لم يكن المجاهد الخطابي لا عروبيا ولا أمازيغيا بمفهومها الأيديولوجي الضيق. كان الرجل يناضل ويجاهد من أجل كرامة الإنسان المغربي في الحياة وحقه في الوجود. وهذا يبدو واضحا من رسالته التي استشهدت بها.
إن ما يحتاجه الإنسان المغربي، بما فيه الإنسان الأمازيغي، ليس اللغة بالدرجة الأولى ولا السياسة، وإنما معرفة ذاتيته وكرامته المستمدة من خلق ثقافة راقية تكون بمثابة وعاء لنهضته وحضارته. فعلى كتاب الأمازيغ والعرب في بلد المغرب أن يتنبهوا لهذه القضية الحاسمة في توعية وتوجيه الشعب الوجهة الصحيحة السليمة لغد أفضل. فالمشكلة إذن هي مشكلة الإنسان المغربي المعذب في جبال الريف وجبال الأطلس والجنوب والمناطق الأخرى. المشكلة يا ساداتنا المثقفين هي مشكلة تدهور قيمة وكرامة الإنسان في الطبقات الدنيا، وسقوط المرأة بفعل الجهل والجوع، وهزال الطفولة بفعل سحق كرامته واستغلاله وجهله. طالما أن هذه المشكلات باقية لا تحل… وطالما أن الاختناق الاجتماعي لا يزال ممكنا في هذه البقاع والمناطق، أو بتعبير آخر وبنظرة أوسع شمولا أيضا، طالما أنه سيوجد على الأرض جهل وبؤس، فإن الكتب التي تعالج فيها مثل هذه القضايا لا يمكنها أن تكون لها فائدة. ثم أزيد هنا وأستشهد بقول الكاتب (دو هامل) في توزيع المسؤوليات في بلد معين كما أورده (المفكر مالك بن نبي) في إحدى مقالاته الصحفية:” وعليه فإن الكاتب إذا أراد أن يؤدي رسالته كما ينبغي، فإنه يجب عليه أن يبقى حرا منعزلا، أو بعبارة أخرى لا منتميا”.
فاليوم، جيش من البروليتارية ومنكوبي الحروب والاستبداد يزحف على أوروبا برا وبحرا، ولا أحد يستطيع إيقافه واحتوائه
فالكاتب المخلص الذي يريد أن يعالج مشاكل الإنسان المغربي بحيث تفضي إلى توعيته بذاتيته وكرامته، وبالتالي رفع من ميزاته الاجتماعية ومعنوياته الروحية، ينبغي أن يكون لا منتميا إلى عرق أو حزب أو جماعة أو مذهب.
أمضيت مع الوالدة ما يقارب الشهر في مدينة تطوان ضيفين عند الخال. تجولت في شوارع المدينة ومرافقها، عرفني ابن الخال على الأماكن الحيوية والمهمة للمدينة، وكل ما شاهدته أثار دهشتي وانتباهي. قرر ابن الخال ليعرفني على شواطئ المدينة، وما أكثرها، يقصدها الناس في فصل الصيف من كل جهات البلد للاصطياف والاسترواح. كنا نتحاشى هذه الأماكن المزدحمة ونبحث عن مكان نجد فيه راحتنا ولا نجده إلا بشق الأنفس.
لابن الخال أصدقاء كثيرون، يتحدثون بلهجة محلية يصعب علي فهمها فهما واضحا، ولهم عادات وتقاليد تختلف عن عاداتي وتقاليدي البدوية. باختصار، وجدت صعوبة في الانسجام معهم عندما يجمعنا بهم شاطئ البحر، أو نلتقي بهم في أماكن ومناسبات أخرى.
في سفر الإياب، سافرنا عبر نفس الشركة للنقل التي سافرنا عبرها في الذهاب. وحتى لا يتكرر ما حصل للوالدة أثناء المجيء، أوصى الخال سائق الحافلة ومساعده بحكم الزمالة بأن يهتما بنا في حالة تدهور صحة الوالدة وإصابتها بالدوران في الرأس.
مر سفرنا هذه المرة بخير، ولم يلحق بالوالدة ما لحق بها من معاناة في سفر الذهاب. قبل السفر بساعات تناولت حبات من أقراص أعطاها إياها الطبيب الذي عرضت نفسها عليه للفحص، فكان مفعولها جيدا.
وقبل سفري بأيام إلى قرية تارجيست لأستأنف متابعة دروس المرحلة الإعدادية، كانت الوالدة، رغم متاعبها الصحية، قد تولت الاهتمام بأدق تفاصل السفر، خاصة أنني سأكون هذه المرة طالبا داخليا. وهذا يفرض على الطلاب أن يحضروا معهم لوازمهم من الملابس والأغطية الكافية. طقس قرية تارجيست طقس بارد قارس، خاصة في فصل الشتاء.
لقد حضرت الوالدة ذلك كله وهيأته. ويوم السفر رافقتني الوالدة كعادتها خارج البيت تتوكأ على عكازها، تدعو لي وتوصيني بأن أهتم بنفسي ودراستي، وأستعين بالأخت وزوجها عند الضرورة والحاجة. كانت الأخت لا زالت تقيم بقرية تارجيست.
عودتي إلى قرية تارجيست وضعتني وجها لوجه أمام الظرف الجديد وآفاقه، فعلى عتبة باب ضخم من حديد، والذي لا يفتح إلا في المناسبات الكبرى ويكتفى في الأيام العادية بفتح باب صغير فيه، على عتبة ذلك الباب استقبلني رجل له سمة ينبئ عن اتصال وثيق بوسطي الجديد. كانت السنون قد أحنت ظهره، وكان يرتدي قميصا من الكاكي، استقبلني وعليه ابتسامة ساخرة، لا تبعث على الاطمئنان.
سمته سمة لؤم وعينان خبيثتان وراء نظارتين بذراعين معدنيتين، وشارب خطه الشيب. كانت هذه كلها قسمات ذلك الرجل الذي يدعونه بالعم، والذي سوف أناديه بهذا الاسم لأربع سنوات. إنه الشاوش ذو الشخصية الغامضة التي لا تستقر على حال. فهو لطيف اليوم وربما كان في الغد سمجا ثقيلا، يعمل كمخبر عند مدير المؤسسة. وعند نهاية العطلة الصيفية يقف على عتبة هذا الباب الصغير المفتوح لاستقبال زبنائه من الطلاب الجدد، يبادرهم بهذا السؤال:” ما اسمك؟ ومن أين قدمت؟” فواضح أن الرجل أمي لا يقرأ، لأن الجواب على أسئلته مكتوب على الأوراق التي يمسكها بيده.
وعند وصولي إليه سألني نفس الأسئلة: ما اسمك؟ ومن أين قدمت؟
أجبته: اسمي محمد أزرقان.. من بني حذيفة…
من بني حذيفة…
بالضبط، أنا قادم من بني حذيفة.
حسنا، خذ أمتعتك واتبع هذا الرجل – وهو يشير إلى سيد يقف بجانبه – ليدلك على غرفة النوم وسريرك فيها.
تبعت السيد المشار إليه، حاملا أمتعتي وأغراضي. اجتزنا الجناح المخصص لغرف النوم، ثم تسلقنا درجا، في أعلاه فتح السيد بابا لغرفة كبيرة الحجم، مقسمة إلى غرف، يفرقها حائط، وكل غرفة تضم أكثر من عشرين سريرا.
كانت الغرفة التي أخذني إليها معاون الشاوش نصف أسرتها مجهزة. وضعت فراشي على سرير وسط الغرفة بسلم للتسلق. شعرت باختناق في هذه الغرفة المكتظة بالأسرة. لكل غرفة نافذة كبيرة على شكل مستطيل يعلوه نصف دائرة، زجاجها شفاف تطل على حديقة. وفي مقابل الغرف توجد مغسلة ذات حنفيات وبجانبها مكان لدورات المياه.
إن ما يحتاجه الإنسان المغربي، بما فيه الإنسان الأمازيغي، ليس اللغة بالدرجة الأولى ولا السياسة، وإنما معرفة ذاتيته وكرامته المستمدة من خلق ثقافة راقية تكون بمثابة وعاء لنهضته وحضارته
في هذا المكان سوف أقضي مرحلة التعليم الاعدادي، أربع سنوات كاملة مع طلبة من مختلف المناطق. في سبعينيات القرن الماضي، لم يوجد في إقليم الحسيمة المنكوب إلا ثانوية واحدة بمدينة الحسيمة، وهي ثانوية البادسي، وإعدادية الحسن الثاني بقرية تارجيست.
إقليم الحسيمة إقليم مترامي الأطراف، أغلبية ساكنته جبليين، يحيون حياة بدائية عتيقة، تعرف الأمية في صفوفهم نسبة مرتفعة جدا (خاصة العنصر النسائي). فالمراكز التعليمية والصحية تكاد تنعدم في هذه المناطق الوعرة والممتدة عبر سلسلة جبال الريف.
والمرء يتساءل؟ أمن المنطق والأخلاق أن يوجد في إقليم كبير وشاسع كإقليم الحسيمة ثانوية وإعدادية واحدة، لا يدرس فيهما إلا المحظوظون مثلي!؟
إنني عندما أتأمل في حقبة ما بين ستينات وثمانينات القرن الماضي، أو على الأقل: الحقبة التي أنا شاهد على أحداثها، لا أملك هنا إلا أن أدلي بهذه الشهادة: إن سياسة حكام بلاد المغرب سياسة مفلسة لا أخلاقية وبلا ضمير، لا فائدة ترجى من ورائها.
يقول الأب الروحي للأنسنة الفرنسية (Humanisme) رابليه:”العلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح”.
يشرح المفكر (مالك بن نبي) مرامي هذه الحكمة في إحدى مقالاته الصحفية بعنوان: السياسة والأخلاق، فيقول:” هكذا كان (رابليه) يقول في غرة القرن السادس عشرة ولم يكن يدري – وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد – أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.
لكنه منذ تفجر الفكر (الديكارتي) في القرن الذي بعده، أصبح من العسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوكست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).
ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي (القرن التاسع عشر)، عندما زعم العلم، بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.
منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول.”
نفهم من هذه الفقرات لابن نبي أن العلم وحده بدون ركيزة الأخلاق يحدث مآسي إنسانية وتصدعات خطيرة في جسم الإنسانية.
وقولة (رابليه) تشير إشارة واضحة إلى أن العلم لا يمكن له بناء قيمه وأهدافه باتجاه الإنسان بدون تلك الثقة المطلقة بينه وبين الأخلاق. العلم يصير وحشا يدمر الإنسان عندما يفقد أخلاقه المبنية على الشعور الإنساني لا على الحقائق الموضوعية.
وفي فقرات أخرى يقول الكاتب: “إن العلم يزعم لنفسه أنه يستطيع أن يحتل الجامعات والمختبرات والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!!.. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي.. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وباطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.”
فحينما حدث في أوروبا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء – خصوصا في بلدان العالم الثالث – أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).”
ولعلنا نستطيع تقويم هذا الخراب والفساد الذي أحدثه العلم في روح الإنسانية من خلال حقبة الاستعمار والحروب التي أثارتها أوروبا، ولا زالت تثيرها، من أجل مصالحها السياسية والاقتصادية. فاليوم، جيش من البروليتارية ومنكوبي الحروب والاستبداد يزحف على أوروبا برا وبحرا، ولا أحد يستطيع إيقافه واحتوائه.
(يتبع)