضوع مفاوضات صعبة بين الطرفين، استطاعت من خلالها المملكة المتحدة الاحتفاظ بوجود داخل السوق المشتركة للاتحاد رغم خروجها من الاتحاد نفسه بالحصول على اعفاءات من الرسوم الجمركية وعدم فرض سقف للكميات المتبادلة (الكوطا) في اتفاقية التجارة والتعاون الموقعة نهاية عام 2020. هذا الاتفاق التجاري يضمن أيضا احترام إطار المنافسة الاوروبي عبر آليات احترام المعايير البيئية ومعايير الدعم العمومي للاقتصاد والشركات العامة والخاصة. بالموازاة مع هذه التعهّدات من الطرفين تم خلق آلية لفض النزاعات التجارية مع امكانية فرض وتطبيق عقوبات في حال عدم احترام بنود الاتفاقية.
الثالث: الانعكاسات السياسية السلبية على التوازنات السياسية الداخلية لبلدان الاتحاد، خاصة في البلدان التي تعرف عودة جد قوية للاتجاهات اليمينية المتطرفة (فرنسا، إيطاليا. المانيا، هولاندا، بلجيكا، المجر، بولندا والنمسا…) الحاملة لمشاريع سياسة ومجتمعية قومية تقف على النقيض من حلم الاتحاد لجعل (أغلب) القرارات الكبرى محصورة في بروكسيل. انسحاب البريطانيين كان بمثابة “منشط” سياسي قوي المفعول ودفعة لليمين المتطرف بكل أطيافه. فعلى سبيل المثال، فرض موضوعا “الانسحاب” و”السياسات/السيادة القومية” نفسيهما على الاهتمامات الانتخابية لجل بلدان الاتحاد.
الرابع: هذا الانسحاب أعاد توزيع الاوراق بين الدول 27 للاتحاد الاوروبي وغير توازنات اتخاذ القرار وتنفيذه. انسحاب البريطانيين أضعف التيار الليبرالي عموما داخل المؤسسات الاوروبية لصالح القوى اليسارية، لكن خاصة لصالح التيارات المحافظة (وسط يمين واليمين المسيحي). تبعا لمقتضيات قواعد التصويت الاوروبي التي تم تحيينها عام 2014، يكفي توافق وتحالف 4 دول تمثل 35% من سكان الاتحاد (اي حوالي 177 مليون من 508 مليون مجموع السكان) لتكوين اقلية معطلة لاتخاذ أي قرار اوروبي. انسحاب المملكة المتحدة أضعف موقف الدول الليبرالية تاريخيا وجعلها تقايض اعتراضاتها بتنازلات على جبهات أخرى، مثلا ملفات الهجرة، والطاقة وحقوق الإنسان. دول كبرى، محافظة تاريخيا كبولندا، ارتفعت أسهم قوتها داخل الاتحاد مع احتمال استقطاب شرق ـــ غرب أكثر بروزا في السنوات القادمة.
بالنسبة للمملكة المتحدة للمملكة المتحدة يمكن رصد ثلاثة انعكاسات رئيسية:
الاول: تراجع الأداء الاقتصادي للمملكة المتحدة. عدة مراكز بحث كانت قدّرت نسبة التراجع بحوالي 4% إلى 5% من ناتجها الوطني (تقديرات كونفدرالية الصناعة البريطانية عام 2016، أما تقديرات مؤسسة بيرتيلسمان الالمانية فكانت أكثر تشاؤما) كنتيجة لفقدها سوقا رئيسية، 508 مليون مستهلك بقدرة شرائية مرتفعة مقارنة ببقية الأسواق العالمية. المعطيات الاقتصادية اليوم وبعد سبع سنوات من هذه التقديرات تتأكد وبنسب أكبر. مفاوضات الطرفين وضعت حدا لمشكلة فقدان وسم الامتثال الاوتوماتيكي لمعايير الجودة الاوروبية وحققت بريطانيا نجاحا بالحصول على امتيازات جمركية كانت ستكون مشكلة ثقيلة تؤثر سلبا على تدفق الاستثمارات المباشرة الخارجية نحوالمملكة المتحدة. الشركات التي تنتج اليوم على الاراضي البريطانية تستفيد من امتيازات الإتحاد الجمركي لكنها ملزمة باتباع مساطرادارية ومساطر جودة اضافية تؤثر على حجم ووتيرة انتقال السلع والخدمات بين الطرفين. كثيرة هي الشركات التي فضلت الاستثمار مباشرة في بلدان الإتحاد التي تضمن تسويق منتوجها في كل بلدان الاتحاد 27 دون عراقيل ولا تكاليف اضافية، الموقع التنافسي البريطاني تضرر سلبا بسبب ذلك.
الثاني: وضع المواطنين البريطانيين في بلدان الاتحاد، وبالمقابل، وضع المهاجرين في المملكة المتحدة، واغلبيتهم من مواطني القارة العجوز خاصة بولندا ورومانيا وليتوانيا. يعيش حوالي 1.2 مليون بريطاني في بلدان الاتحاد، مقابل 3 مليون اوروبي يعيشون في بريطانيا، لم يكن أحد يعرف كيف سيكون مصيرهم ولا وضعهم الاداري بعد الانسحاب. حقوق التملك والتنقل وامتهان اي عمل او وظيفة ستخضع للقوانين التي تربط الاتحاد بالدول الخارجية، الحياة اليومية لهؤلاء المواطنين ازدادت تعقيدا واضطر كثيرون منهم لإعادة برمجة حياتهم ومشاريعهم واحلامهم.
الثالث: مرتبط اساسا بتجاذبات السياسة البريطانية الداخلية. فبالإضافة إلى اهتزاز وحدة صف أكبر حزبين بريطانيين، الحاكم والمعارض، فإن المسألتين الإسكوتلندية والأيرلندية كانتا عنوانا للمرحلة التي تلت الانسحاب وشغلت اجندة السياسة الداخلية البريطانية. أسكوتلندا صوتت بأغلبية 62٪ للبقاء في الاتحاد الاوروبي عكس انجلترا التي صوتت اغلبيتها لصالح الانسحاب. الحكومة المستقلة لأسكوتلندا اكدت ولازالت تؤكد ان مستقبلها يوجد داخل الاتحاد عكس ما قررته المملكة المتحدة. هذا الشرخ أعاد احياء تطلعات الحزب الوطني الإسكوتلندي (يسار قومي) للمطالبة باستفتاء جديد للانفصال عن المملكة المتحدة وتقرير مصير اسكتلندا.
رغم أن أغلبية في ايرلاندا الشمالية صوتت للبقاء داخل الاتحاد الاوروبي الا ان القرار النهائي هو ما حددته النتيجة العامة للتصويت في عموم المملكة المتحدة اي الانسحاب. ما يعني واقعيا عودة الحدود بين طرفي جزيرة ايرلاندا: فجمهورية ايرلاندا ليست عضوا في المملكة المتحدة لكنها عضو في الاتحاد الاوروبي وشمال ايرلندا عضو في المملكة المتحدة وستخضع لمقررات اتفاق البريكسيت. قرار بريطانيا اعاد احياء التطلعات الاستقلالية لإيرلندا الشمالية (عن بريطانيا) والوحدوية في آن (مع جمهورية ايرلندا). تصريحات مارتن ماكغينيس، رئيس الشأن فاين الجناح السياسي للحركة الجمهورية الأيرلندية ورئيس حكومة ايرلندا الشمالية منذ 2007، حول ضرورة توحيد الأيرلنديتين عقب الاعلان عن نتائج الاستفتاء البريطاني تعيد الى الاذهان سيناريوهات “سنوات رصاص” ايرلندا الشمالية بين الستينيات واواخرالتسعينيات.
الانعكاسات الجانبية المباشرة وغير المباشرة جد كثيرة وتتكشف يوما بعد كلما تقدّم مسار فك الارتباط القانوني والفعلي بين الطرفين. لم يخرج أي طرف منتصرا من هذه المغامرة التي أقدم عليها دايڤيد كاميرون في لحظة انتشاء بفوز انتخابي دون اعتقاده مرة واحدة ان النتيجة ستكون “نعم للانسحاب” ودون تقدير للانعكاسات على الاتحاد الاوروبي وعلى المملكة المتحدة. قرار الانسحاب كان قرارا عاطفيا وشعبويا مبني على وعود كان اولها اعادة تدوير جزء كبير مما لن يُدفع للاتحاد الأوروبي في المستقبل، حوالي 430 مليون يورو أسبوعيا، في قطاع الصحة، وعد تراجع عنه دعاة الانسحاب بعد ساعتين فقط من اعلان نتائج الاستفتاء في 2016. سبع سنوات بعد الاستفتاء وثلاث سنوات بعد التفعيل الكامل للبركسيت، لم تتحول بريطانيا لجنة ولا لقوة عظمى، وخسر الاتحاد الأوروبي رافعة اقتصادية وسياسية على حدوده الغربية. لم يعد الأمر ممكنا اليوم لمواطن اوروبي ركوب القطار السريع لعبور بحر المانش للسياحة فقط ببطاقة هوية، لابد من جواز سفر، كما لم يعد ممكنا الإقامة طويلا ولا العمل هناك دون حصول على تأشيرة وتصريح عمل.