لم يبق لي بعد ظهور النتائج إلا أن أحزم حقيبتي وأشد الرحال متجها إلى بلدة بني حذيفة، أحمل النتائج الموفقة التي حصلت عليها كخبر سار أزفه لوالداي. سعدت الوالدة بهذه النتائج ودعت لي بمزيد من النجاح والتوفيق، بعد أن ضمتني بحب وحنان إلى صدرها. ولم تفت الوالدة هذه المناسبة السعيدة لتتوجها بحفلة، تجمع فيها أفراد العائلة حول مائدة العشاء، يليه حديث سمر نستمع فيه إلى قصص وحكايات مشوقة وطريفة إلى غاية وقت متأخر من الليل. وأما الوالد فلم يكن موجودا ليشاركنا أفراح المناسبة السعيدة نظرا لالتزامات ومشاغل العمل.
إني أحفظ للوالدة هذه العادة الحسنة التي كانت تبادر إلى تنظيمها كلما كللت سنتي الدراسية بالنجاح والتوفيق فتقول: اليوم يومك يا محمد، ما علينا إلا أن نكرمك بتحضير عشاء يليق بنجاحك ونفرح معك جميعا. والعشاء يكون عبارة عن طبق لحم ديك سمين بمرقته اللذيذة، نأكله بشهية ولا نشبع منه.
بداية العطلة الصيفية هو وقت حصد الأهالي المنتوج الزراعي وجمعه في مكان قرب البيدر تمهيدا لدرسه (فصل الحبوب عن القش). وكنت أرى الأخ شعيب وأخا الوالدة كيف كانا منهمكين في عمليات جمع هذا المحصول الزراعي وتخزينه على مدار السنة.
في الأسابيع الأخيرة للسنة الدراسية سمعت رغبات ومتمنيات زملائي الطلاب في كيفية قضاء واستثمار إجازتهم الصيفية. فهناك من يذهب في سفر إلى مدينة بعيدة للمتعة والاصطياف على الشواطئ وركوب أمواج البحر، والآخر رتب رحلة مع أفراد عائلته أو زملاء له عبر شواطئ مدينة الحسيمة ونواحيها.. وتمنيت أنا أيضا الذهاب بعيدا عن البيت لقضاء بعض الوقت في النزهة والتجوال. فقررت أن أطلب من الوالد ليزودني بقدر من المال في تحقيق هذه الآمال. ولكن لم يحصل ما تمنيته ورغبت فيه، لأن الوالد لم تسعفه الظروف لزيارتنا في بداية الإجازة الصيفية.
وبما أن رغبتي هاته لم تتم، قررت أن أقضي جل أوقات العطلة بين أحضان الطبيعة وأستمتع بسمائها الزرقاء الصافية وشمسها اللامعة بأشعة محرقة، وأشجارها المثمرة من تين وعنب وهند شوكي.
وعند الاستيقاظ صباحا كنت أفضل تناول وجبة الفطور في باحة البيت، أجلس على مقعد ذات السند الخلفي أمام طاولة مربعة الشكل، أتأمل أثناءها كل ما تحمله الطبيعة من أسرار إلهية.
وبعد الانتهاء من تناول الفطور أستأذن الوالدة بالذهاب إلى مكان يسمى “عنصر اللوز”. يكثر فيه شجر التين والعنب، وهو ملتقى أهالي المدشر في فصل الصيف، يقطفون عناقيد العنب ويعملون على جمع ثمار التين، ينشرونها ويعرضونها للشمس حتى تجف، ثم تجمع لتدخر في أماكن خاصة في البيوت للأكل أو البيع. وللوالد في هذا المكان حصته أيضا من أشجار التين والعنب.
وكان يحلو لي الذهاب في فصل الصيف إلى هذا المكان الذي يزخر بخيرات خالق الكون. تضاريس “عنصر اللوز” متنوعة، تتكون من جبال وهضاب وسهول، تتخللها تلال ومستنقعات، وتشقها روافد أنهار ووديان عدة، تنحدر من سفوح جبل حمام، لتصب في النهاية في نهر غيس. وهو بدوره يعتبر رافدا من روافد نهر النكور الذي يصب في البحر المتوسط.
“عنصر اللوز” هو المكان الذي يأخذ حيزا كبيرا من ذكريات طفولتي المدفونة في طيات الذاكرة، عندما كنت أتنقل وأتجول بين تلالها، أتأمل وديانها، آكل من ثمار شجرها وأشرب من مائها المعدني العذب ولا أشبع منه.
وللشعراء الحق في أن ينظموا الشعر عندما يتجولون بين أحضان الطبيعة ويعبروا عما يستشعرون ويتذوقون من ألوان وأذواق وروائح، نحو كل ما ينمو من أزهار ونبات ومخلوقات تدب على أرض هذه الطبيعة، ذلك أن جماليتها قد استولت على لب عقولهم، كما استولت على لب عقلي وروحي!…
فأجواء الطبيعة أجواء فطرية، تمنح الصفاء الذهني وتنمي الروح، يجد الإنسان المتعة والراحة النفسية والصحية، بعيدا عن الصخب والفوضى والصراخ كما هو حال المدن. ثمة فرق كبير بين رجل المدينة ورجل الأرياف من حيث التكوين النفسي والجسدي. رجل المدينة يعاني تصدعات واضطرابات نفسية، وأما أخاه البدوي، فعكس ذلك، فطرته سليمة وبنيته الجسدية متماسكة وقوية.
وعند عودتي إلى البيت بعد منتصف النهار، يكون الغذاء جاهزا، أتناوله مع أفراد الأسرة. ونظرا لدرجة الحرارة المرتفعة وقت الظهيرة، يلجأ الأهالي عادة إلى أخذ فترة الاستراحة (القيلولة) حتى وقت العصر، ليستأنف العمل بعد ذلك في الحقول، وتقاد قطعان المواشي إلى منطقة تكثر فيها المراعي الواسعة، لتتغذى على عشبها ونبتها ولا تعاد إلى حضيرتها إلا مع إقبال الليل.
إن المنطقة التي يتخذها الأهالي كمرعى لقطعانهم هي أغنى منطقة من حيث هي طبيعة البراري الرائعة والمراعي الغزيرة. وقد عاينت عن قرب هذه المنطقة عندما كنت أرافق الأهالي متجهين بقطعانهم من بقر وغنم ومعز نحو هذه المراعي.
الجلوس في إحدى مقاهي القرية أخذ أيضا وقته في ملء فراغ أوقات العطلة الصيفية. يوم السبت والأحد بعد العصر، تراني قد أخذت مكاني في المقهى، جالسا أمام شاشة التليفزيون، أنتظر موعد بداية فيلم من أفلام رعاة البقر أو مسلسل “المنزل الصغير بين المروج” المفضل لدي.
وأما نصيحة مدرس اللغة العربية بشأن القراءة والمطالعة من أجل رفع مستوانا الثقافي واللغوي، فلم أكترث أو أهتم بها… حدد لنا الرجل مجموعة كتب تناسب مستوانا اللغوي والفكري وتسهم في تنمية وترقية خيالاتنا. ومن بين الكتب التي عينها لنا على ما أتذكر لنتناولها بالقراءة في إجازة الصيف، مجموعة كتب للكاتب الروائي المنفلوطي: رواية بول وفرجيني، رواية الشاعر، رواية تحت ظلال الزيزفون…
والواقع أنني لم أهتم بقراءة ومطالعة الكتب مثل القصص والروايات خلال هذه السنة الأولى للتعليم الإعدادي، اللهم تلك التي كان مدرس اللغة العربية، يكلف كل واحد منا لقراءة فصل من فصول القصة، لتقدم كعرض، نناقشها وندرسها في الفصل، وتتوضح أفكارها وتعم الفائدة. أتذكر هذا المدرس وصرامته فيما يخص إنجاز هذه المهمة. كان الرجل يعمل جهده في خلق أجواء مشجعة ومحفزة لنا لإبداء الرأي والمشاركة في النقاش.
عندما تعود بي الذاكرة إلى هذه الفترة بالذات، لا أملك إلا أن أقول: إن هذا المدرس كان مثلا يحتذى به، قل ما تكرر أمثاله طيلة مساري الدراسي. تعلمت من هذا المدرس النبيل معنى وقيمة القراءة في البناء الثقافي. لم يستمر معنا للأسف لنتابع المشوار ويكتمل النصاب في تثبيت ورعاية النبتة التي غرسها.
فروايات المنفلوطي التي كان يحثنا هذا المدرس على قراءتها، هي روايات ضمن روائع الأدب العربي التي كتبت وترجمت خصيصا للناشئة من أجل إخصاب روحها وعقلها. والمنفلوطي من الأدباء النابغين الذين كتبوا في الأدب القصصي والروائي. انفرد بأسلوب نقي في رواياته وكتبه. قام بترجمة الأدب الروائي الفرنسي، فصاغه بأسلوب عربي في غاية الجمال والروعة. وكتابه النظرات والعبرات يعتبران من أبلغ ما كتب بالعربية في العصر الحديث.
يضم كتاب العبرات بين طياته تسع قصص، ثلاثة من وحي قلمه وهي: “اليتيم”، “الحجاب” و”الهاوية”، وقصة واحدة مقتبسة من الأدب الأمريكي باسم: “صراخ القبور”، وضع لها اسما جديدا بعنوان: “العقاب”، وخمس قصص مترجمة، وهي “الشهداء”، “الذكرى”، “الجزاء”، “الضحية”و”الانتقام”، بالإضافة إلى مذكرات مارغريت.
لم تتح لي الفرصة لقراءة إنتاج المنفلوطي قراءة مستفيضة، إلا بعدما استقر بي المقام في بلاد الأراضي المنخفضة. تناولت كتابه النظرات والعبرات بتمعن وتركيز، أخذ مني وقتا لا يستهان به، فوجدت أن الرجل تعرض لقضايا اجتماعية، كانت تشغل هم المجتمع المصري خاصة والمجتمع العربي عامة، كقضية الحجاب، وقضية محاكاة المتفرنجين وغيرها. وقد عبر المنفلوطي من خلال قصصه ورواياته عن أشواق وأحزان وآلام شباب مصر بكل تناقضاتها وتحدياتها بأسلوب عربي جميل رائع.
إن كتاب النظرات والعبرات من بين قائمة الكتب التي قرأتها مرارا ولم أمل بعد من قراءتها، ذلك أن هذه القائمة من الكتب تشدني إليها بما تحمل من معاني وقيم إنسانية، وكذلك حساسيتي تجاه الإنسانية ومعاناتها كبيرة.
عانيت تجربة مع مؤلف النظرات والعبرات عندما بدأته بالقراءة. كانت قراءته تشق علي بسبب صعوبة الصيغ والعبارات الواردة فيه، ولكن بعد إصراري على قراءته، استطعت أن أضع يدي على مكمن الصعوبة، فتيسر لي وضوح معانيه وصيغه، بل استفدت من أسلوبه العربي المبين الشيق.
إن كتاب النظرات والعبرات، بنظري، كتاب أخلاقي يتناول عبر رواياته وقصصه مشكلة الأخلاق التي سبق لي في هذه التعليقات أن أشرت إليها عندما تحدثت عن أزمة السياسيين واللا أخلاقهم. والروائي المنفلوطي تعرض أيضا لمشكلة السياسة وعالجها معالجة أخلاقية، وذلك عندما أرسل إليه أحد القراء خطابا يسأله عن السياسة وعن سبب عدم تعاطيه للسياسة…؟ فكان جوابه التالي:
“حضرة السيد الفاضل:
مالك لا تكثر من الكتابة في الشؤون السياسية، إكثارك منها في الشؤون الأخلاقية والاجتماعية؟ وكيف يضيق بالسياسة قلمك، وقد وسع ما هو أدق مذهبا منها، فاكتب لنا في السياسة، فأمتك تحب أن تراك سياسيا، والسلام.
(فلان)
أيها الكاتب:
يعلم الله أني أبغض السياسة وأهلها بغضي للكذب والغش، والخيانة والغدر. أنا لا أحب أن أكون سياسيا، لأني لا أحب ان أكون جلادا، لا فرق عندي بين السياسيين والجلادين، إلا أن هؤلاء يقتلون الأفراد، وأولئك يقتلون الأمم والشعوب.
هل السياسي إلا رجل قد عرفت أمته أنه لا يوجد بين أفرادها من هو أقسى منه قلبا، ولا أعظم كيدا، ولا أكثر دهاء ومكرا، فنصبته للقضاء على الأمم الضعيفة، وسلبها ما وهبها الله من الحسنات، وأجزل لها من الخيرات؟
أليس أكبر السياسيين مقاما، وأعظمهم فخرا، وأسيرهم ذكرا، ذلك الذي نقرأ صفحات تاريخه أشلاء القتلى، ونقطها قطرات الدماء؟
أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله، يبطن ما لا يظهر ويظهر ما لا يبطن، ويبسم في موطن البكاء، ويبكي في مواطن الابتسام.
أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا.. إلا إذا عرف أن بين جنبيه قلبا متحجرا لا يقلقه بؤس البائسين ولا تزعجه نكبات المنكوبين؟
كثيرا ما يسرق السارق، فإذا قضى مأربه من عمله.. رفع يديه إلى السماء متضرعا إلى الله تعالى أن يرزقه المال حلالا حتى لا يتناوله حراما، وكثيرا ما يقتل القاتل، فإذا فرغ من أمره، جلس بجانب قتيله يبكي عليه بكاء الثاكل وحيدها، ويتمنى بجدع الأنف لو رد إليه حياته، وافتداه بنفسه. أما السياسي فلا يرى يوما في حياته أسعد من اليوم الذي يعلم فيه أن قد تم له تدبيره في هلاك شعب وقتل أمة، وآية ذلك أنه في يوم انتصاره – كما يسميه هو- أو – في يوم جريمته – كما أسميه أنا وتسميه العدالة الإنسانية – يسمع هتاف الهاتفين باسمه، واسم الجريمة التي ارتكبها، مطمئن القلب، مثلج الصدر، حتى ليخيل إليه أن الفضاء بأرضه وسمائه أضيق من يسع قلبه الطائر المحلق فرحا وسرورا.
يقولون: إن السياسة ليست علما من العلوم التي يتلقاها الإنسان في المدرسة أو يدرسها في كتاب، وإنما هي مجموعة أفكار قانونها التجارب، وقاعدتها العمل.. أتدري لماذا؟
لأن العلماء أشرف من أن يدونوا المكايد والحيل في كتاب.. ولأن المدارس أجل من أن تجعل بجانب دروس الأخلاق والآداب، دروس الأكاذيب والأباطيل، وإلا فكل طائفة من المعلومات المتشابهة تدخل بطبيعتها تحت نظام عام يؤلفها، ويجمع شتاتها، ويسمى علما.
هؤلاء هم السياسيون، وهذه هي أخلاقهم وغرائزهم، فهل تظن يا سيدي أن رجلا نصب نفسه لخدمة الحقيقة، ومناصرتها على الباطل، واستنقاذ الفضيلة من مخالب الرذيلة، ووقف قلمه على تهذيب النفوس وترقية الأخلاق.. وملأ في رسائله فضاء الأرض والسماء بكاء على الضعفاء والمساكين والمظلومين والمضطهدين، يستطيع أن يكون سياسيا، أو محاسبا للسياسيين؟” (مقتبس من كتاب النظرات والعبرات).
تناولت أدب هذا الأديب بالقراءة لقيمة فكره الأخلاقي والإنساني. ومدرس اللغة العربية كان محقا عندما اختار لنا رواياته وقصصه للقراءة والاطلاع على الفكر الإنساني لهذا الكاتب. إن المتأمل في قصص وروايات النظرات والعبرات يجد – دون شك – أنها تدعو القارئ إلى التحلي والاعتبار بقيم إنسانية كونية. وكل مواضيع روايات الكتاب ترسم للقارئ لوحة أخاذة ومليئة بمعاناة إنسانية.
خذ مثلا ملخص قصة الهاوية:
“شاب شريف صادقه كاتبنا ثم تركه في سفر ما
عاد إليه ليراه قد تعود الخمرة ولعب القمار
ثم بدأت معاناة أسرته وتدهورت حالتهم وحالته
عاد لينصحه فلم يسمع له
يوما ما عاد متأخرا لير زوجته قد ماتت ورضيعتها بين يديها
صدم واثناء ذلك يصحو بعض الشيء
لكنه وعن غير قصد داس فوق ابنته فماتت هي الأخرى
ثم هام على وجهه مجنونا”.
(يتبع)