الاستبداد داء اجتماعي ينخر في فعالية الحياة والمجتمع، ويجعل من الشعوب المستبدة عظاما نخرة وكيانات هزيلة ضعيفة لا تقوى على صنع حياة كريمة متقدمة. الاستبداد أصل شقاء الشعوب وتعطل حركة حياتها الفكرية والروحية أو كما يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد): “الاستبداد أعظم بلاء يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأَنَفَةِ (توبة العزة والحمية)، نعم؛ الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي…” (ص. 24).
ولكن كيف يتسنى للمستبد أن يتحكم في رقاب ملايين من البشر دون أن يردعه رادع؟
سؤال جوهري طرحه الكاتب الفرنسي (لابوسييه) في منتصف القرن السادس عشر عندما كان الشعب الفرنسي يرزح تحت نير المستبد!…
يتعجب (لابوسييه) من الألوف المؤلفة من البشر المنقادين طائعين مستسلمين لسلطة المستبد كأنما هم قطيع من الخرفان، مع أن هذا المستبد قد لا يكون موهوبا، ولا يملك من نفوذ وسلطة وقوة إلا ما قدموه هم أنفسهم إليه ولولاهم ما كان شيئا يذكر!! هذه هي المأساة التي وصفها (لابوسييه) وقام بتحليلها تحليلا نفسيا في رسالته بعنوان: العبودية الطوعية.
ميزة رسالة (لابوسييه) وأهميتها تعود إلى أنها صدرت في زمن كان الاستبداد باسطا نفوذه متحكما في مصير العباد.. والناس مستسلمون طائعون يخدمون المستبد عن طيب خاطر رغم عريهم وفقرهم وتأخر نموهم العقلي والنفسي!
ينطبق وصف (لابوسييه) للوضع الفرنسي على الوضع العربي حاليا إلى حد كبير، حيث يوجد الملايين من البشر المنقادة الفاقدة لكرامتها تمد المستبد بشريان الحياة، لا تبدي مقاومة ولا تنكر منكرا، همها هو خدمة الاستبداد وتكريسه في الواقع!
إنسان ما بعد دولة الموحدين
مع أفول الدولة الموحدية في المغرب والأندلس، يكون الإنسان العربي المسلم قد دخل ليل التاريخ. إنسان فقد ذاتيته ومثله الأعلى، استنفد مضامينه الروحية وطاقته الإبداعية، صار فريسة في شباك علاقات القوة في مجتمع فرعوني تحكمه ثنائية (مستكبر، مستضعف). في هذا الوسط الآسن المريض يصير الإنسان بوقا ينفذ ما يملى عليه من شعارات أو يدعو إلى ما يرضي القائد الملهم أو يصدر فتوى تمهد لإصدار أحكام قاسية على الخارجين على القانون… باختصار، صار يؤدي أدوارا مختلفة لإرضاء سيده، حامي الملة والدين!
“التاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائما جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الإنسانية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، بوصفه ممثلا وشاهدا. وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل، بالجزيء المحروم من قوة الجاذبية، بالفرد الذي يعيش في مجتمع منحل، لم يقدم لوجوده أساسا روحيا، أو أساسا ماديا” (مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص. 32).
فالحضارة عندما تكون في قمة العطاء والإنتاج تمنح الإنسان المثل الأعلى وتعلي من شأنه وتحرر إرادته، وعندما تنطفىء شعلتها تنتج الإنسان المريض الذي سلبت منه كل مقومات الإبداع والتمثل، له قابلية للاستعباد والمسخ أقرب إلى القردة والخنازير “وجعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت” (سورة المائدة، آية 60). والمقصود بالمسخ هنا هو مسخ ثقافي وليس بيولوجيا! كما كتب المفكر خالص جلبي في كتابه (كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد، ص. 154) يقول:
“إنّ القرآن قرن بين ثلاثة مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية، فذكر (القردة والخنازير وعبد الطاغوت)، ويظن البعض أنّ المسخ كان بيولوجياً، وهو ثقافي كما نرى. إنّ أول ما نزل من القرآن كان سورة العلق، وهي أكدت ثلاثة معانٍ مفصلية:
ـ الأول: تأكيد الكرامة بالقراءة (اقرأ وربك الأكرم) من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
ـ والثاني: معالجة أشدّ مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً وهو الطغيان، إذ أنّه قابلية مشكّلة في جبلة كلّ منا إذا مُنح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أنّ سلطة قليلة تعني فساداً قليلاً، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً.
ـ والثالث: وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان، وهو (عدم التعاون) ورفض الطاعة، لأنّ الحساب في الآخرة فردي، ويجب أن يفكر الإنسان باستقلال ويتصرف بإرادة، وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال حبّة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لا يتمّ بغير سجود فعلي، ولا سجود إلا برفض طاعة الطاغية (كلا لا تطعه واسجد واقترب)”.
إن الإرادة الجماعية – على حد تعبير المؤرخ توينبي – يستفزها التحدي عندما تواجهه الجماعة التي اختارت العمل المشترك، وهو ما تفعله الثقافة الراقية كدستور للعمل الجماعي، ترفع من شأن الإنسان، تفعل طاقته وتحرر إرادته من كل عبودية واستبداد، يؤدي واجبه كمواطن صالح مسؤول، يفعل ما يمليه عليه ضميره، ويعصي الأوامر التي تضر بكرامته وكرامة المواطنين. وهكذا يصير عبدا لله وحده حرا الإرادة.
مرحلة المجتمع ما بعد الموحدين هي المرحلة الأخيرة من عمر الحضارة الإسلامية، يسميها مالك بن نبي بطور الغرائز. في هذه المرحلة يعجز المجتمع عن أداء مهماته ومسؤولياته، يصاب بالتخمة ويكثر من اللغط والجدالات العقيمة حول مسائل لا تفيد المجتمع لا في دنياه ولا في آخرته كحالته الراهنة.
في هذه الفترة بالذات لم يعد المجتمع الإسلامي يقدر على أداء أية وظيفة أو عمل جماعي مشترك، ذلك أن شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزقت بصورة نهائية. وهذا ما يشير إليه حديث القصعة:”يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله..؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”.
لم يقف كثير من شراح هذا الحديث – للأسف – عند بعده الاجتماعي التاريخي، بل اكتفوا فقط بتفسيره تفسيرا فقهيا لغويا، بيد أن الحديث هو ضرب عالي من التنبؤ والاستحضار لما آل إليه المجتمع الإسلامي من كلالة وغثائية وعبودية وتمزق، أي عندما لا يعود مجتمعا، بل مجرد تجمعات لا هدف ولا غاية لها كذرات في مهب الريح، غثاء كغثاء السيل!
ولا ريب أن الأجيال الحاضرة تدرك حقيقة هذا الحديث أكثر مما كان يدركه أصحاب النبي (ص). استغرب الصحابة عندما أخبرهم الرسول (ص) بهذه الحقبة العسيرة التي ستحل بالمجتمع الإسلامي. أما نحن فنفهم مضمونه فهما واضحا جليا، نعيشه في واقعنا، والواقع هو أفضل من يفسر النصوص!
إن حديث القصعة يصف وصفا اجتماعيا رائعا كيف تندثر المجتمعات وتغيب عن مسرح التاريخ، عندما تتخلى عن تحمل المسؤليات وتصاب باللامبالاة والعبث بمصير الأمة واتخاذ الدين في خدمة السياسة والأرباب المستبدين وقتل الإنسان من أجل رأيه واعتقاده.
القابلية للاستعباد
لعل أفضل من قام بدراسة آفة القابلية للاستعباد حديثا هو المنظر الاجتماعي مالك بن نبي مستقرئا واقع الشعوب العربية والإسلامية عبر مراحلها التاريخية لينتهي به المطاف إلى اكتشاف داء (القابلية للاستعمار) الذي تصاب بها الشعوب المستعمرة ويؤدي بها إلى الخنوع والاستكانة والمهانة والوقوع فريسة سهلة المنال في يد الاستعمار مستعبدها. كثير من المسلمين يرون أن سبب تخلفهم وضعفهم وقلة حيلتهم هو الاستعمار، لكن مالك بن نبي يرجع المشكلة إلى أصولها المغيبة ويردها إلى سببها الأول وهو القابلية للاستعمار عندما تعمل عملها القبيح في نفس الإنسان فتجعله أداة طيعة في يد سيده يتفانى في خدمته.
من وجهة نظر علم النفس هي رضوخ نفسي عميق – يشير ابن نبي في دراسته لهذه الآفة الاجتماعية -. هذا الرضوخ تشكل في وقت مبكر في عمر الحضارة الإسلامية تحت قباب جامعة القيروان ودمشق وبغداد حيث هيأت للتفسخ الداخلي قبل اجتياح جيوش المستعمر، أي الاستعداد النفسي لدى الفرد المسلم كتربة جاهزة لنمو جراثيم المرض. فعامل التفسخ الداخلي يسبق الغزو الخارجي.
إن آفة القابلية للاستعمار التي توصل إليها المفكر الجزائري عبر تجربته الطويلة مع المستعمر لتشبه إلى حد كبير ما توصل إليه الكاتب الفرنسي (لابوسييه) في رسالته (العبودية الطوعية) فيقول في إحدى فقراتها:”فلست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان ومن الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنّه لأمر جلل حقاً، وأدعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد تمّ سحره”.
كيف يتسنى لشخص واحد أن يتحكم في رقاب ملايين من البشر منقادين طيعين يخدمونه بتفان رغم بؤسهم وفقرهم وجهلهم؟!
ما سبب كل هذا الخنوع والإذلال والغفلة؟!
في فقرة أخرى من الرسالة يكتب لابويسييه عن سبب هذه الخنوع والانقياد فيقول:”لنقل إذن إن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية كشأن الجياد الشوامس تعض الرسن بالنواجذ في البدء ثم تلهو به أخيرا وبعد أن كانت لا تكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها تقول إنها كانت منذ البدء ملكا لمالكها، وأن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور، وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الالتزام، وبمرور الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها إياها”
قوة العادة عندما تكون أقوى من قوة الطبيعة (الفترة) تجعل الشعب ينسى كرامته وحريته وبالتالي يرضخ للواقع المفروض عليه، مسلوب الإرادة والعقل، يستولي عليه شعور أن طبيعة الحياة هكذا يستحيل تغييرها، لا بديل له عن مسايرتها والتكيف معها، وبهذه الغفلة المطبقة يصير الشعب ثمرة ناضجة في يد المستبد! فكل الويلات والجرائم ضد الشعب التي يقدم عليها الديكتاتور تكون باسم الشعب، وكل حرية تصادر تتم باسم لا حرية لأعداء الشعب، وباسم محاربة الفساد زج بكل مناهض للفساد في السجن. كل هذا يحدث أمام أعين الشعب ولا ينبس ببنت شفة، بل نراه يبرر أفعال المستبد المشينة بكل ما أوتي من قوة!
إن كتاب القرآن قدم وصفة علاج معضلة الاستبداد لا تختلف كثيرا عن وصفة (لابويسييه). يلوم المستضعف عن اتباع المستكبر! يلومه عن عدم عصيان أوامر المستبد! وما يقع للناس هو من أنفسهم وبما كسبت أيديهم، وما ربك بظلام للعبيد، ويحذر العالم والمثقف من أن يتقربا من السلطان فينسيان واجبهما المقدس، واجب نشر المعرفة بين الناس ليعقلوا ويصحوا من كبوتهم واستضعافهم!.. المعرفة الجادة هي التي تغير المجتمع وليس تغيير الحكام لأن الطغيان لا تقتلع جذوره من الأرض إلا بالمعرفة التي تغير الإنسان. لا يمكن لشعب أن يستعبد لولا استعداده على نحو خفي للعبودية ولا يمكن لديكتاتور أن يستعبد شعبا واعيا، يعرف ما له وما عليه!