محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (15)

8 أغسطس 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (15)

أما اللغة الفرنسية فكان من بين القصص المقررة: La cosette المقتبسة من قصة البؤساء لفيكتور هيكو، وأسطورة علاء الدين والفانوس السحري Aladin et la lampe merveilleuse المقتبسة من أساطير ألف ليلة وليلة. لم يكن مدرس اللغة الفرنسية في مستوى مدرس العربية ليوصل لنا قيمة قراءة القصص بالفرنسية لتنمية رصيدنا اللغوي والمعرفي. وضاعت منا فرصة الاستفادة من أدب فيكتور هيكو وأساطير ألف ليلة وليلة، إلا أن اسم فكتور هيكو وكتابه البؤساء بقي حاضرا في ذهني إلى أن سنحت لي الفرصة في  المهجر فقرأته أكثر من مرة، ثم لاحقا أعدت قراءته بالهولندية.

وقصة البؤساء هي أكثر من قصة أدبية، كما بدى لي عند قراءتها، إنها قصة الثورة الفرنسية الكبرى، قصة عصر الأنوار والإطاحة بالنظام القديم الفاسد المستبد من أجل إقامة منهج وشرعة جديدة لكرامة الإنسان الأوروبي وحقوقه كمواطن وليس كعبيد يسحق كحشرة.

والأديب فكتور هيكو أعطى وصفا دقيقا للاختناق الاجتماعي الذي عانى المجتمع الفرنسي من ويلاته. وهذا الاختناق يتمثل في ثلاث مشكلات رئيسية: تدهور كرامة الإنسان في الطبقات الدنيا، وسقوط المرأة بفعل الجوع، وهزال الطفولة بفعل الإهمال والجهل.

يعز علي فراق الوالدة بعدما قضيت معها ثلاثة أشهر، وهي فترة العطلة الصيفية. كنت بجانبها تشملني بعطفها وحنانها رغم آلامها وأوجاعها

قصة ألف ليلة وليلة أخذت مني أيضا حقها في القراءة، وهي قصة عربية ذائعة الصيت، ترجمت إلى عدة لغات. يعتمد كتاب ألف ليلة وليلة في سردها للأحداث أساليب مختلفة، وهي تختلف باختلاف قصص الكتاب كما تختلف بحسب مجموعاته المتكونة من تسع حكايات، حسب الطبعة المتوفرة لدي.

وهي قصة تأخذ القارئ إلى عالم غير عالم الواقع، تصف له عالما خياليا، تحدث فيه أشياء لا يقبلها ويستسيغها العقل، كتلك التي وصفت في كتاب الإلياذة والأديسية للشاعر هوميروس اليوناني من حيث هي خرافات وأساطير. ومن حيث هي مغامرات فهي تشبه تلك القصة التي وصف فيها دانيال ديفو مغامرات بطله (ربنسن كروزو) المنقطع في جزيرة منعزلة بعيدة، لا يتصل به أحد من الخلق. ودانيال ديفو نسج هذه القصة عن قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل وقصة (الغريبة الغربية) للسهروردي. وكلها قصص تصور واقعا لا صلة له بدنيا وواقع الناس المعاش ومعناتهم اليومية، على الرغم مما نجد في بعض حكاياتها وقصصها من تصور فني رائع.

انقضت عطلة الصيف للسنة الدراسية الأولى إعدادي، وبدء السنة الدراسية التالية على الأبواب. تولت الوالدة بنفسها تحضير الملابس ووضعها بعناية في الحقيبة وحزم الأغطية لفصل الشتاء البارد. والوالد زودتني بقدر من المال لشراء الأدوات المدرسية من كراسات وكتب، والباقي أستعين به عن نوائب الحياة.

وأما واجب أداء رسوم قسم الداخلي، فقد أعفيت من أدائها، والفضل هنا يرجع إلى الوالد الذي قدم شكوى إلى نيابة وزارة التعليم فيما يتعلق بـ “عدم منحي منحة قسم الداخلي” رغم نتائج امتحان الشهادة الابتدائية المتفوقة التي تعد شرطا أساسيا في الحصول على منحة قسم الداخلي.

يعز علي فراق الوالدة بعدما قضيت معها ثلاثة أشهر، وهي فترة العطلة الصيفية. كنت بجانبها تشملني بعطفها وحنانها رغم آلامها وأوجاعها. وكانت رغبتها أن تراني متفوقا في دراستي وخريجا من أعلى معاهد البلاد، لتذهب تقيم معي بعيدا عن بلدة بني حذيفة، بعيدا عن بيئتها التي كبرت ونشأت فيها!..

وكنت أسألها: لما هذه الرغبة في السفر بعيدا عن بلدة نشأتك؟

فيكون جوابها: اسمع يا بني… الرغبة في السفر إلى مكان بعيد سببه أشد المعاناة التي قاسيتها مع هؤلاء القوم، بني جلدتي. لقد أذاقوني الويلات، لم أنعم بأيامي وحقي في الحياة، لا في شبابي، ولا بعد زواجي!…

ها أنت ترى حالتي!…

لم يبق من جسمي المعذب إلا الهيكل!…

ولتعلم يا بني، أن هذه المعاناة كلها قاسيتها وتحملتها من أجلكم أنتم، فليكن، ولو واحد منكم، راشدا، عاقلا، يهتم بي ويساعدني على علاج هذا المرض الخبيث الذي لطالما نهش عقلي وروحي معا!…

أتذكر هذه الكلمات وقد آلمتني غاية الألم إلى درجة البكاء. كنت أرى سيدة يغيبها مرض لعين يوما بعد يوم. في سبعينات القرن العشرين، اشتد مرضها وزادت حدته، بحيث لم نعد نراها  بيننا، تشاركنا المناسبات من حفلات وأعياد إلا قليلا… ذلك أن المرض ألزمها الفراش والعزلة والاغتراب.

خلال الإجازة الصيفية لعام 2015 م كنت في زيارة للأخ حسن الذي يكبرني سنا بمدينة طنجة، وكنا جالسين على سطح المقهى، نرتشف القهوة، فراح يحدثني عن الوالدة وعن أيامها التي عاشتها باغتراب شديد… استرسل في الحديث عنها وعن حياتها، وأنا أنصت في هدوء تام، ثم سألني: تكلمت كثيرا ولم تقل شيئا!… قلت، بلى، لقد سمعت كل ما ذكرته عن أيامها، عن حياتها، عن مرضها، عن رحيلها…

وبعد أن انتهى الأخ حسن من إفراغ ما بداخله من ذكريات حياتها، أدركت مجددا مدى هشاشة وقيمة وزوالية التاريخ والظروف التي تمضي إلى غير رجعة، ولا تجد من يستعيدها ويدونها، اللهم على شكل ذكريات عرضية وأحاديث متقطعة.

زادت هذه الزيارة والجلسة على سطح المقهى بالمصادفة من اقتناعي من جدوى هذه المخطوطة التي أخطها والتي آمل أن ترى النور إلى النشر، لتتداول بين القراء بالقراءة والنظر فيها.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق