محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (17)

22 أغسطس 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (17)

مرت ما يقارب الأربعة أشهر من السنة الدراسية، وعطلة رأس السنة الميلادية على الأبواب لشد الرحال متوجها نحو بلدة النشأة، بني حذيفة، لزيارتها وزيارة الأهل والأحبة، وخاصة الوالدة المريضة. وخلال هذه الفترة كانت الأخبار التي تصلني عن حالتها الصحية ليست بجيدة.

نتائج امتحانات الدورة الأولى كانت موفقة. سعدت  بهذه النتائج غاية السعادة، أهديها للوالد والوالدة كهدية ثمينة، ليسعدا وتقيم لي الوالدة كعادتها، عندما أحصل على نتائج مرضية، حفلة عشاء في جو عائلي.

سافرت إلى البلدة أحمل معي آمالا وأخبارا سارة لوالدي اللذين ينتظران مني هذه النتائج. ولكن لم يكن بالحسبان أن خطة آمالي ستذهب سدى. لم أجد السيدة التي تستقبلني وتفتح ذراعيها لتضمني إلى صدرها بحنان ودفئ.

لا تحزن يا محمد!.. فوالدتك سافرت للعلاج…

قال لي الوالد بنبرة تبعث عن الأسى والحزن!..

ذهبت الوالدة إلى مدينة الناظور، تقيم مع السيد (عمر ملوع)، يعمل كطبيب منتدب لدى وحدة من وحدات الجيش الملكي الرابطة قرب مدينة الناظور. أخذ الرجل على عاتقه معالجتها ريثما يدخلها إلى مدينة مليلية لإتمام العلاج هناك في إحدى مستشفياتها.

والحدث الأشد انطباعا في ذاكرتي هو ما جرى عندما ذهبت مع الوالد لزيارتها في بيت هذا الرجل الفاضل، فبدى لي أن مرضها قد استفحل وزاد، لا تقدر على الكلام إلا بصعوبة، زاد ضعف شهيتها للأكل بصورة مخيفة، جسدها النحيف زاد نحافة…

يا إلهي!..

ماذا جرى لها!..

لا أرى إلا الهيكل!..

نظرت إلي بابتسامة على شفتيها، فنطقت بصعوبة بقول حميم واع مؤثر، لن أنساه أبدا ما حييت:

“يا طفلي الصغير المسكين”، وهي عبارة لفظتها باستسلام حزين أم تلقي تحية الوداع على ابنها قبل المغادرة إلى مدينة مليلية، وربما هو الوداع الأخير.

حين كنت يافعا تمنيت دائما أن أكون بجانبها لتشملني بعطفها وحنانها، تحكي لي حكاياتها وتقص علي قصصها الخيالية، تنمي مدارك عقلي، واهتمامها بمستقبل دراستي والمنصب العالي الذي كانت تتمناه لي من كل قلبها.

أن تحملني في ذراعيها عندما ترغب في هدهدتي وملامستي، وأنا الطفل الصغير: كان ذلك هو النعيم الحقيقي. على أنه لم يكن لي أن أسعى إلى مثل هذا الاهتمام سعيا، ولا أن أطالب به مطالبة.

كم سهرت وتعبت من أجلي لتمنح لي الحياة والمستقبل. حرصت ومنذ البداية أن تقف بجانبي لأوفق في مسار دراستي، رغم معاناة المرض. كانت عندما يقترب موعد سفري تنسى آلامها وأوجاعها، فتنهض من سريرها متكئة على عكازها، لتتولى بنفسها ترتيب كل ما أحتاجه وأستعين به في القسم الداخلي، وحتى ماديا تعمل على أن تزودني بقدر من المال، توفره عن طريق بيع الدجاج والبيض.

انتهت عطلة رأس السنة وقفلت عائدا إلى قرية تارجيست لمتابعة الدروس. لم تتول الوالدة هذه المرة إعداد حقيبة ملابسي وتوديعي. رافقني في السفر الطالب (رشيد). كان الوقت متأخرا عند وصولنا إلى مقر القسم الداخلي. لم تكن لدي الرغبة في الحديث عن أيام عطلة رأس السنة مع الزملاء الطلبة.

همتني الحالة الصحية للوالدة وشغلت بالي منذ أن ودعتها في مدينة الناظور. استسلمت للنوم باكرا لنسيان همومي وأحزاني. وأتذكر عندما انتبهت من النوم، تساءلت:

يا إلهي!..

هل من الممكن أن أرى الوالدة مرة أخرى، أم هي النظرة الأخيرة التي ألقيت عليها في مدينة الناظور!..

أنت تعلم بحالها!..

ألطف وارأف بها!..

أثر هذا الحدث في حياتي وواجهته بصعوبة ليست بهينة، وكاد أن يكون سببا في فشلي الدراسي في هذه السنة. عانيت تشتتا ذهنيا وعدم التركيز في متابعة الدروس. أدركت حينها معنى قولة الوالدة: ” يا طفلي الصغير المسكين” التي ودعتني بها قبل سفرها إلى مدينة مليلية. أنا الطفل الصغير المسكين الذي كاد هذه السنة أن يفشل في مسعاه ودروسه، لتضاف إلى سنوات الفشل والتربص؛ مرحلة الابتدائي.

كانت أخبار متضاربة تصلني عن حالتها الصحية وعلاجها في تلك المدينة البعيدة. كان زوج الأخت يحمل إلينا أخبارا مبالغا فيها، مثل، حالتها تحسنت بكثير وستعود إلى البيت عما قريب. شممت رائحة المبالغة في هذه الأخبار منذ البداية، ولم أطمئن إليها أبدا، مما كان يزيد في تشتت وانشغال ذهني بوضعيتها الصحية.

علم الوالد من زوج الأخت بأنني شغلني هم مرض الوالدة عن الدراسة، فقام بزيارتي حالا ليكلمني في هذا الشأن وعلاقته بمستقبل دراستي.

بدأ الوالد حديثه بقوله:

جئت أحمل إليك ما وصتني به والدتك:

اهتم بدراستك، ولا تشغل بالك بحالتي الصحية، فإني أتماثل للشفاء والحمد لله… تحسنت حالتي مما كانت عليه قبل دخولي إلى المستشفى… فالمرجو منك أن تعمل بالك مع دروسك ولا تشغله إلا فيها.

ثم قال الوالد: هذه العبارات أنقلها لك حرفيا نيابة عنها، فعليك أن تصدقها وتحملها على محمل الجد إذا كنت وفيا لروح حنانها وعطفها، ولا أريد أن أزيد لك عن هذه الوصية، فاعمل بها واستأنف متابعة دروسك.

والدتك تكلمت بهذا الكلام، مما يعني أنها تتماثل للشفاء، وستعود إلى البيت عما قريب، ريثما تنهي الفحوصات التي تجرى لها.

والواقع كانت هذه العبارات على لسان الوالد كمثل بلسم، شفاني وخلصني من أحزاني وهمومي. صدقت كلام الوالد لأنني لم أجرب عليه الكذب يوما ما، وخاصة عندما يتعلق الأمر بشأن مسار دراستي الذي كان يحرص عليه أشد الحرص.

بعد هذه التجربة، تجربة معاناة مرض الوالدة، استأنفت متابعة الدروس بالاهتمام والتركيز، وحاولت جهدي أن أتفادى ما ضاع مني، لذلك حرصت على ألا أضيع وقتي في الهزل واللهو. يوم السبت والأحد عندما يسمح لنا بالخروج، كنت أفضل الجلوس لوحدي في إحدى المقاهي لمراجعة ما فاتني من الدروس وتذليل صعوبتها. وعند العودة مساء إلى القسم الداخلي يسألني الطالب (رشيد):

أين كنت؟..

ذهبت إلى الصالون الأدبي ولم أجدك!..

والصالون الأدبي هذا هو مكان في إحدى المقاهي، يجلس فيه الطلبة يوم السبت والأحد، يناقشون مواضيع تهم الشعر وحفظه في إثراء لغتهم العربية.

وكان أحد طلبة صف السنة الرابعة يملك الموهبة والقدرة على نظم وكتابة الشعر، يسترسل في حديثه عن شعراء المعلقات في الجاهلية وحفظ شعرهم. وكنت خلال حديثه يسترعى اهتمامي امرؤ القيس، ويلذ لي استماع الشنفري، ويسترسل لي عنترة في أحلام البطولات. وكان هذا الطالب عندما يقرأ علينا أبياتا شعرية من ديوان الفرزدق أو الأخطل، يحسن تقديمه لنا بحماسة وفنية رائعة، يمارس إغراءه في النفوس. وكل الحاضرون في الصالون الأدبي، يقومون واقفين، يصفقون له بحرارة وإعجاب.

منذ ظهور الإنسان على وجه هذه البسيطة وهو يتخذ معبودا وآلهة لتحميه من الشر والخوف الذي كان ينتابه في الكون الفسيح المحيط به.

وفي مناسبات أخرى كنا نخوض مع هؤلاء الطلبة في شعراء المدرسة الحديثة مع حافظ إبراهيم ومعروف الرصافي. ومن خلال هذه المناقشات الأسبوعية في الصالون الأدبي، تعرفت عن شعراء العربية في المهجر كجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي.

وهذه المناقشات جعلتني أيضا أتعرف إلى لون جديد من الأدب الفرنسي، تولى ترجمته أساتذة الأدب العربي المعاصرين. كان المنفلوطي سيد هذه المدرسة في ذلك الحين. ورواياته التي ترجمها عن الأدب الفرنسي أثارت في نفسي كثيرا من التنهدات.

كنت أواظب على متابعة الدروس بجد ولا أضيع منها شيئا، وحتى حصة الرياضة أتابعها رغم إعفائي منها. وكانت دروسي تسير سيرا حسنا، خاصة المواد العلمية التي بدأت تثير في نفسي آفاقا جديدة حول تاريخ الفكر الفزيائي.

فمن جهة عامة كان مدرس الفيزياء والكمياء، السيد (برانزى) يصب في قالب نفسي محتوى فزيائيا علميا يبدد ذلك الضباب الذي نمت فيه العقلية الميثولوجية التي تتعاطف مع الخرافات النامية في الوسط الذي نشأت فيه. وكان هذا المدرس يحدثنا عن نشأة الكون وفراغه، وعن الأرض ودورانها وتجربة أنطوان لافوازييه عن مكونات الهواء…

كنت أستسلم للتأملات واضعا نفسي أمام بعض التساؤلات. ففي تلك الفترة حسبتني أكتشف أن الأرض لا تدور، عكس ما حدثنا به مدرس الفزياء والكمياء، فصحت: أوريكا!.. أرويكا. أي، وجدتها!.. وجدتها.

وتعليلي للاعتقاد الذي اعتقدت به هو أنه لو كانت الأرض تدور فإن بالونا نطلقه من الأرض إلى الجو لا بد أن يسقط في نقطة تبعد عن نقطة انطلاقه بعدا يتناسب مع سرعة دوران الأرض.

وعندما كنت أحاول شرح هذه النظرية لبعض الزملاء من الطلبة، نظروا إلي بنظرة تبعث عن الدهشة والاستغراب… فربما أخذ عقلي ينقلب رأسا على عقب، فذلك ما كنت أقرؤه في عيونهم.

ربما لم أكن أعبر عما كان يجول في ذهني بذلك الشرح، إنما هذا ما كنت أفكر به. ولم يكن هؤلاء الزملاء يرغبون في المغامرة بذلك التفكير، لذلك آثروا النظر إلي بالدهشة والاستغراب. أما أنا فقد نسيت هذا الموضوع مع مرور الزمن ولم أعد للتفكير فيه أبدا.

تحضرني في هذا المجال قصة الشيخ في حلقة التعليم عندما سأله أحد الطلبة عن دوران الأرض بقوله: لقد قرأت يا شيخنا أن الأرض تدور حول نفسها مرة في اليوم وحول الشمس مرة في السنة، وهي معلقة في الفضاء كالكرة. غضب الشيخ لقول الطالب، فقال:

هراء!..

هراء يا قوم!..

الأرض محمولة على قرن ثور… هذا ما أعرفه!

ونقرأ في تاريخ العلوم أن عقل الإنسان عانى من أجل هذا الموضوع أشد المعاناة لتجليته وتوضيحه. كان بحث موضوع دوران الأرض يغلب عليه طابع الخرافة أكثر من البحث العقلي العلمي التجريبي.

إن الخرافة قد ضربت جذورها في التاريخ، وليس من السهل على الإنسان أن يتخلى عنها دفعة واحدة. فمنذ ظهور الإنسان على وجه هذه البسيطة وهو يتخذ معبودا وآلهة لتحميه من الشر والخوف الذي كان ينتابه في الكون الفسيح المحيط به. السماء والشمس والنجوم والقمر والأرض كانت كلها آلهة يعبدها الإنسان البدائي ويتقرب إليها بقرابين شتى.

جاء في كتاب قصة الحضارة للمؤرخ الأمريكي (ديورانت) أن الإنسان القديم كان يعتقد بأن كل نجم شأنه شأن الشمس والقمر، يحتوي إلها وهو بذاته إلها، ويتحرك بأمر روح كامن في جوفه. واستمر الإنسان يعتقد بهذا الاعتقاد الساذج لعصور طويلة. وفي ظل المسيحية تحول الاعتقاد إلى أن هذه الأرواح المحركة للنجوم ملائكة تهدى سواء السبيل، أو إن شئت فقل أصبحت لأفلاك السماء قادة يسلك بها في مسالكها، وحتى (يوهانس كيبلر)، العالم الرياضي والفلكي الألماني، واضعي قوانين تصف حركة الكواكب حركة إهليليجية، لم يبلغ من النظرة العلمية مبلغا يحمله على إنكار هذا الاعتقاد المسيحي.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق