كان علي أن أحضر إلى مقر الإعدادية قبل بدء الدراسة بيوم أو يومين لأداء الوجبات والرسومات المستحقة، وتقديم شهادة طبية عامة وصدرية، وملء استمارة التزام بالسلوك الحسن. وهذه الإجراءات يجب أن تتم في موعدها المحدد، وإلا اتخذت في حقي إجراءات صارمة، وهي الإقصاء من منحة القسم الداخلي.
وعندما انتهيت من هذه الإجراءات وتسلمت الأوراق من الموظف وراء الشباك، إذا بصاحبنا الشاوش يقف فوق الدرج ينتظرني…
ناداني… هيا… احمل أمتعتك واتبعني إلى الطابق الثاني… سريرك في الغرفة الثانية، على الجهة اليمنى للدرتوار (dortoir) رقم 2.
يا إلهي!… إن أول وجه أراه، هو وجه هذا الرجل الغامض والمزدوج الشخصية التي لا تستقر على حال، نظرته لا تسر الناظر!..
وظيفة هذا الشاوش هي مساعدة الحارس العام الداخلي (سي علي) في تنظيم شؤون القسم الداخلي وحفظ أمنه، خاصة في غياب سيده (سي علي).
وأغلبية الطلبة لا يرون فيه إلا ذلك الحقير اللعين، صاحب السلوك المزدوج والخبيث. وكما كان مع الطلبة، كان كذلك مع عمال القسم الداخلي يحسن لبعضهم ويسيء للآخرين بحسب ما تتطلبه مصلحته الشخصية!
وبينما كنت منهمكا في ترتيب سريري وأغراضي إذا بالطالب (رشيد) يبادرني بتحية السلام. رددت التحية، ثم سألته:
أين كنت؟.. لم أرك ببني حذيفة طوال العطلة؟
أجابني بقوله:
كنت في العرائش.. أمضيت العطلة في مدينة العرائش مع أخواي.. كانت أياما جميلة! قلت: إذن، لديك الكثير ما تحكيه عن هذه الأيام الجميلة.
ثم تواعدنا أن نلتقي بإحدى مقاهي القرية لاستكمال الحديث… وعند خروجنا نبهنا العم الشاوش بقوله: إني سأقفل الباب على الساعة العاشرة بالضبط.
ذهبت لزيارة الأخت (ارحيموا) والسلام عليها. استقبلتني بالترحاب، ثم بادرتني بأسئلة:
كيف أحوال العائلة؟…
وما أحوال الوالدة؟…
أخبرني عن أحوالها…
هل خفت آلامها؟…
وهل ستذهب إلى المستشفى، بمدينة مليلية كما أخبرت؟…
وأسئلة أخرى كثيرة كانت تلاحقني بها…
ولطمئنتها، قلت:
هناك تحسن في حالتها وهي تبلغ لك السلام والتحية… وأما سفرها إلى مدينة مليلية قصد العلاج، فلا زال قيد المشاورة والترتيب مع السيد (عمر ملوع)، الطبيب المقيم بمدينة الناظور لتقديم طلبات تأشيرة دخول مليلية من أجل العلاج في إحدى مستشفياتها.
أتصور لو أني عشت في مجتمع من المجتمعات التي تجل المعرفة والبحث مثل المجتمع المصري القديم، لوجدت خلاصا لمشكلتي في إثراء روحي بقراءة الكتب والتزود من المعرفة.
اطمأنت الأخت (ارحيموا) إلى حد ما عندما أخبرتها بهذا الخبر. والواقع لقد تعمدت ألا أخبرها بحقيقة الأمر. كانت حالة الوالدة الصحية في هذه الآونة ليست على ما يرام. وعند مغادرة البيت ودعتها وهي طريحة الفراش معتذرة بقولها:
أنا آسفة عن عدم تشييعك إلى خارج البيت!..
فليحفظك الله ويوفقك!.. بلغ سلامي لأختك.
ذهبت إلى الموعد فوجدت الطالب (رشيد) جالسا في المقهى ينتظرني. اتفقنا أن نتناول الغذاء في إحدى مطاعم القرية الشعبية. جلسنا حول طاولة مصنوعة من الرخام فوق هيكل حديدي، وكان الغذاء تسوده الصداقة الحميمة.
كان صوت خادم المطعم يرتفع بالطلبات واحدة تلو الأخرى. وصحون الطعام تخرج من كوة صغيرة في الحائط متصلة بالمطبخ. والخادم يضع صدارة ثم يرفع أكمام قميصه، فيضع صحون الطعام أمام زبنائه ومعها الملاعق والسكاكين والشوكات وقطع الخبز.
وأعتقد أنها المرة الأولى في حياتي آكل فيها بالشوكة والسكين. فالوضع في البيت كان مختلفا، فالجميع يأكلون من صحن واحد مشترك، والملعقة تستعمل فقط للشوربات والحريرة، والأصابع لباقي الأطعمة.
خرجنا نستكمل حديثنا في مقهى من مقاهي تارجيست، تخلو من صراخ لاعبي الورق والدومينو. أغلبية زبنائها من الطلبة والموظفين، يتخذونها كمقر لتبادل الحديث في مواضيع السياسة والأدب. وأما القاعة العلوية فهي مخصصة لتصفح الجرائد والقراءة، يسودها الصمت والهدوء.
لقد ذهبنا إلى هذه المقهى أنا والطالب (رشيد) لنتابع الحديث عن أيام العطلة وعن السنة الدراسية الجديدة التي تنتظرنا. ولم يكن الحديث إلا ليزيد معرفة بعضنا ببعض. وكانت كل كلمة تساهم في تكوين ذلك الثنائي الذي تشكل خلال سنوات مرحلة الإعدادي والثانوي.
عدنا إلى القسم الداخلي قبل العاشرة كما أخبرنا العم الشاوش. وعند دخولنا قاعة النوم كان أغلبية الطلبة الذين يقاسموننا الغرفة يتهيأون للنوم. وأما نحن، فتابعنا حديثنا عن العطلة إلى غاية الساعة الحادية عشر، موعد إطفاء الأنوار.
نظام القسم الداخلي نظام صارم، يمنع الكلام والإنارة بعد الساعة الحادية عشر. وكانت هذه أول صعوبة تعترض الطالب وتحجم من حريته. ولكي يتمكن الطالب من قراءة كتاب أو تصفح صحيفة، كان عليه أن يحصل على وسيلة للإنارة خاصة به.
هذه السنة الدراسية هي السنة الثانية التي أقضيها في إعدادية الحسن الثاني بقرية تارجيست خلال عقد السبعينيات من قرن العشرين.
وبما أن طلبة القسم الداخلي كانوا يبنون علاقتهم على أساس الانسجام الفكري والخلقي، فقد انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول يضم طلاب السنتين الأولى والثانية، والفريق الثاني يتألف من طلبة السنتين الثالثة والرابعة.
وهذا التقسيم كان باديا للعيان في المطعم عند تناول وجبات الطعام، حيث ترى طلبة الصفين النهائيين يجلسون حول موائد، كأنها أعدت خصيصا لهم، وبقية الموائد لطلبة الصفين الأولين.
يتضمن العرض التعليمي للسنة الثانية حصتين إضافيتين: الفيزياء والكمياء وعلوم الأحياء (البيولوجيا). مدرس الفيزياء والكمياء من بلاد رومانيا (Monsieur Brainzin)، في الستينات من عمره، أنيق اللباس، يضع نظارتين على عينيه، لغته الفرنسية ينطقها بلكنة رومانية، مما كان يعرضه للسخرية والتهكم من قبل بعض الطلبة. ولكن الرجل كان ذا شخصية قوية، يحكم السيطرة على الطلاب ولا يفوته شيء صدر من المشاغبين ليرد لهم الصاع بصاعين.
وأما حصة علوم الأحياء (البيولوجيا) – تسمى بالعلوم الطبيعية – فلا أدري من أين لهم بهذه الترجمة الملفقة!.. فالعلوم الطبيعية تعني شيئا آخر، أو بالأحرى هي العلوم التي تهتم بدراسة النواحي الفيزيائية الطبيعية المادية غير البشرية لكافة الظواهر الموجودة على الأرض والكون المحيط بنا.
يبدو أن صناع سياسة التعليم في وزارة التربية أصيبوا بعقدة التقليد الأعمى لأسيادهم الفرنسيين. وهذا هو الشر الذي ابتلي به صناع القرار من سياسيين ومثقفين في بلد منكوب كبلد المغرب.
مُدرسة علوم الأحياء زوجة ميسيو برانزا (Madame Helene). لا تشبه زوجها في ضبط الفصل، لغتها الفرنسية لم ترق إلى المستوى المطلوب، مما كان يعرضها للسخرية والتهكم من طرف الطلاب المشاغبين إلى درجة البكاء. والواقع أن حصصها لم تعد علينا بفائدة تذكر. كانت حصة علوم الأحياء غالبا ما تنتهي بالتجاذبات والمشاجرات بين الطلاب فيما بينهم من جهة وبين الطلبة ومدام هيلين من جهة أخرى، مما يؤدي بالإدارة للتدخل لتهدئة الوضع.
وأما باقي مواد العرض التعليمي فكانت تسير سيرا حسنا، إلا أنه كان ينقصني ذلك المدرس الذي تتلمذت على يديه اللغة العربية وآدابها في السنة الأولى. شعرت بفراغ روحي خلال هذه السنة الثانية والسنوات المتتالية. وكل القصص والروايات التي حددها لنا وأوصانا بقراءتها، تناولتها بالقراءة في هذه السنة. ولكن هذه القراءة لم تتحول، للأسف، إلى قراءة مستديمة ومستمرة. لم نجد أمثال هذا المدرس النبيل ليستأنف مشوار تنمية الروح بالقراءة والبحث.
بالقراءة فقط يستطيع الإنسان المسلم أن يملأ فراغ روحه ويعيد سيرة أجداده الأولين الذين كانوا معروفين بإنتاجهم الفكري في القرون الأولى للحضارة الاسلامية، وكيف أنهم بثقافتهم الأدبية والعلمية، كانوا مفخرة للثقافة العربية – الاسلامية. لا نهضة للعرب والمسلمين إذا لم يرفعوا الغطاء عن هذه الثقافة الدفينة، والتي نشأت قرب، أو تحت تأثير غير مباشر للمصدر الاسلامي – القرآن، والحديث. بدون معرفة مصادرهم ومصائرهم فلا نهضة ممكنة، كما هو الأمر في الثقافة الأوربية ومسيرة نهضتها.
والتعليم يلعب دورا مهما في إيقاظ روح الإنسان المسلم وتوجيهه توجيها حسنا لتناول هذه الثقافة المدفونة في طيات النسيان بالبحث والدراسة، فتتوضح له المعالم على الطريق لإحداث نهضة تنقذه من الضياع والهلاك.
مع أنني كنت أعلم أن التعليم الذي أتلقاه في مدارس بلد المولد، لا يكفي ليوقظ في نفسي نزعة ومهارات اكتساب المعارف البشرية. وكانت هذه الإشكالية تشكل لي تحد روحي قاس، لم أعرف كيف أواجهها مواجهة مناسبة، لأخلص إلى حل ما.
إن هذه النزعة، نزعة اكتساب المعارف البشرية، كانت حاضرة في نفسي منذ أن كنت طفلا صغيرا، ولكن البيئة والوسط الذي كنت أحيا فيه، لا يهتم بشيء اسمه القراءة والكتابة، وحتى المدارس التي كنا نذهب إليها، لأجل تحصيل العلم والمعرفة، كان الهدف منها هو أن نجتهد لنحصل على منصب رفيع. وأما المعرفة التي تخصب الروح وتفتح الآفاق الجديدة، فليست واردة في قاموس المجتمع المغربي.
كان ينبغي على هذا المجتمع أن يتخذ شعاره: “القراءة رياضة العقل” أو “القراءة تدفع إلى مزيد من القراءة” أو كما ورد في الموسوعة العربية العالمية تحت باب أدب: “فالقراءة بمثابة طائر يطير بنا بعيدا عن دواخلنا ليحملنا إلى عوالم أناس آخرين”.
إن من يقرأ في الآثار المصرية القديمة تصيبه حقا الدهشة، كيف كان هذا المجتمع يتعامل ويجل الكتب وقراءتها. فكان المصري القديم يحرص كل الحرص على تأكيدها في نفوس أطفاله. فنجده يقول لابنه: “إن الكتب هي أعظم شيء في العالم كله”. ومن العبارات التربوية الجميلة المنحوتة على جدار مصري فرعوني:”سأجعلك يا بني تحب الكتاب.. كما تحب أمك.. أو أكثر”.
ولأن الكتاب لا مثيل له، وهو الأساس في إحداث نهضة المجتمع. فلقد اهتم المصريون القدماء بتعليم القراءة والكتابة للطفل كما يعلمونه الأكل والمشي. لا ريب أن حب العلم والقراءة وتعظيم مرتبة العلماء وتشجيع الابتكار من ضمن المفاهيم الحضارية التي استوعبها المصريون القدماء خير استيعاب، حتى إن لفظة مدرسة أو دور تلقي المعرفة كانت تعرف “ببيت الحياة”. فسخروا كل إمكانياتهم ليتسابقوا في ميدان الرقي العلمي والتفوق المهني، فكان تاريخهم يزخر بموجات عارمة من الجد والاجتهاد والتجديد وبيوت الحياة ودور المعرفة. “هنا علاج الروح”، “هنا بيت علاج النفس”، كلمات كانت تكتب على جدران مكتبات المصرية القديمة، مثل: مكتبة معبد رمسيس، ومكتبة معبد أدفو، ومكتبة معبد دندرة.
بالقراءة فقط يستطيع الإنسان المسلم أن يملأ فراغ روحه ويعيد سيرة أجداده الأولين الذين كانوا معروفين بإنتاجهم الفكري في القرون الأولى للحضارة الاسلامية
وأيضا من العبارات والحكم المشهورة عند المصريين قديما:”أما السعادة فلا تكن إلا في توجيه القلب إلى الكتب في النهار والقراءة في الليل”. وقد جاء في إحدى الكراسات:”لا تضيع وقتك في التمني وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك وخذ النصيحة مما هو أعلم منك”. ولعل هذه العبارات الأخيرة من أقدم ما عرف من الحكم في أي لغة من اللغات، كما يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت.
فأتصور لو أني عشت في مجتمع من المجتمعات التي تجل المعرفة والبحث مثل المجتمع المصري القديم، لوجدت خلاصا لمشكلتي في إثراء روحي بقراءة الكتب والتزود من المعرفة. لو كانت الثقافة السائدة في المجتمع، مثل: “هنا دار ترقية الروح” و “هنا بيت تعلم فضيلة التسامح الديني” لأتيحت للأجيال فرصة تنمية الروح وترقية النفس بالقراءة والمعرفة، وبالتالي خلق ثقافة اتخاذ المسؤوليات وإتقان العمل ومكافحة الفساد وركيزة الحوار في حل المشاكل…
وهذه الركائز عندما تتلقفها الأجيال بواسطة القراءة والمعرفة، وتفهما فهما صحيحا لا بد من أن يرى أثرها في سلوكهم وأسلوب حياتهم، فينطلقوا إلى العمل بتفان وإخلاص ومسؤولية وقدرة، والنتيجة تكون رخاء المجتمع وتقدمه أخلاقيا وماديا.
(يتبع)