محمد أزرقان: جدلية العلاقة بين الاستكبار والاستضعاف

3 مايو 2023
محمد أزرقان: جدلية العلاقة بين الاستكبار والاستضعاف

موضوع الإستكبار والإستضعاف موضوع شائك ليس من السهل بحثه إن لم نتشبع بالوعي التاريخي. أورده القرآن في أكثر من موضع، لا يقل عن ثماني مواضع. والقرآن عندما يقص علينا قصص الأولين لم يقصها هكذا عبثا، إنما هي للإعتبار والإتعاظ “فاعتبروا يا أولي الأبصار” وفي آية أخرى “فاعتبروا يا أولي الألباب”.
مركب (استكبار- استضعاف) هو أخطر مرض تحدث عنه القرآن في العلاقات الإجتماعية منذ أن خلق الله الإنسان على هذه الأرض. الإستكبار يولده الإستضعاف، الإستضعاف هو منبع الإستكبار وجذره. الناس تكثر الشكوى من استبداد المستبدين وواقع الإستبداد، دون أن تعي أنه لا يصنع الطغاة إلا العبيد. المستبد هو أضعف الناس، وأغباهم، وأكثرهم عبودية، لكنه يستبد بمن هم أضعف منه إرادة في التحرر من الإستبداد.
خطاب القرآن واضح في مسوغاته وهو موجه إلى الصنفين: مستكبرين ومستضعفين، مستبدين ومستبد بهم: “قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا” (س. سبأ).
تنطبق معاني هذه الآية خاصة على طبقة العلماء والنخبة المثقفة حيال ولاة الأمور المستبدين. من واجب العلماء والمثقفين تقديم النصحية للحاكم والجهاد في سبيل كرامة الإنسان وحرية الكلمة والإعتقاد والقانون فوق الجميع. فإذا تقاعسوا عن هذه المهمة الخطيرة طمعا في المال والشهرة والتقرب من السلطان فسيندمون يوم القيامة لا محالة حينما يخذلهم ويتبرأ منهم هذا السلطان: “أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين…”
قديما ادعى النمرود الألوهية:”أنا أحيي وأميت”، ولم يكن سلطانه يمتد إلا إلى رقعة محدودة من العالم، أما جبابرة اليوم فسلطانهم يمتد إلى العالم كله، العالم جميعا في قبضتهم، والناس من حولهم ينظرون إليهم بعين الحسد لا لإزالت نظامهم المستبد الفاسد، ولكن يتمنون لو حصلوا على امتيازات مثل امتيازاتهم.
ما يفعله اليوم الإستكبار العالمي ومن صار على شاكلته هو ما قاله فرعون قبل أربعة آلاف سنة :”ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد” (س. غافر). كان فرعون يعلم علم اليقين أن الرأي العام هو من ينقذه من دعوة موسى التي تهدد امتيازاته بالزوال! طاعة الرعية لفرعون جوهرية في مواجهة موسى والذين آمنوا معه لمطارتهم وقتلهم “فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون” (س. الشعراء).
هذا الحوار القرآني الأزلي يكشف عن نفسية المستبد الطاغي وكما هو يكشف أيضا عن نفسية المستضعف المستكانة المذلة. المستضعفون في هذه المعادلة النفسية لا يمكن أن يتسلط عليهم المستكبرون إلا بالوهم والخوف والجهل فينتزعون منهم الطاعة والولاء.
يقول الكاتب الفرنسي أتين دي لابويسيه في رسالته (العبودية المختارة) :”إن الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها أو قل إنها تكبل نفسها بنفسها ما دام خلاصها مرهوناً بالكف عن خدمة المستبد”. القيود المكبلة تتحطم وتهوى عندما يعلن الانسان لمستبديه وظالميه أن الظلم والفساد مضر للنفس والمجتمع!! وهو بالضبط ما جاء به الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، معلمو البشرية: تحطيم قيود الاستعباد وإعادة الاعتبار للانسان كي يعيش كريما عزيزا، ينعم بحرية عقله وروحه، ويعمر الأرض كما أراد له رب السماء وليس كما أراد له أرباب الأرض!
إن من يسعى جاهدا إلى دراسة القرآن دارسة سننية نفسية لا بد من أن يدرك أنه يؤسس لفكرة انقلابية في التصور حيال تغيير الإنسان! يتحدث القرآن بشكل ملفت للغاية عن ظلم النفس لأهميتها في صنع غد أفضل على هذه الأرض. أول خلق تفطن إلى مبدأ (لوم النفس) هو آدم (عليه السلام) عندما وقع في الخطيئة فندم وتاب. أما إبليس استكبر واصيب بالغرور وكان من الخاسرين!
وبناء على ما حصل لآدم يستنتج أن الإنسان له استعداد إدراك خطإه ولوم نفسه فيؤسس بالتالي لفهم جذور المشكلة الإنسانية، وفهم الظلم الإجتماعي عندما يتحول المجتمع من مجتمع يحكمه القانون إلى مجتمع تسود فيه الطبقية الطاغية من مستكبرين ومستضعفين.
كتب المفكر السوري خالص جلبي يقول: “إن المشكلة الإنسانية هي طغيان بعض البشر وهم عادة قلة والمستضعفون كثرة. وهؤلاء المستضعفون لا يمكن أن يتسلط عليهم المستكبرون إلا بالوهم والجهل فينتزعون منهم الطاعة. مع هذا فالمراهنة هي على المستضعفين (الأكثرية) إلا أن كثرتهم لا تغني شيئا إن لم يتعلموا ويخرجوا من الوهم والجهل، وعلى أهل العلم، ورثة الأنبياء، أن يبلغوا رسالة الله التي هي تاريخ البشر وتجاربهم، ومرجع القرآن التاريخ. وحين يتعلم الناس التاريخ، لن يكونوا أداة بيد الطاغوت، لأن وعي الناس هو الضمان لردع الطغيان. وحين لا يخدم الإنسان الطاغوت فسيتنازل الطاغوت عن طغيانه، وسيتحول إلى خادم يؤدي واجب حراسة ما أوتمن عليه، أو استخلف فيه. والبشرية تتقدم إلى هذا بشكل ثابت راسخ، وإن كانت السرعة تختلف، فالجميع يتقدمون إلى الوعي بسبب الخسائر التي تنتج عن طاعة الطاغوت، الذي أمرنا الله أن نتجنبه، ونكفر به عن علم، ونتجنب مساعدته في العمل، وإن فعلنا ذلك عاد إنساناً لا رباً خالقاً ومالكا للبشر”.
أرسل الأنبياء والرسل بمبدإ واحد ألا وهو رفع الأغلال والآصار عن المستكبرين والمستضعفين معا، ولكن لم ندرك جوهر هذا المبدأ والعمل به في مواجهة وعلاج مرض (استكبار- استضعاف).
لا يمكن لمجتمع أن يعرف ذاته وكرامته ويكتشف كنوز السعادة في نفسه في ظل هذه العلاقة المشؤومة بين الإستكبار والإستضعاف!!
المجتمع السوي والراشد والآمن هو الذي يحكمه العدل وكلمة السواء ولا أحد فوق القانون، الكل سواسية أمام القانون أو كما جاء في الحديث “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”، والتقوى معناها السعي إلى إعادة الإعتبار للإنسان كمواطن ومسؤول وفاعل في المجتمع يكافح من أجل إحقاق قيم العدل وكلمة السواء وحرية الرأي والإعتقاد.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق