محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (13)

25 يوليو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (13)

علاقة السياسة بالأخلاق، هي علاقة جدلية تستهدف تمليك المجتمع رؤية مسبقة تجعل لأفراده هدفا ومعنى، وبالتالي بناء نمط معين من المبادىء والعلاقات الإنسانية تحكمها المنظومة الأخلاقية. لكن حينما تغلب السياسة على الأخلاق، فهنا تبدأ المشكلة ويظهر ذلك السلوك الميكافيلي كما لو أنه يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية.

وإذا كان إنسان الجنوب يعاني الضعف المادي الاقتصادي، فإن إنسان الشمال (الدول الغربية) يعاني الضعف الروحي. فالمهمة الكبرى الملقاة على عاتق الغرب، هي أن يجعل جمهور أفراده يتخلصون من حال الضعف الروحي والخضوع التي جلبوها على أنفسهم. فهل هناك مهمة أشق من هذه؟ يتساءل ألبرت أشف يتسر، مؤلف كتاب: فلسفة الحضارة.

يخلص مالك ابن نبي في مقاله إلى أننا نستطيع بعد تجربة أكثر من قرن، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.

المجتمع الذي نشأنا فيه مجتمع يمارس العنف بمنهجية على أبنائه، بدءا بالبيت، فالمؤسسات التعليمية والتربوية ليمتد إلى الشارع، ثم تستفحل الجرثومة لتشمل جميع مرافق وأجهزة الدولة وشرائح المجتمع.

وخراب الروح الذي تشير إليه حكمة رابليه، بدأ يظهر أثره واضحا في سلوك السياسيين، في الإطار الوطني والدولي على السواء.

وسياسيو بلد المغرب لا يدركون خطر هذا الرتق الأخلاقي – الثقافي الذي حل بأوروبا منذ قرون خلت. لأن فرنسا عندما خرجت من بلاد المغرب خرجت عسكريا، ولكن بقيت ثقافتها ولغتها تحكم البلاد، تولتها نخبة ملوثة بسياسة فرنسية تعاني أزمة أخلاق. فصار الشعب المغربي يحكم بسياسة وثقافة خربة، لا مكان لكرامة الإنسان في قاموسها.

وبأقصى التلخيص يقول مالك ابن نبي: إذا كان “العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح”، فالسياسة من دون أخلاق ماهي إلا خراب روح الأمة، يختم مقاله المنشور في صحيفة الثورة الإفريقية عام 1965م.

بدأت مرحلة أخرى من مراحل مساري الدراسي بهموم تختلف عن هموم المرحلة السالفة. العرض التعليمي يختلف عن عرض المرحلة الابتدائية. وهذا العرض يعطى حسب جدول  زمني أسبوعي، يقدر بساعات. كل حصة يعطيها مدرس مختص بها كما سطر في الجدول الزمني المعتمد.

يتكون البرنامج التعليمي من الحصص التالية:

اللغة العربية تشمل كل من النحو والصرف والإملاء والتعبير بشقيه الشفوي والكتابي.

اللغة الفرنسية تتضمن كلا من التعبير الشفوي والكتابي والإملاء وتصريف الأفعال. بالإضافة إلى التربية الإسلامية والتاريخ والجغرافية والرياضيات.

فطبيعة هذه المرحلة تفرض علي إذن التعامل مع عدد كبير من مواد العرض التعليمي. الأساليب والمناهج التربوية تختلف عن تلك التي اعتدتها في مرحلة التعليم الابتدائي: جدول موعد الحضور والإنصراف، أوقات الحصص، عدد المدرسين، مختلف الحجرات. كل هذه الأمور كان لها تأثير على نفسي، وجدت صعوبة في التكيف والتأقلم معها.

وأما القسم الداخلي فتطلب مني جهدا نفسيا ليس من السهل اجتيازه. النظام في القسم الداخلي نظام صارم، نخضع له طوال اليوم، يحد من حريتنا. الطاقم الذي يقوم على تسيير الداخلي ويعمل على تنفيذ النظام، يتكون من مدير والحارس العام، سي علي، ذو المزاج الصارم والعنيف، يساعده حراس من طلبة الصف الرابع، يعينهم هو بنفسه، ثم مقتصد يتولى ويدير الشأن المالي.

وقت الصحو من النوم يكون على السابعة صباحا، لا تقديم ولا تأخير فيه، عندما يضغط حارس غرفة النوم الجماعية (dortoir) على جرس ثلاث مرات متتابعة، بموجة 100 ديسيبل تكاد تشق غشاء الطبل وتفجيرعظيمات السمع. على الساعة الثامنة نتناول وجبة الفطور: كوب قهوة أو شاي مع قطعة خبز بمذاق المربى والزبدة أو الجبن.

نبدأ في تلقي الدروس الساعة الثامنة والنصف إلى غاية الثانية عشر زوالا. ويليه مباشرة الوقوف في طوابير طويلة استعداد للدخول إلى قاعة كبيرة (refectoire) لتناول وجبة الغذاء. سي علي، الحارس العام، يقف خارج الطوابير ينتظر زبناءه المتأخرين عن الوقت المحدد ليخبرهم بعقوبتهم: لا غذاء لكم عندي!

وجبة الغذاء تكون عبارة عن قطنيات، أو لحم مفروم يحضر بالمرق، يكثر فيه الطماطم المعلب والتوابل، أو أطراف اللحم المطبوخ بالخضر على طريقة الطاجن. وبعد الفراغ من تناول الوجبة، نأخذ فترة استراحة حتى موعد استئناف الدروس الساعة الثانية بعد الزوال إلى غاية الساعة السادسة، لنعاود من جديد الوقوف في ذلك الطابور الطويل في انتظار الإذن بالدخول إلى القاعة لتناول كوبا من الشاي وقطعة خبز (gouter) لا تسمن ولا تغني من جوع، كنا نسميه (sous nutrition).

وأما موعد وجبة العشاء، فيكون بين الساعة السابعة والثامنة مساء، نتناول فيه أحيانا حساء (حريرة مغربية) تضاف إليها قطعة خبز بنقانق، أو أرزا مطبوخا باللحم المفروم، وأحيانا أخرى يقدم لنا طبقا من البطاطس المطبوخ بالمرق. وعندما تغرف في الأطباق ترى قطع البطاطس حافية تسبح في بركة من مرق نأكلها بالخبز. وأما الفاكهة فكانت تقدم لنا من حين لآخر في الغذاء.

الساعة الثامنة تفتح لنا القاعات المخصصة للمذاكرة وإنجاز الواجبات المدرسية إلى حدود الساعة العاشرة. نذهب بعد ذلك إلى غرف النوم. نمنح وقتا محددا للغسل واستعمال دورة المياه، ثم يطفأ النور ليخيم الهدوء على المكان فننام، إلا المشاغبين فهمهم إزعاج النائمين وإثارة الفوضى في القاعة. وعقوبة هؤلاء تكون قاسية: الضرب المبرح بعصا الحارس العام، سي علي.

والسيد الحارس العام لا يعرف شيئا اسمه نقاش أو يستمع إلى مظلمتك. أتذكر العقوبة القاسية والظالمة التي عاقبني بها عندما حصل شجار بيني وبين طالب آخر حرشته مجموعة من الطلبة لتسلية أنفسهم والقهقهة والسخرية من عرجة قدمي. لم أرض بهذه السخرية والتهكم، فضربته بمسطرة ضربة مبرحة على وجهه، ظهر أثارها واضحا للعيان. ذهب إلى الحارس العام يشكو ما ألحقت به من الأذى. أرسل سي علي حالا أحد أعوانه  يستدعيني إليه. وعندما دخلت عليه، بدأت مباشرة أحكي له سبب المشكل وأنه يسخر من عرجة قدمي وقد فعل هذا مرارا وتكرارا… وظننت أن الرجل ينصت إلى مظلمتي لينصفني ويبت فيها بالعدل، ولكن فاجأني بقوله: هل تريد مني أن أنصفك على فعلتك الخسيسة، كدت تعمي عينه!

ضربني على راحة اليد بالتناوب بين اليد اليمنى واليسرى ضربا شديدا قويا، أكثر من خمس عشرة ضربة – كما أتذكر-، فبكيت بكاء شديدا لا أنساه ما حييت. لم أستطع تحريك يدي واستعمالها في الكتابة لأيام، وتطلب الأمر مني جهدا كبيرا لاستعادة ما ضاع مني من كتابة الدروس.

لم أخبر أحدا بهذا التعدي الصارخ على حقوقي، وحتى الأخت التي كنت أزورها في بيتها يوم السبت والأحد، لم أخبرها بما حصل عندما ألحت علي بالسؤال بسبب غيابي عن زيارتها لأسابيع.

إن هذا الحدث عانيت منه نفسيا بشكل لا يستهان به، لأن اللغة التي استعملت لمعالجة المشكلة هي لغة العنف والضرب والإهانة. فالسيد الحارس العام كان ينبغي عليه أن يتمهل ويبحث سبب المشكلة، وخاصة عندما أخبرته أن هذا الطالب كان قصده التهكم والسخرية ليسلي زملاءه، وقد قام بفعلته هاته مرارا وتكرارا. ولكن أنى للسيد الحارس العام أن يلجأ إلى الطريقة العادلة في المعالجة. هو هكذا عاش وهكذا تعلم، هو منتوج المجتمع الذي يمارس العنف ويلجأ إلى الضرب. هو ضحية المجتمع الذي يمارس العنف بمنهجية، وهو بدوره يبحث عن ضحيته ليلقن لها الدروس بالعنف والعصا لمن عصى – كما يقال -. وكنت أنا تلك الضحية عندما ضربني ضربا لا يقبله العقل ولا المنطق.

إن المجتمع الذي نشأنا فيه مجتمع يمارس العنف بمنهجية على أبنائه، بدءا بالبيت، فالمؤسسات التعليمية والتربوية ليمتد إلى الشارع، ثم تستفحل الجرثومة لتشمل جميع مرافق وأجهزة الدولة وشرائح المجتمع.

العنف، بصفة عامة، مشكلة بشرية، عانى منها الإنسان منذ بدء الخليقة (قتل ابن آدم لأخيه). كما أنه أحد القوى التي تعمل على الهدم أكثر من البناء في تكوين الشخصية الإنسانية ونموها، وهو انفعال تثيره مواقف عديدة، ويؤدي بالفرد إلى ارتكاب أفعال مؤذية في حق ذاته أحيانا وفي حق الآخرين أحياناً أخرى…

وعلماء علم اجتماع السلوكي يعرفون مفهوم العنف تعريفات مختلفة، كمثل “اللجوء غير المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق الغير، كما أن العنف لا يتمظهر بحدة إلا في وجود الفرد – المراهق في مجموعة ما”. وتعريف آخر يقول: “العنف عبارة عن فعل، أو عن كلمة عنيفة”. فالسلوك العنيف هنا يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن الباحثين يجمعون على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي، غير متسامح…

إن مشكلة العنف همتني وشغلت لب عقلي منذ عقود. كانت تلح ولا زالت تلح علي أن أبحثها بحثا مستفيضا، علني أصل إلى نتائج تهديني إلى نور جديد أمشي به في الناس، كما عبر عنها كتاب القرآن، في سورة الأنعام “وجعلنا له نورا يمشي به في الناس”.

العنف، بصفة عامة، مشكلة بشرية، عانى منها الإنسان منذ بدء الخليقة (قتل ابن آدم لأخيه). كما أنه أحد القوى التي تعمل على الهدم أكثر من البناء في تكوين الشخصية الإنسانية ونموها

يلجأ المجتمع المغربي للعنف، ويعتمده في حل المشاكل الاجتماعية. والعنف الذي يمارس بإفراط في المدرسة، هو عينة من عينات العنف المتجذر في نفسية المجتمع. يتجلى هذا من خلال “علاقات القوى” بين الزوج وزوجته، والأب وابنه، والضابط بالجندي، والموظف بالمراجع، والشرطي بسائق السيارة، والعسكري بالمدني، والدولة بالمواطن، والأعلى بالأدنى، فكلها في معظمها علاقات إنسانية مشؤومة. ولذلك ونظرا لأهميتها، فقد عالجها القرآن في أكثر من ثمانية مواضع، واستخدم فيها مصطلح أو علاقة (استكبار – استضعاف).

 فالعنف والعنف المضاد يفكك أواصر المجتمع ويدمر نسيجه، يصير المجتمع يسبح في “بلاسما” ثقافية عنفية، يتنفس فيها الكل، ويستحسنه الكل في حل المشاكل. ومجتمعاتنا التي نشأنا فيها لا تعرف شيئا اسمه المنطق والحكمة في معالجة المشاكل، بل تعرف العصا لمن عصى، وهو مثل من أمثال عامة الناس التي تصبغ ثقافتهم اليومية.

وظاهرة العنف مرض عام، ابتلي بها الإنسان منذ القدم، منذ أن استعمله ابن آدم كحل لنزاعه مع أخيه. ويخبرنا التاريخ أن هذه الظاهرة الخبيثة غيبت حضارات بأكملها ومحتها من الوجود. وقد تفنن الإنسان في تطوير آلات القتل والحرب عبر التاريخ لينشر الدمار والفناء. وما يحدث الآن في عالم العربان ما هو ببعيد، وهو ينذر بفناء منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

تبدأ الحرب بالكراهية والحقد. والحقد محله القلب والعقل، ثم تمتد شرارته لتشمل شرائح المجتمع وتأتي ناره على جميع مكونات ومقدرات المجتمع. الحقد يأكل القلب كالنار عندما تسري في الهشيم. والعالم النفسي السلوكي سكينر يقول: الحرب تبدأ في الرؤوس قبل الفؤوس.

ختمت السنة الدراسية بإجراء الامتحانات العامة في جميع المواد. كانت نتائجها مشرفة ومتفوقة باستثناء بعض المواد التي لم يكن لها أي بال أو تأثير على الانتقال إلى المرحلة التالية للتعليم الاعدادي. سعدت بالنتائج التي حصلت عليها وهي ثمرة الجهد المبذول خلال السنة كلها، رغم الصعوبات والمعاناة النفسية التي عانيتها والنظام الصارم للقسم الداخلي الذي لم أتكيف معه إلا بصعوبة كبيرة.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق