محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (18)

30 أغسطس 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (18)

أخبرتني الأخت (ارحيمو) بـعودة الوالدة إلى البيت من رحلتها العلاجية، قضتها متنقلة بين مدينة الناظور ومليلية الإسبانية، تحت إشراف السيد (عمر ملوع) وزوجته، الرجل الفاضل الذي بقيت الوالدة طيلة حياتها تثني عليه ثناء حسنا وتذكره بخيرعلى ما قدمه لها من عمل البر والإحسان. وكان هذا الرجل عندما يكون في زيارة بلدة بني حذيفة، لا بد من أن يعرج على البيت ليطمئن على الوالدة وحالتها الصحية. ومن جهة الوالدة كانت لا تدخر وسعا لترد له الجميل بما يجود زرع الأرض عليها.

السيد (عمر ملوع) طبيب عسكري. وفي أوقات إجازته كان يتخذ من منزله مستوصفا لمعالجة المستضعفين وذوي الحاجة بأكلاف زهيدة (بشهادة الوالدة عندما كانت مقيمة معه، فترة العلاج). والتاريخ يغفل في بعض الأحيان ذكر مثل هؤلاء الأشخاص الخيرين الذين يؤدون دورا اجتماعيا ويحسنون إلى الفقراء. هو واحد من هؤلاء المحسنين الذي كان يؤدي مهمة إنسانية مثيرة للإعجاب بين فقراء المنطقة. وهي مهمة خيرية إنسانية مذهلة في عمقها، لم تلق ما تستحقها من التقدير.

ولتغطية مصاريف العلاج، وبحكم تمكنه من اللغة الإسبانية، تعاقد مع جمعيات ومؤسسات إسبانية وأروبية تعمل في المجال الإنساني والخيري لتزويده بالمعدات الطبية والأدوية، يستلمها من الجمعيات العاملة في مدينة مليلية، وبإذن من الإدارة العسكرية الذي يعمل كطبيب في إطارها.

إنه من المؤسف حقا أن جودة الخدمات الصحية التي تقدمها وزارة الصحة لم تتحسن، بل تراجعت… وقد رأيت بعيني الهول

لم يبق إلا أيام معدودات لتحل علينا عطلة فصل الربيع. وكان كل الطلبة على أهبة الاستعداد للسفر إلى بلداتهم لقضاء إجازة الأسبوعين بين ذويهم وعائلاتهم. حزمت حقيبتي أنا أيضا واستقلت الحافلة متجها نحو بلدتي بني حذيفة. كانت الوالدة في استقبالي خلافا للمرة الماضية عندما كانت في رحلة سفر للعلاج.

أمضيت أسبوعين كاملين سعيدا أنعم بقرب الوالدة، تقص علي أحداث رحلة علاجها، متنقلة ما بين الناظور ومليلية، تحت إشراف الطبيب (عمر ملوع). حدثتنا الوالدة عن المعاملة الحسنة التي تلقتها من الممرضات والاعتناء بها في المستشفى الإسباني، لم تجدها في مستشفيات وعيادات الدولة المغربية. كانت تحكي لي عن هذه المعاملات الإنسانية، والجدية في العمل، وإتقان أدائه باحترام المواعيد ونظافة المكان… فتقول بعد أن تصدر منها تنهيدة:

أين نحن من إتقان العمل وأداء المهام أداء حسنا!..

عامِلو مستشفياتنا وعياداتنا لم يرتقوا بعد إلى هذه المعاملة الإنسانية. فعيادات القطاع الخاص التي تؤدي لها آلف الدراهم مقابل خدمات لا ترقى إلى عشر أعشار ما تلقيته في مستشفيات الإسبان، من الاهتمام والمعاملة الحسنة.

عادت الوالدة من رحلتها العلاجية تحمل ارتسامات وملاحظات عن تقديم العلاج في مستشفيات الإسبان ومقارنته بالعلاج المقدم في مستشفيات بلدها المغرب.

وقد عودت نفسي في هذه المذكرات أن أقف بالتعقيب عند كل موضوع أشرت إليه، يهم كرامة وإنسانية الإنسان. وملاحظة الوالدة هي شهادة مواطنة من مواطني بلد المغرب ورعاياه، أدلت بها لتقول لحكام ما بعد الاستقلال أن تنبؤاتكم تنبؤات خاطئة، ووعودكم التي وعدتم بها الشعب وعود مزيفة كاذبة.

مرت ستة عقود على استقلال بلد المغرب، والمشرفون على إدارته لم يفلحوا إلى وقت كتابة هذا المذكرات أن يوفروا منظومة صحية مشرفة لرعياه!.. تقارير منظمة الصحة العالمية تقول إن الوضع الصحي للمواطن المغربي وضع مأساوي، يرثى له من حيث تحسين الولوج إلى العلاجات الأساسية والأدوية، والحرص على تكثيف الاستثمار في الموارد البشرية، والوقاية من المحسوبية والرشوة ومحاربتها، ودعم آليات التمويل.. إلخ.

إنه من المؤسف حقا أن جودة الخدمات الصحية التي تقدمها وزارة الصحة لم تتحسن في خطواتها، بل تراجعت القهقرى. وقد رأيت بعيني الهول في مستشفى محمد الخامس المركزي بمدينة طنجة، عندما ذهبت إلى هناك لتلقي العلاج وتجبير كسور أصابت رجلي اليسرى.

كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل عندما وصلت إلى المستشفى. وبعد أخذ صورة شمسية لعظم الرجل، ذهبت إلى غرفة تثبيت الجبس، وإذا بممرضة تقول: آسفة، الطبيب المختص في العظام ليعطي الأمر لممرض تثبيت الجبس غير موجود، اذهب إلى البيت لترتاح وعد في الصباح الباكر!

في الصباح الباكر عندمت وصلت إلى المستشفى، كانت قاعة الانتظار مكتظة بجيش من المعوزين المرضى، جالسين ينتظرون دورهم في العلاج. جلست وسط هؤلاء البؤساء أنتظر دوري. ولكن أي دور! الإنسان المغربي لا يعرف شيئا اسمه انتظار الدور أو التنظيم!.. أسمع في القاعة شجارا، شتما، كلاما بذيئا، صراخا… وأرى أشخاصا يأتون متأخرين فيسمح لهم بالدخول مباشرة إلى مكتب الدكتور ثم ينصرفون، بينما الجالسون في القاعة، فلينتظروا يوما، أو يومين، أو أكثر… لا يهم!!!

كان نصيبي من الانتظار يوما كاملا لتجبير الكسور بالجبس. حسبت أنني قد انتهيت من هذا الجحيم عندما خرجت من غرفة تثبيت الجبس، فإذا بالممرض يناديني: لا تنسى الشهادة الطبية، وهو يشير إلى غرفة مكتوب على بابها: مكتب منح شهادة طبية. هممت بالدخول فطلب مني السيد الواقف قرب الباب: عليك بالانتظار، فالممرض مشغول مع شخص آخر. جلست على مقعد أنتظر!..

انتطر!..

وطال الانتظار!..

الساعة تشير إلى ما يقارب الخامسة!..

يا إلهي!.. ما بال هؤلاء القوم وماذا أصابهم!..

بينما كنت شاردا بأفكاري، أتأمل فيما رأيت اليوم وسمعت، إذا بالسيد محمد مهدي أخو الزوجة كان برفقتي، ينادي علي:

تعال!..

قد أذن لنا بالدخول!

جلسنا بجانب مكتب كبير، يجلس وراءه سيد ببذلة أنيقة، استقبلنا ببسمة ساخرة، لا تسر الناظر. أمسك بيده قلما وورقة يملأها. فسألني بلهجة خليطة من دارجة مغربية وعبارات فرنسية ركيكة:

كم من يوم تريد أن أملأه لك في الشهادة؟

فكرت هنيهة، فقلت له:

والله لم أفهم جيدا ما تقصده بقولك؟

هل وضحت أكثر ما تقصده؟

بادر أخو الزوجة بقوله:

فلنقل شهرا وعشرة أيام…

أجابه الموظف: لا، أمنح له شهادة، مدتها خمسة وعشرين يوما… ولكن إذا أردت المدة التي اقترحها السيد، فهذا وضع آخر، نستطيع تدبيره. وطبعا يقصد بالتدبير أن نرشيه ليمنح لي شهادة طبية حسب اقتراح أخ الزوجة!!!

فإذا، الواقع المـأساوي لقطاع الصحة الذي سجلت الوالدة حوله ملاحظاتها في السبعينات، زاد تعفنا ومأساة وفسادا. تجربة الوالدة وتجربتي شهادتان أمام التاريخ على فساد النخبة الحاكمة في هذا البلد البائس، بل وحتى النخبة التي تحسب على الثقافة، مشغولة بتأمين مصالحها، بل المجتمع المغربي بكل شرائحه يعيش مرحلة اللاثقافة!..

وحتى لا يبقى كلامي مبهما وغير واضح، أحاول أن أشرح ما أقصده هنا بشيء من التوسع.

لا شك أن لفظة الثقافة يساء فهمها أيما إساءة في بلد كبلد المغرب. فهي مشكلة واقع الإنسان المغربي، سلوكه وأسلوبه للحياة. فالمثقف ليس هو الذي يتفوه بكلمة فرنسية أو كلمتين أو حتى جملة أو جملتين كما أسمعها لي ممرض مكتب منح شهادة طبية بمستشفى محمد الخامس، فهذا يسمى متعلما وليس مثقفا.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق