محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (20)

12 سبتمبر 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (20)

تشرف السنة الدراسية الثانية إعدادي على الانتهاء، وامتحانات الدورة الأخيرة للسنة تنتظرنا، وهي امتحانات حاسمة. وبحلول هذه الامتحانات ترى معظم الطلبة وعلى وجوههم القلق والتوتر النفسي وآثار الغضب والإرهاق، نتيجة المجهود الذي يقومون به.

والامتحانات في الواقع هي وسيلة لمعرفة قدرة الطلبة والوقوف على مدى شخصياتهم واختلاف مستواهم العلمي والذهني. فمنهم من يخصص قليلا من الوقت للتحضير والاستعداد للامتحانات، لأن قدرة الاستعاب لديهم كبيرة ولهم مهارة التحليل والوقوف على جوهر الموضوع، وهذه الفئة أقلية. وأما الأغلبية فتجدها تنفق كثيرا من الوقت للتحضير وتذليل الصعوبات التي تواجههم.

النحو والإعراب والصرف يرهقونني أشد الإرهاق في تحضيرها. والواقع أن معظم المدرسين كانوا يثقلون كاهلنا بهذه الحصص الجافة، ويكثرون منها وخاصة منهم الذين يأخذون بالمناهج التربوية المقررة حرفيا. كنت ومنذ مرحلة التعليم الأساسي أحب التعبير الكتابي الحر، حيث أجد فيه ذاتي للتعبير عما يجول بخاطري وعلاقته بالطبيعة وكل ما يدب فيها من مخلوقات.

بحثت عن مهارة وفن الكتابة في ثنايا نفسي لأعوام طويلة ولم أجدها، حتى أتيحت لي فرصتها في بلاد الأراضي المنخفضة. وقد كتبت في مواضيع شتى، الأدبية منها والعلمية، ولكن لم أحاول نشرها باستثناء القليل منها. وأتمنى بإذن الرب أن تجد هذه المذكرات طريقها إلى النور عندما تنضج.

مرت امتحانات الدورة الأخيرة لهذه السنة بسلام، وحصلت على نتائج متفوقة، وخاصة المواد العلمية كانت نتائجها جد مشرفة، تصدر قائمة نتائج الدورة. السيد (برانزا) مدرس مادة العلوم الفزياء والكيمياء مدرس موهوب، يعمل بجد وإخلاص ويحب مهنته بالمقارنة مع زملائه المدرسين. كان يحرص على الحضور إلى قاعة المختبر بساعة ونصف، قبل الشروع في الدرس، لتهيئة وتحضير مستلزماته ومواده.

وعندما تعود بي الذاكرة إلى هذه الفترة بالذات، أجد أن طريقة إعطائه الدرس هي أفضل طريقة من حيث المنهج والديداكتيك. والشيء الذي كان يثيرني في هذا الرجل ويشدني إليه، هو تلك الحكايات القصيرة من تاريخ تطورعلوم الكيمياء التي كان يفتتح بها درسه. وحكاياته هاته كانت تذكرني بتلك التي كانت الوالدة تقصها علي في ليالي فصل الشتاء الباردة.

هذا التجمع الأسبوعي في حضرة الولي (سيدي مالك) في اعتقاد الزوار هو عبادة والتقرب إلى الله، وباعتقاد الآخرين هو شرك بالله.

كان الإنسان القديم يزعم أنه يستطيع تحويل الحديد ذهبا والنحاس فضة، ويغش بذلك الناس ويأكل أموالهم بالباطل والجبت. والآخرون يستعملون الكيمياء لتعليل الظواهر الطبيعية غير المعروفة لديهم، بلجوئهم إلى الرؤية الغبية والسحر.

وهكذا فإن الكيمياء، يحكي لنا السيد (برانزا) بأسلوبه الساخر، خرجت من سحر الساحر، فتحولت عصى موسى إلى حية. والحية – كما تعلمون – تقتل إذا لدغتك، فكذلك تفعل الكيمياء، تؤذيك إذا لم تكن لك دراية التعامل معها. خذوا حذركم إذن في المختبر عند إجراء العمليات الكيمائية.

انتهت فترة الامتحانات وسلمت لنا كراسة نتائجها، لأحملها إلى والدي اللذين ينتظرانها. وبعد ملء استمارة مغادرة القسم الداخلي وتوقيعها وتوديع أصدقائي الطلبة، مررت على الأخت ارحيمو لتوديعها والسلام عليها ثم استقلت الحافلة متجها نحو بلدة النشأة والطفولة.

استقبلتني الوالدة كعادتها، ضمتني إلى صدرها، ثم طلبت من أفراد العائلة بذبح ديك سمين وتحضيره للعشاء. اطلعت الوالدة على نتائج الامتحانات التي حصلت عليها، فسعدت غاية السعادة. أتذكرالعبارات المؤثرة التي عبرت لي بها عن سرورها: كم أنا سعيدة وفخورة بك يا محمد، وسعادتي تكون أكبر وأعظم عندما أراك متخرجا ومتفوقا في حياتك المستقبلية…

كانت الوالدة حنونا جدا، تولي صحتي كل الاهتمام دون أن تشعرني بذلك، فطلبت مني ولم تقل إنه من أجلي أن أرافقها إلى محطة استجمام تقع قرب وثن يسمى (سيدي مالك). وكان الناس يقصدون هذه المحطة من كل المناطق المجاورة والبعيدة، لما يقال عن مياهها المتنوعة من صلاحية طبية. ولسبب آخر هو تواضع التكاليف، بحيث تستطيع العائلة استئجارغرفة بثمن مناسب، تقيم فيها مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع للاستجمام والاعتكاف تحت قبة الولي الصالح (سيدي مالك) بزعم هؤلاء الزوار. وكما تعقد تظاهرة أسبوعية بجوار هذا الولي، يحضرها جمهور غفير من الناس من كل المناطق لتقديم النذور والقرابين والتوسل إليه لينالوا من بركاته.

إن هذا التجمع الأسبوعي في حضرة الولي (سيدي مالك) في اعتقاد الزوار هو عبادة والتقرب إلى الله، وباعتقاد الآخرين هو شرك بالله. وهذه النقطة أثارت ولا زالت تثير نقاشات وجدالات رهيبة وعقيمة في مجتمعات عالم العرب، استنزفت وأهدرت كثيرا من الطاقات دون جدوى.

فالسواد الأعظم من الناس يميلون إلى الاعتقاد بكرامات الأولياء، وبركات الشيوخ ومعجزاتهم. وهذا الميل تطبع عليه الإنسان منذ بداية حضوره على هذه الأرض. فكان لا بد له من ولي أو إله يتخذه كمعبود، ويلجأ إليه عندما ينتابه الشعور بالخوف والقلق.

لماذا يصر الإنسان على زيارة الأولياء كواسطة تقربه إلى الله مع أنه يصلي، يصوم، ويحج ويذكر الله، وهي عبادات تربط روحه بالله دون واسطة؟

وللإجابة على هذا السؤال – باعتقادي – ينبغي أن تجرى دراسة تاريخية – أنتربولوجية لهذه الطوطمية. والطوطمية عبر التاريخ أخذت أشكالا مختلفة، تجسدت تارة في صورة حيوان تعبده القبيلة، وتارة أخرى في صورة صنم على هيئة إنسان كما كان الحال عند عرب قريش قبل الإسلام، يعبدونه ليتقربوا إلى الله زلفى، وعند الإنسان الحاضر في صورة ولي، يزوره ليقربه إلى الله.

فلا يمكن أن نواجه عبادة الأصنام والأوثان بالتكفير وإثارة النزاعات وقتل الناس، كما فعل (الوهابيون) في القرن الثامن عشر: تكفير كل من يزور الألياء والقبور. وما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من قتل جماعي ما هو ببعيد عنا وهو امتداد لتلك الأفكار الوهابية.

تقع محطة الاستجمام على مقربة من قرية (حد الرواضي). القرية التي تربطني بها ذكريات جميلة لا تنسى أبدا، فيها نلت شهادة التعليم الابتدائي، ولي فيها أصدقاء اشتقت إلى زيارتهم وتفقد أحوالهم. ولذلك وافقت الوالدة دون تردد، عندما طلبت مني أن أرافقها إلى هذه المحطة.

كان الوالد ما يزال يعمل في قرية (حد الرواضي)، فتولى إيجار غرفتين، مدة أسبوعين، غرفة تبيت فيها الوالدة مع ابنة أخيها، طلبتها الوالدة لتقوم على خدمتها بحكم مرضها، والغرفة الأخرى خصصت لي وحدي.

ذهبنا إلى (سيدي مالك)، ومعنا كل ما نحتاجه سوى الماء، لأن المقيمين يأخذون كل صباح مقدارهم الكافي من ماء العين المتدفقة من الجبل، وقد اتفق لي أن أشاهد معجزة لهذا الماء مشاهدة العيان، إذ كانت الوالدة تضع منه كل صباح ما يفي بحاجتنا في إناء كبير من حديد مطلي بمادة ملساء على وجهه وداخله، فتكونت في داخله طبقة كلسية لا تزول بالتنظيف العادي، ولا حتى بآلة مثل السكين.

وإذا بالوالدة تفاجئ كل صباح، بأن هذا النوع من الماء يتعكر حالما تضعه في ذلك الإناء، فتلقي به، وتنظف الإناء لتضع فيه ماء جديدا فيتعكر بدوره. ودامت هذه الظاهرة تشغل بالها عدة أيام بعد وصولنا، حتى وضعت ذات صباح الماء كالعادة، وإذا بطبقة الكلس تنزل كلها مرة واحدة في قعر الإناء… فتحدثنا كثيرا بعد ذلك عن صلاحية ماء هذه العين لتحليل الحصى. كنت أحاول وأميل إلى تفسير الظاهرة تفسيرا علميا وكميائيا، بينما الوالدة فسرتها تفسيرا إعجازيا وغيبيا.

قضيت أجمل أيام هذه الإقامة في وسط أحضان الطبيعة لهذه المنطقة، وأمام مناظرها الخلابة. فالمنطقة تقع بين جبال مكسوة بأشجار ونباتات من كل نوع ولون. وعندما أكون في فسحة، مشيا على الأقدام عبر هذه الجبال، أستنشق روائح النبات العطرية والهواء المشحون برائحة اليود، ينتهي بي المنظر إلى البحر، أرى زرقة مائه من بعيد وأسمع هدير أمواجه. إنه المنظر الساحر للطبيعة الذي يأسر لب الروح ويستولي عليها.

كنت أتنزه تارة في الجبل، وتارة في مكان يطل على شاطئ البحر، وأراجع المواد التقنية والعلمية التي أوصانا بها مسيو (برانزا)، والتي سيكون حاصلها حاسما للسنوات القادمة في تحديد نسبة النجاح. وقد أشار علينا في هذا الصدد بقراءة كتاب في الكيمياء بعنوان: “لافوازييه، أبو الكمياء الحديثة”، وهو مؤلف كتب خصيصا لمستويات التعليم الثانوي، يعرف فيه مؤلفه بنشأة الكيمياء ومراحل تطورها والدور الذي لعبه (لافوازييه) في تصحيح كثير من المفاهيم والتصورات الخاطئة، وإدخال تحسينات على إجراء العمليات الكيميائية.

قرأت المؤلف من ألفه إلى ياءه، فاستفدت منه كثيرا كأساس مهم لمقرر السنوات القادمة. قمت بإنجاز كل المعادلات الكيميائية وعمليات حسابها التي أوردها الكاتب. ومنذ ذلك الحين صرت أرى في (لافوازييه) ذلك الكيميائي العظيم الذي أعطى مادة الكمياء وجهتها الجديدة والحديثة.

ولاحقا عندما أتيحت لي فرصة بحث تاريخ علوم الكيمياء، توصلت إلى أن هذه الوجهة الحديثة للكيمياء التي يعتبرها بعض الباحثين من بنات أفكار (لا فوازييه)، لم تأت من الفراغ، وإنما هي نتيجة لأفكار وبحوث وجهود امتدت عبر قرون طوال.

يرجع باحثو ومؤرخو العلوم ظهور الكيمياء إلى زمن ظهور الطب. فأول من فكر بعلم الكمياء هم قدماء المصريين مثل (إيزيس) و (أوزيريس). هاتان الشخصيتان الأسطوريتان اللتان يرجع لهما فضل فن المعالجة حوالي عام 3800 قبل الميلاد. ثم يأتي اليونان، فأورثوا الكيمياء عن قدماء المصريين، حيث نال علماؤهم شهرة في بحث وتدوال علم الكيمياء حوالي عام 3000 قبل الميلاد. لذا نرى أن الحضارات، كل واحدة تأخذ عن الأخرى، وتضيف عليها الإضافات النافعة.

فعلم الكيمياء مر بحقبة من الزمن سادتها الخرافات والشعوذة، لم يتمكن علماء قدماء المصريين ولا اليونان من إنقاذ الكيمياء من فوضى السحر والخرافة، حتى جاء علماء المسلمين فحرروها من ذلك الضجيج الفاسد.

فعلماء المسلمين ساهموا مساهمة جبارة في إرساء قواعد البحث الكيميائي بأسلوب علمي رزين ودقيق، حيث استندوا على التجربة العلمية، وإشراك الحس والعقل في آن واحد في الوصول إلى الحقائق العلمية. بينما علماء اليونان من قبل اعتمدوا على العقل والاستدلال المنطقي، وأهملوا الطريقة العلمية التجريبية التي تعتبر في العصر الحديث محور الارتكاز.

والمرء يستغرب حقا عندما يقرأ ما يكتبه الباحثون الغربيون بأن الطريقة التجريبية من ابتكارهم، ولا علاقة لها بالحضارة الاسلامية. ولهذا أعلن (جوزيف برواست) الفرنسي الذي أكمل بحوث (لافوازييه) بعد إعدامه، أن قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيميائي من ابتكاره هو وليس من ابتكار الكيميائي المسلم (الجلدكي). ومن ثم بدأ علماء الغرب يبلورون هذا الادعاء، حتى أصبح طلاب العلم في جميع أنحاء العالم يعتقدون ذلك. وعندما فند المخلصون للعلوم هذا الادعاء الباطل وردوا الابتكار إلى صاحبه (الجلدكي)، كان الرد من علماء الغرب المغرضين أن إنتاج (الجلدكي) في الكيمياء مغمور في مخطوطات متلاشية في المكتبات العامة.

فمخطوطات (الجلدكي) – بتعبير هؤلاء الباحثين – موجودة في المكتبات العامة، وهذا يعني أنها في متناول الباحثين للاطلاع عليها والاستفادة منها. و(جوزيف برواست) هو واحد من هؤلاء الباحثين، بل وحتى أستاذه (أنطوان لافوازييه) قد اطلعا على البحوث الرائدة (للجلدكي)، وخاصة كتابه (المصباح في علم المفتاح) المترجم إلى عدة لغات الغرب.

لا أدري مدى معرفة السيد (برانزا) واطلاعه على هذه الأحداث التاريخية للعلوم، وهو المدرس الذي تتلمذت على يديه المبادئ الأولى لعلم الكيمياء بمنهجية جذابة ومحببة للمادة. وقد عرفنا الرجل بأهم علماء الكيمياء الغربيين واليونانيين، ولكن دون أن يشير ولو مرة إلى اسم عربي – مسلم ساهم في تطوير علم الكيمياء.

عندما كنت أتابع الدراسة بجامعة أمستردام، شعبة الرياضيات، حدثني أحد المدرسين، كنا في جلسة خاصة في مكتبه، عن عظمة مكتشف علم اللوغاريتمات (جوهان نابيير الأسكتلندي)، فقلت له هكذا عبثا إن كلامك غير صحيح تاريخيا.. الصحيح أن تقول: إن (نابيير) ساهم في تطوير هذا الفرع من فروع علوم الرياضيات، لأن هناك علماء أفذاذ قبل (نابيير) كرسوا حياتهم لتطوير هذا العلم، مثل (ابن يونس الصدفي المصري) ولاحقا (ابن حمزة المغربي). لم يسمع الأستاذ الموقر عن هذين الاسمين قط… زاعما أن مكتشف اللوغاريتمات دون منازع (نابيير) وزميله (برجز).

إن الباحثين المنصفين لا تسمح لهم ضمائرهم بإنكار الجميل لرواد الحضارة الإسلامية الذين ساهموا في تطوير العلوم الرياضيات عبر التاريخ، ومن هؤلاء: الخوارزمي، والكندي، وثابت بن القرة، والبتاني، وأبو الوفاء البوزجاني، وابن الهيثم، والبيروني، وعمر الخيام، ونصير الدين الطوسي، وابن البناء، وغيرهم.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق