محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (19)

7 سبتمبر 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (19)

ثمة فرق جوهري بين المتعلم والمثقف…

العلم هو حصيلة تجارب متراكمة، أكسبت الإنسان المعرفة والقدرة على تسخير هذا الكون ليجعله في متناوله وخدمته. بكلمة أخرى، العلم يعطي امتلاك القيم التقنية التي تولد الأشياء.

وأما الثقافة فتعطي وتولد العلم دائما، والعلم لا يولد الثقافة دوما، ولا يمكن استبدال أحد هذين المفهومين بالآخر، كأن نقول: “المثقف هو المتعلم، أو المتعلم هو المثقف”. إن هذا التمييز أساسي لدى وضع برامج تهدف إلى الارتفاع بثقافة بلد ما، إلى أعلى مستوى من مستويات النهضة والتقدم، وكما هو أيضا أساسي في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية.

فاستقلال بلد المغرب لم ينتزع بالمعرفة التي كانت النخبة تتمتع بها، بل بالإدراك والوعي الذي وجد على المستوى الشعبي في وجه الاستعمار. فالمجاهد عبد الكريم الخطابي مثلا، لم يواجه الاستعمار الإسباني بالعلم، وإنما واجهه بثقافة تخليص العباد والبلاد من قبضة المستعمر الظالم. وروح هذه الثقافة جسدها ذلك الفلاح البسيط والراعي والزارع، عندما تسلم بندقيته وانضم إلى صفوف المجاهدين لقتال المستعمر.

ظل المجاهد الخطابي وفيا لروح الشهداء الذين قضىوا نحبهم في المعارك، وعارض وثيقة الاستقلال التي وقعتها النخبة السياسية المفاوضة مع الاستعمار، معارضة شديدة، لأن ضميره يأبى الاستهتار بدماء الشهداء.

فهذا الوفاء لتضحية الشهداء هي قيمة من القيم الإنسانية، لم يكن المجاهد الخطابي يملكها لولا الثقافة التي خلقت لديه جهاز المراقبة، يراقب به ذاته كي لا يتاجر بدماء الشهداء، كما فعل الآخرون عندما وقعوا على وثيقة رخيصة، منحت امتيازات اقتصادية وثقافية للمستعمر الفرنسي دون قيد ولا شرط، لم يكن يحلم بها. امتيازات شوهت ومسخت هوية الإنسان المغربي وشخصيته، وفسدت روحه، وبالتالي أغرقت المجتمع كله في فوضى عارمة، لا يعرف كيف يخرج منها سالما.

وما رأيته في مستشفى محمد الخامس بمدينة طنجة هي نتيجة هذه الفوضى، والسيد الممرض مانح الشهادة الطبية بلسان مشوه وأخلاق فاسدة، هو عينة من عينات هذا المجتمع الذي تسوده اللاثقافة.

مشكلة الإنسان العربي والمسلم عامة، هي مشكلة نضج ووعي تاريخي.

فالثقافة بمفهومها التاريخي – على حد قول مالك بن نبي – هي التي تخلق الإنسان الذي يراقب، ويراقب ذاته باديء الأمر. وهذه التجربة عاناها أبو حامد الغزالي وباسكال الفرنسي عندما كانا يبحثان عن تناسق بين عالم الظواهر وعالم الداخل، بين مراقبة الذات والأوضاع الاجتماعية. بكلمة أخرى، النظرة التي تسمح للإنسان أن يسيطر على ذاته، وأن يسيطر على الأشياء التي ابتدعتها عبقريته.

فالموظف عندما يذهب إلى عمله، يذهب بروح أن يؤديه بتفان وأخلاق وبلسان سليم يفهمه المواطن، وفي هذه الحالة نستطيع أن نقول: إن هذا الموظف له ضمير حي، غير طماع، يمقت المحسوبية… بكلمة مختصرة، له أخلاقيات المهنة وأنه مثقف.

وكذلك السياسي الذي ينتخبه الشعب، ليتولى تدبير شؤونه والدفاع عنها بشفافية وإنصاف لا بد له من ثقافة أخلاقية راقية، تعصمه من زلات وانحرافات في السلوك والعمل. وهكذا هو الأمر، في كل أوقات الشدة والصعبة في التاريخ، تكون الثقافة ببعدها الاجتماعي والنفسي طوق النجاة للمجتمع، حين يشرف على الغرق.

إن الأحداث الأخيرة التي عصفت بالعالم العربي (الربيع العربي كما يسمى في الإعلام) أزاحت مستبدين من الوجود، واقتلعت جذور كراسيهم. ولكن يبدو أن مجتمعات عالم العرب لم تنضج بعد، لتحمل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية. في مصر حدث انقلاب عسكري طاغ لم يرحم الإنسان المصري. في تونس اختير إنسان غير جدير بإدارة البلاد. وأما اليمن فأغرقت في الحرب الأهلية، تذكي شعلتها المذهبية السنية والشيعية المقيتة. وقس على ذلك حالة ليبيا.

وينبغي ألا نكون بسطاء وسطحيين في تحليلنا لهذه الأحداث، لأن مشكلة الإنسان العربي والمسلم عامة، هي مشكلة نضج ووعي تاريخي. ليس من السهل عليه أن يحدث تغييرا في المجتمع بثورة أو انتفاضة، بل الأمر يحتاج منه أن يحدث انقلابا في عقله وتصوره، لكي تتبدل نظرته للأمور. وهذا التغيير هو أصعب من إحداث مائة ثورة، لأن رتابة روحه وجمود عقله ضاربة في جذور الزمان، منذ أن حاول الغزالي إصلاح المجتمع، فباءت محاولته بالفشل كما تشير الأبيات الشعرية المشهورة التي أنشدها على إثر خيبة أمله في الاصلاح:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل

وعدت إلى تصحيح أول منزل

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه

منازل من تهوى رويدك فانزل

غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد

لغزلي نساجا فكسرت مغزلي

يقول القائمون على إدارة شؤون وسياسة بلد المغرب، عبر أبواقهم الإعلامية: إن البلد يتمتع بوضع مستقر مقارنة بالبلدان المجاورة وبلدان الشرق الأوسط. ونحن لا نختلف معهم ويجب أن نحافظ على هذا الوضع ونقدر هذه النعمة… ولكن يا سادتنا القائمين على إدارة هذا البلد، هل تكفي هذه التصريحات لتوهموا البسطاء من الشعب بأن البلد مستقر وبخير؟! بينما البلد مشلول اقتصادية واجتماعيا وثقافيا.

خذ مثلا ملف التعليم والصحة المنخورين بالفساد، لا تعالج فقط باستقرار البلد، بل تحتاج إلى نخبة متشبعة بالوعي التاريخي، ومتسلحة بمعرفة واقع الانسان المغربي اجتماعيا ونفسيا. نخبة يجب أن تكون خطة إصلاحها على هدي هذه الشرعة السماوية: “غير نفسك تغير التاريخ”. ولا بد لهذه النخبة أن تبدأ من نفسها. وإذا أتم لها هذا المبدأ، كانت لها الإرادة والقدرة على التفاعل مع الشعب، وذلك عندما تضع يدها على الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها هذا الشعب، من تخلف وسلبية ولافعالية، وبالتالي تضع خطة منهجية للحلول، مدعمة بالسياسة وأصحاب اتخاذ وتنفيذ القرارات. بكلمة أخرى، هناك علاقة تبادلية بين المثقف والسياسي. الساسي يراقب سلوكه بفضل جهاز المراقبة الذي اكتسبه من الثقافة.

إن مشكلة تخلف الشعب، لا تعالج بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تحترم كرامته، وحينئذ يرتفع عنه طابع القابلية للاستعمار – بتعبير المفكر الاجتماعي مالك بن نبي – مع أننا نعلم علم القين أن أصحاب المصالح واللوبي الفرنكفوني سيعمل على تخريب كل خطة تهدف إلى إصلاح المنظومة التربوية.

إن الأزمة السياسية الراهنة في بلد المغرب تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية، والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في آن واحد، وفي هذا – كما سبقت الإشارة – دلالة على ما بين تغيير النفس وتغيير الوسط الاجتماعي من علاقات وطيدة ومتينة، أو كما قال الكاتب الاجتماعي السياسي (بورك): “إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها”.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق