محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (21)

10 سبتمبر 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (21)

قبل إنهاء الأيام التي قضيتها في هذه المنطقة الرائعة (منطقة سيدي مالك) بطبيعتها الخضراء والمطلة على البحر، ذهبت إلى قرية (حد الرواضي) لزيارة الأصدقاء، وعلى رأسهم (سي بو علال)، صاحب المقهى المطلة على سوق القرية. استقبلني الرجل أيما استقبال ورحب بي بحضور ابنه الذي قدم لي المساعدة في مواجهة صعوبات مواد إجراء امتحان نيل الشهادة الابتدائية. جلسنا على سطح المقهى نشرب الشاي بعشبة النعناع، نستذكر الأيام الخوالي للفترة التي أمضيتها في قرية (حد الرواضي) المباركة، والجلسات التي كانت تعقدها النخبة المتعلمة للقرية في مقهاه، تطرح فيها مواضيع الفكر التقدمي والاشتراكي السياسي.

(سي بو علال) هذا كان رجلا يقدر الصغير والكبير من أهل القرية، يكن لهم الاحترام والتقدير، وخاصة المتعلمين منهم، ولذلك كان يرعى بنفسه الجلسات الفكرية التي كانت تعقد في مقهاه، بل كان يدلو بدلوه فيها بالنقاش والجدال، تارة يتفق مع السادة المشاركين في الجلسة المتشبعين بالفكر التقدمي الاشتراكي، عندما يتعلق الأمر بالظلم والعدالة الاجتماعية، وتارة أخرى لا يتفق معهم إذا تعلق الأمر بقضايا الإيمان والدين، بحكم ثقافته الدينية.

 قليلون هم أولئك الذين يحسنون إلى الخلق.. قليلون هم أولئك الذين يحترمون الحياة عن قصد وحكمة. والحكمة – في اعتقادي- لا يفوز بها دائما العلماء والذين يبتلعون الكتب، دون فاصل للتفكير الضروري لكي يهضم المقروء ويبني ويتبنى ويفهم. ففضيلة الإحسان والتسامح واحترام الحياة لا تكتسب دائما بكثرة القراءة والاطلاع الواسع، بل هي من نفحات الروح.

لا أعرف إذا كان الحديث عن الرجل البسيط، الغبي ممكنا. واقعة الغباء نجدها غالبا لدى ما يسمى بالبلاهة الثقافية. وهذا هو أكثر منظورات الغباء ملاءمة وبروزا. التعلم الكاذب يكشف أكثر ما يخبئ الغباء، وهنا يبدو الغباء بشكل ظاهر. ولم أر هذا النوع من الغباء لدى الرجل البسيط. ذلك أن هذا الرجل الذي ينعت بالبساطة والغباء، روحه يقظة ويعرف ما هو إنساني أكثر من أعمق المحاورات الفلسفية حول هذا الموضوع.

كل هذه الصفات والأخلاق الإنسانية تراءت لي في هذا الرجل، صاحب المقهى (سي بو علال) – كما يناديه أهل القرية – وهو الذي لم يطلع على فلسفات الفلاسفة وفكر المفكرين. معرفته لم تتجاوز حد الكتاتيب القرآنية ومرحلة التعليم الابتدائي.

 فحكمة التصرف مع الناس والإحسان إليهم، وحب الخير لهم ومشاركة همومهم، والصبر على أذاهم والتسامح معهم لا تكتسب دائما بكثرة القراءة والحصول على الدرجة العالية في سلم التعليم. ولنا في التاريخ عبرة عندما نتصفح صفحاته عن أولئك الأبرار الأوائل الذين شقوا الطريق الوعر مع الأنبياء والرسل لتبليغ هذه القيم والمبادئ إلى الناس وتثبيتها في نفوسهم لتكون دستورا أخلاقيا لمحياهم وفي إعمار هذا الكوكب الأرضي خير إعمار.

قليلون هم أولئك الذين يحسنون إلى الخلق.. قليلون هم أولئك الذين يحترمون الحياة عن قصد وحكمة

هذه القيم النبيلة الإنسانية التي تحسن إلى الإنسان وترفع من شأنه وتحترم فيه تشريفه وكرامته، منبعها ومحلها الروح وليس العقل المادي كما تعتقد الفلسفة المادية.

القيم الخيرة للإنسان تصدر دون شك عن الروح وهو مجال يصعب على العلم أن يكشف عن كنهه وجوهره مهما حاول.

بواسطة الدين فقط يستطيع الإنسان فهم كنه هذا المجال الغيبي وهو الروح، أو فلنقل يقترب من فهم طبيعته، لأن الروح هي خارج مجال البحث المادي الميكانيكي الذي يوصف بالمعادلات والأرقام.

الفن والآداب يستطيعان أن يعبرا عن هذا المجال أفضل بكثير من العلم، شرط أن يكونا صادقين في تعبيرهما، بمعنى أن يكون الفن والآداب صادقين في معالجة القيم التي تخدم وتعود بالخير على الإنسان، وليس الفن الذي يثير الغرائز والشهوات في الإنسان.

في تراجيديا الملك لير، يبين شكسبير، كيف أن لير حتى وهو في حالة جنون يفهم الحياة، وجلوستر حتى وهو أعمى يرى الحياة، والعقل والعيون غالبا لا ترى. الروح هي تلك التي تفهم وترى.

دامت الفترة بجوار الولي (سيدي مالك) خمسة عشر يوما، قضيتها بين أحضان الطبيعة الخلابة والمحيطة بهذا الولي. كانت فترة سعيدة حقا، لا تخلو من الفائدة الروحية والعقلية. أنعمت بالهدوء والسكينة والصفاء الروحي، قل ما يحصل في الحياة، وأما الفائدة العقلية، فهي ذلك المرجع في علوم الكيمياء الذي تناولته بالقراءة الذي عرفني بالمبادئ والأصول الأولية للكيمياء الحديثة. ولولا الصفاء الروحي والتركيز الذهني لما حصلت هذه الفائدة.

وعندما تعود بي الذاكرة إلى هذه الفترة، والتي لا تنسى، أجد أن الوالدة كانت حقا محقة في قضاء تلك الأيام الممتعة، في منطقة تتميز بالهدوء وجمال الطبيعة وشلالات الماء العذب المعدني. الوالدة وجدت هي أيضا راحتها النفسية وهدأت أوجاع مرضها واستمتعت بالإقامة قرب الولي، المحاط بالطبيعة الساحرة التي تأسر النفس والعقل معا. تمنت لو استزادت من بركات هذا المكان وجماليته، كما أخبرتني بنفسها عند عودتنا إلى البيت.

أمضيت بقية الإجازة الصفية في بلدة بني حذيفة، أذهب صباحا إلى حيث تكثر أشجار التين والعنب والصبار (الهند الشوكي)، آكل من ثمارها الناضجة الطرية، وأشرب من مائها المعدني المنحدر من سفوح الجبال، ومع منتصف النهار أعود إلى البيت لتناول طعام الغذاء مع أفراد الأسرة. تليها القيلولة إلى غاية وقت العصر، بعدها يستأنف أفراد الأسرة عملهم ومهماتهم. وأما أنا فكنت أفضل غالب الأحيان الذهاب بعد وقت العصر إلى القرية لمشاهدة فيلم من أفلامي المفضلة، تبثها القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة الإسبانية.

وأحيانا ألزم البيت قرب الوالدة أتبادل معها أطراف الحديث، وأحيانا أخرى تنضم إلينا بنات أخيها، فنجلس في الفناء حول مائدة يوضع عليها براد من الشاي الأخضر بذوق عشبة النعناع، المتوفرة بكثرة في وقت فصل الصيف. نأكل مع شرب الشاي الملفوف والرغايف أو (المسمن).  يكون الحديث متنوعا، خاصة عن العمل في حقول الفلاحة والزراعة، وغلة ومحصول منتوجها، وعن طبيعة العلاقات الاجتماعية للبلدة… وكانت أخبار هجرة شقيق الوالدة والأخوين حسن وشعيب إلى فرنسا والاشتياق إلى رؤيتهم، تأخذ الحيز الأكبر من حديثنا، وهكذا يطول بنا الحديث ليستمر إلى غاية وقت المغرب.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق