محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (10)

4 يوليو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (10)

يعد مجال الرياضة الدينية – كما يسميها إقبال- مجالا حقيقيا وواقعيا ككل ضرب آخر من ضروب التجربة الإنسانية. وليس في وصف رياضة القلب بأنها روحانية أو صوفية، أو أنها من خوارق الطبيعة، ما يقلل من شأنها من حيث هي تجربة، فكل تجربة في نظر الإنسان البدائي كانت من خوارق الطبيعة.

وقد أوحت إليه ضرورات الحياة الملحة أن يضع لها تفسيرا تولدت منه بالتدريج (الطبيعة) في المعنى الذي اصطلحنا عليه لهذا اللفظ. والحقيقة الكاملة التي تدخل في وعينا، ثم تظهر بعد تفسيرنا لها في صورة حقيقية تجريبية، لها طرائق أخرى تغزو بها وعينا وتفتح مجالا آخر للتأويل والتفسير. وفي الكتب المنزلة، والمؤلفات الصوفية للجنس البشري دلالة كافية على أن الرياضة الدينية صاحبت الإنسان منذ أقدم العصور، وتغلغل سلطانها في تاريخ البشرية إلى حد يجعل من العسير علينا أن نعدها وهما لا غير.”

فرأي محمد إقبال يؤكد بطريقة أو بأخرى رأي باسكال. فالأول يعبر عنها بتجربة الرياضة الدينية ويجد لها تفسيرا تاريخيا، ويعدها مصدرا من مصادر المعرفة. وأما الثاني فيرى أن ليس بمقدور العقل أن يبرهن عن هذه التجربة إلا بمعرفة العلل والمعلولات كلها، من البدء إلى النهاية.

انتظرت زيارة الأقارب بمناسبة عطلة فصل الربيع بفارغ من الصبر، ولكن الزيارة لم تتم، لأن الوالد كان له رأي آخر، هو أن أبقى في حد الرواضي لأستفيد أكثر من المساعدة المقدمة لي بشأن تحضير مواد الامتحان. لم يكن لي خيار سوى الرضوخ للأمر الواقع.

فصل الربيع في بلدة حد الرواضي له وقع ووخز آخر على النفس بالمقارنة مع أجواء فصل الربيع في بلدة بني حذيفة. الحديقة المحاطة بالبيت تزينت بحلة خضراء تبعث في نفسي الانشراح والسعادة. بعد الانتباه من النوم وتناول وجبة الفطور أفضل الجلوس وسط هذه الحديقة أبدأ في مذاكرة مواد الامتحان، ريثما يلتحق بي ابن عمي بوعلال لتستمر الجلسة  إلى غاية ما بعد منتصف النهار.

لفصل الربيع عند الشعراء والأدباء منزلة رفيعة ومقام عظيم، فهو يوحي لهم ببدائع التعبير والتصوير. تبلغ الطبيعة فيه ذروتها من الفتنة، لذلك نجده على رأس الفصول الملهمة لذوي الأحاسيس المرهفة والوجدانيات الفياضة.

ومن يتصفح دواوين الشعراء ونثر الأدباء يجدها حافلة بذكر الربيع والمروج الخضراء، والروابي المزدهرة.. أنطق ناظمها فيها الطبيعة، وجعلوا لها عالما يفيض بالحياة، ويمتلئ بالحركة.

في حدود الساعة الثانية بعد منتصف النهار يدعونا الوالد إلى مائدة تناول الغذاء، يحضره بيديه ويحسن تقديمه لنا، وخاصة عندما تكون الوجبة طاجين سمك مشرمل بالتوابل والخضر نأكله بشهية كبيرة. كان الوالد رحمه الله طباخا ماهرا، وأحسب أن مهارات الطبخ اكتسبها من خلال معايشته قوم الإسبان. وقد أمضى الوالد نصف عمره مع الإسبان في إطار الخدمة العسكرية ومهنة الجندية، متنقلا بين شمال المغرب وإسبانيا أيام الاستعمار الإسباني.

وعند الفراغ من تناول الطعام وغسل الأواني وتنظيف المكان، يقترح الوالد علينا شرب الشاي بعشبة النعناع على سطح مقهى عمي بوعلال عندما يسمح له الوقت بذلك، يشاركنا فيه صاحب المقهى (سي بو علال)، فيستمر حديثنا إلى غاية صلاة المغرب. وأما إذا كان الوالد مرتبطا بمهمة من مهام عمله، فينصرف مباشرة بعد تناول الغذاء. وفي هذه الحالة كنت أفضل المشي خارج القرية بين أحضان حقول الزرع وفي بعض الأحيان أذهب إلى المقهى لمتابعة فيلم من أفلام رعاة البقر المفضلة لدي.

هذا البرنامج كان من اقتراح الوالد منذ بداية العطلة. وأحسب أنه تعمد هذا البرنامج لسببين اثنين، الأول: الاستفادة من المساعدة المقدمة لي في تحضير مواد الامتحان استفادة جيدة. وطلب من ابن عمي بوعلال ليجري معي مراجعة عامة استعداد للامتحان الذي سيجرى في غضون مدة شهرين. والسبب الثاني هو إشغالي عن التفكير في زيارة  بلدة بني حذيفة التي لطالما انتظرتها. والواقع أنه كان محقا في وضع هذا البرنامج للمراجعة، أفادتني في استرجاع كثير من المعلومات وتهيئة نفسي للامتحان، والنتيجة أنني ذهبت لاجتيازه بثقة في النفس.

يذكرني هذا الجهد وهذه الأجواء بأجمل أيام من فترة الطفولة. كانت الخاتمة الخيرة، ختمت بها مرحلة متابعة دروسي الابتدائية، وأنا الذي عانيت أشد المعاناة في السنوات الأولى من هذه المرحلة لأسباب كثيرة، أهمها إعاقة  قدمي التي كانت السبب الرئيسي في تأخر مساري الدراسي.

أتذكر كم كنت سعيدا عندما أخبرني الوالد بالنتيجة المتفوقة التي حصلت عليها والتهاني التي تلقيتها من مدير المدرسة والمدرسين وأفراد الحضيرة العسكرية وكل من كانت تربطني به  علاقة صداقة في قرية حد الرواضي المباركة. وأما عمي بوعلال، الرجل النبيل وابنه فكانت سعادتهما كبيرة، هنآني تهئنة حارة بهذه المناسبة.

رأيت الوالدة والسعادة تغمر وجهها عندما أخبرتها بالخبر السار. نهضت من فراشها متكأة على عكازها، فضمتني إلى صدرها مهنئة ومتمنية لي مستقبلا زاهرا، ثم طلبت من أفراد الأسرة طبخ ديك سمين لطعام العشاء احتفاء واحتفالا بالمناسبة السعيدة.

كان للوالدة موعد مع السفر إلى مدينة تطوان طلبا للعلاج. طلب مني الوالد أن أرافقها في هذا السفر لأمضي أيام عطلة الصيف في مدينة تطوان، ويعرفني ابن الخال على المرافق الحيوية للمدينة مكافأة لنجاحي وجهدي.

سعدت كثيرا بهذه الزيارة، وهي أول زيارة في حياتي إلى مدينة كبيرة كمدينة تطوان، لم أكن لأحلم بها. استقللنا حافلة من حافلات شركة المعروفة باسم “السدراوي” في الصباح الباكر، قاطعين مسافة ليست بقصيرة، ما يقارب الثلاث مائة من الكلومترات (مئتان ميل). أتذكر مشقة هذا السفر وتعبه لا أنساه ما حييت!..

أصيبت الوالدة بدوران في رأسها مما سبب لها كثرة القيء، إضافة إلى أوجاعها ومرضها وضعف مناعتها، فأنهك قواها، وأشرفت على الموت… تساءلت: ما العمل؟… وكيف أنقذها من هذا العذاب؟… طال بنا هذا السفر الشاق ولا نهاية له!… وظننتها ماتت عندما رأيتها مغشيا عليها، لا تتحرك ولا تتكلم، غابت عن الوعي كلية.

وصلنا محطة مدينة تطوان والوالدة لا زالت فاقدة لوعيها ممدودة على المقاعد الأخيرة للحافلة. أخبر سائق الحافلة في الحال أخ الوالدة الذي كان موجودا بالمحطة في انتظارنا بحكم زمالة المهنة (أخو الوالدة يعمل هو أيضا كسائق حافلة الخط الرابط بين مدينة تطوان والدار البيضاء). أثناء السفر وقف بجانبي رجل فاضل مع زوجته يهدئانني من روعي وقلقي، بل تطوعا أن يبقيا معي في المحطة في انتظار مجيء الخال.

إنني مواطن من مواطني هذه المنطقة المنكوبة إن كان هناك معنى للمواطنة في قاموس الحكام الجدد بعد الاستقلال

إن الطريق الرابطة بين مدينة الحسيمة وتطوان طريق وعر شاق، ملتوي ومحفوف بالمخاطر. أكثر من عشر ساعات وأنت جالس على مقعد ضيق تشعر فيه بالاختناق. الحافلة طويلة الحجم تحتوي على خمسين مقعد أو أكثر.

أنشىء هذا الطريق في عهد الاستعمار الإسباني لأغراض عسكرية. وفي عهد الاستقلال حولته وزارة الأشغال العمومية إلى طريق عمومي يستخدم لنقل المسافرين والبضائع، بعد أن أدخلت عليه بعض التعديلات والإصلاحات البسيطة، كرصفه بالإسفلت. والطريق يمر عبر جبال وصخور بنيتها وعرة ومعقدة، تكثر فيه الملتويات والمنعرجات، يتطلب التأني والحذر واليقضة لأن حوادث السير على هذا الطريق غالبا ما تكون رهيبة، تخلف ضحايا لا يمكن أن تصلهم إلا بشق الأنفس. فالسيارة أو الشاحنة عندما تصطدم بالأخرى، أو تنحرف عن الطريق، يكون مآلهما لا محالة في قاع الوادي. ولقد رأيت بأم عيني في أواخر سبعينات القرن الماضي أطراف البشر ممزقة وملصقة على الصخور والأحجار عندما انزلقت إحدى الحافلات ليلا عند منعرج خطير، لتنتهي وتستقر في قاع النهر أسفل الجبل. وعن مثل هذه الحوادث فحدث ولا حرج.

إنني مواطن من مواطني هذه المنطقة المنكوبة إن كان هناك معنى للمواطنة في قاموس الحكام الجدد بعد الاستقلال. نشأت في مدشر أيت كمون الواقع ضمن القرى والمداشر والبلدات التابعة لمنطقة أيت حذيفة. فيها تركت روح ذكريات طفولتي البريئة وأيام شبابي قبل أن أهاجر وأسيح في أرض الله الواسعة. وهذه الذكريات المدفونة في الماضي، ذكريات مدشر أيت كمون والبيت الذي شهد مولدي وجبل الغربان، ستبقى تشعرني بالحنين إلى هذه الديار إلى أن يأذن الخالق بالرحيل الأبدي.

وبالنسبة لي فإن زيارتي إلى بلد المغرب تعني وجدانيا وروحيا، زيارة البيت الذي أقامته يوما الوالدة وهي تعاني أشد المعاناة بسبب المرض والتعدي الصارخ عن حقوقها الإنسانية. أزور هذا البيت الذي هو الآن يشرف عن الانتهاء لأسكب الدموع على أطلاله المتبقية.

وأما الحديث عن المنطقة المنكوبة وتهميشها فسيطول بنا المقام وليس هذا هو وقته، ينبغي أن نخصص له كتابا متكاملا، تبحث فيه أسباب التهميش في إطار دراسة تاريخية موسعة لبلاد المغرب الحديث، تشبه تلك الدراسة الاجتماعية – التاريخية التي وضعها العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي بعنوان لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. يتوخى فيه الباحث النزاهة والعلمية بعيدا عن التحزبات السياسية والدينية والعرقية الضيقة.

 إلا أنني لا بد أن أتوقف قليلا عند هذه النقطة المهمة لتاريخ المنطقة، لأدلي ببعض الرأي فيها. وبحسب التاريخ الحديث لهذه المنطقة المعروفة بمنطقة الريف، تعرضت لتجاذبات سياسية تنحصر ما بين ثورة الريف بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي من جهة وبين الاستعمار الإسباني والفرنسي والقصر الملكي من جهة أخرى.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق