محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (22)

26 سبتمبر 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (22)

أيام قليلة وتبدأ السنة الدراسية الجديدة (السنة الثالثة إعدادي). الوالدة كعادتها، لم تدخر جهدا لإعداد وتحضير جميع الحاجيات الضرورية، من أغطية وملابس دافئة للاستعانة بها في القسم الداخلي، اشترتها من مالها الخاص، توفره عن طريق بيع الدجاج والأرانب. ولا تنسى طبعا الهدية لابنتها (ارحيمو) المقيمة بتارجيست. والهدية تكون عبارة عن الدشيشة (حب الشعير يطحن طحنا غليظا)، أو اللوز، أو التين المجفف.

وكعادتها يوم سفري تودعني خارج البيت، تدعو لي وتوصيني بالاهتمام بدروسي. وهذا الاهتمام بمستقبل دراستي خصتني به منذ أن أصبت بالإعاقة في قدمي، لن أنساه لها أبدا.

وقبل الالتحاق بالقسم الداخلي مررت على الأخت (ارحيمو) لأقرئها السلام من أفراد العائلة وخاصة الوالدة دون أن أنسى طبعا هديتها من الوالدة.

وبعد إعداد ملف التسجيل وأداء رسومات القسم الداخلي، شرعنا مباشرة في متابعة الدروس. يخصص اليوم الأول كعادته للتعرف على أسماء المدرسين، مقرر مواد الدراسية واستلام جداول الأوقات الأسبوعية الرسمية. جل المدرسين جددا إلا مدرس الفيزياء والكيمياء السيد (برانزى). لم أطمئن منذ البداية لهؤلاء المدرسين الجدد لأن سمعتهم سمعة سيئة، ومع ذلك حملت نفسي على ألا أستبق الأحداث، لعل بعضهم يكون في مستوى مدرس الفيزياء والكيمياء.

طبيعة التكوين النفسي لأغلبية المدرسين والمشرفين على عملية التعليم، لا تمنح الفرصة للطالب ليعبر عن آماله ويكشف عن قدراته بحرية ليبدع وينتج. المناهج التربوية وطرق التدريس المستخدمة على نطاق واسع في معظم المدارس سلطوية. والسلطوية تعني الخضوع التام للسلطة ومبادئها بدلا من التركيز على حرية الإفصاح عما عند الآخر، فتضيع وتهدر طاقات الطالب وتذهب هباء منثورا.

من الطبيعي ألا تنتظر من مدرس نشأ في بيئة يمارس فيه القمع والعنف المنهجي، والتنكر للإنسانية أن يكون متسامحا مع طلابه، ويتيح لهم فرصة إبداء الرأي والنقاش الحر. هذا من المستحيلات!

مرت ما يقارب أربعة عقود على هجرتي وواقع التعليم في بلد المغرب يزيد سوء على سوء. أجيال ضائعة، لا تقدر على الإبداع والخلق الابتكار، تفتقر إلى المعرفة الجادة، تغيير ما بالنفس والمجتمع.

بدأت متابعة الدروس بروح جديدة ومحفزة، أجد نفسي فيها هذه السنة أميل أكثر إلى المواد العلمية، وخاصة حصص علم الطبيعة (الفيزياء والكيمياء). والفضل هنا يرجع إلى مدرس هذه الحصص، السيد (برانزى)، المدرس الروماني المتمكن من مهنته بداغوجيا وديداكتيكيا، يحظى باحترام وتقدير من كل الزملاء والطلاب إلا المغرضين منهم.

بدأت هذه العلوم الطبيعية تأسر روحي، وتستولي على عقلي في هذه السنة. ولكن تحفيزها لنفسي بدأ بالضبط مع قراءة المؤلف الفرنسي في الصيف عن إبداعات (لافوازييه) في علوم الكيمياء. ومنذ ذلك الحين صارت الكيمياء والفيزياء الحصة المفضلة لدي.

كانت العمليات التي نجريها في المختبر، وإثبات النسب في الاتحاد الكيميائي بالحساب، تثير في نفسي أسئلة كثيرة عن تكوين ونشأة المادة. كان مسيو (برانزى) يحدثنا بأسلوبه الجذاب عن مفهوم التفاعل الكيميائي عندما يتجمد الماء مثلا، فيتحول إلى جليد وهي الحالة الصلبة للماء. وخلال هذا التحول لا تتغير المادة، وإنما تتغير حالتها الفيزيائية. وأما التحول الكيميائي للمادة فهو الذي نلاحظه عند الاحتراقات، عندما تختفي الأجسام المحروقة، لتنتج عنها أجسام جديدة مختلفة عنها.

وطبعا، التفاعل الكيميائي تحكمه قوانين (قوانين لا فوازييه) التي تفهمنا أن الأجسام المتفاعلة والأجسام الناتجة تتكون من نفس الذرات وهو قانون (انخفاظ الذرات).

كل هذه العمليات وتفاعلاتها الكميائية التي كنا نجريها بعناية في المختبر، بإشراف هذا المدرس، كانت تتراءى لي في الأفق، وتخصب عقلي وتنميه تنمية تجريبية علمية.

وأما اللغة العربية والفرنسية، فكنت أعاني فيهما نقصا ضارا. ذلك أننا لم نجد من في مستوى مدرس الكيمباء والفيزياء ليقدم لنا آدابهما بطريقة جذابة ومحببة، تناسب قدراتنا العقلية والنفسية، أو كتلك الجهود التي بذلها مدرس اللغة العربية، سنة أولى إعدادي الذي تعلمنا منه المبادئ الأولية لقراءة القصص والروايات، ولكن للأسف، لم تجد هذه النبتة الطيبة التي غرسها هذا المدرس الفاضل، من يكملها ويرعاها، لتأتى أكلها بعد حين.

تلقينا اللغة العربية والفرنسية وآدبهما من مدرسين ليسوا أكفاء جديرين بهذه المهنة. أغلبهم يعاني من عدم التوازن النفسي، طبعهم طبع عنيف، غالبا ما يلجأون إلى ممارسة العنف وكهربة الجو في الفصل.

منهجيتهم لا تعزز السلوك الإيجابي لدى الطلاب، لا مكان فيها للثقافة المنمية لشخصية الطالب. هي منهجية تتركز على الحشو والحفظ وتكديس المعلومات، أو ما سماه البعض بـ”التعليم البنكي” الذي ينحصر دور الطلاب فيه في الحفظ والتذكر وإعادة ما يسمعونه من دون أن يتعمقوا في المضمون، فيتحولون بذلك إلى أوان فارغة يصب فيها المعلم كلماته ويصبح التعليم نوعا من الإيداع، الطلاب فيه هم البنوك. منهجية فاشلة بكل المعايير والمقاييس التربوية.

كان من الأفضل ومن العقل أن تراجع هذه المنهجية وتعاد صياغتها لتتواءم والقدرات العقلية والاحتياجات النفسية للطلاب. وهو عمل ليس من السهل تحقيقه إن لم تتوفر الإرادة والقدرة لدى النخبة التي تتولى صياغة الأهداف والمناهج التربوية، مع أنني أستبعد أن تقوم الوزارات المسؤولة عن قطاع التعليم في بلد كبلد المغرب بإنجاز هذا العمل المعقد، لأن المصالح متشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض، تمسك بخيوطها لوبيات عفنة وخربة الثقافة والتوجه، لا تريد الخير للبلاد، بل تريد أن تبقي على الوضع السائد (Status Quo) منذ أن حصلت البلاد على الاستقلال الإداري.

كنت أعاني صعوبة حصص اللغة العربية. وكنت أتساءل عن ماهية تدريس النحو والصرف والإعراب بهذه الكثرة التي تثقل كاهلي وترهقني عقليا، دون فائدة تذكر في تطوير وتحسين لغتي العربية في التعبير والكتابة.

ما فائدة إعراب جمل معقدة؟! بل ما فائدة إعراب آيات قرآنية؟! كما كان يصر مدرس اللغة العربية، ويحملنا ما لا نطيق، بتعسفه وتشدده، دون فائدة ترجى من منهجيتة الفاشلة.

اللغة لا تكتسب بالصرف وإعراب الجملة المعقدة والآيات القرآنية، بل هي تكتسب بحب القراءة والكتابة وهما مهارتان أساسيتان، تساعد المتعلم على التعلم خاصة في المراحل الأولى من مساره التعليمي.

تنمية المهارات اللغوية تقود إلى تنمية القدرات المعرفية والعقلية، والاتجاهات الوجدانية والمهارات النفسية الحركية. وهو ما يقتضي تنويع خبرات التعلم على المستوى المعرفي والوجداني لتحقيق تكامل نمو جوانب شخصية المتعلم وفق مستوى نموه العقلي والنفسي.

سبق أن تحدثت في الصفحات السابقة عما كنت أشعر به، في طفولتي نحو الطبيعة والمخلوقات التي تحيا فيها. وعندما كنت أمسك بالقلم والورقة للتعبيرعن هذا الشعور، وعن مسرات الحياة وأحزانها، أعجز وعبثا أحاول، فأصاب بخيبة أمل لا تتصور، ذلك أنني لا أملك أداة التعبير، ولا أعرف كيف أكتسبها وأتمكن منها!..

نفس السيناريو يتكرر مع اللغة الفرنسية من حيث منهجية دروسها وعدم كفاءة المدرسين. فصارت اللغة الفرنسية تشكل لي أيضا مانعا من موانع فهم النصوص والتعبير بها تعبيرا سالما، وخاصة عندما أواجه النصوص في حصة الفيزياء أو الرياضيات التي تتطلب دقة الفهم في حل مسائلها.

ما كان يحزنني ويقلقني غاية القلق هو عدم تمكني لا من اللغة العربية ولا الفرنسية تمكنا يفضي بي إلى التعبير عن أفكاري وعواطفي تعبيرا كافيا، حتى هاجرت إلى بلد هولندا لأخلق من جديد فكريا وثقافيا في رحاب الثقافة الراقية للقوم، وحبهم للقراءة والكتابة والسعي وراء كسب المعارف البشرية من شتى المصادر بدون ملل ولا كلل، وكأن لسان حالهم يقول: هل من مزيد!.. هل من مزيد للمعرفة!..

من المدهش حقا ما كنت أرى وألاحظ  كيف أن الشعب الهولندي محب للمعرفة حبا جما. وهذه المصادر للمعرفة جعلوها في متناول كل مواطن ومواطنة بغض النظر عن أصله ولونه وعرقه ودينه.

فالمواطن الهولندي عندما يتحدث بلغته الأم، يتحدث بها بطلاقة وثقة في النفس لا حد لها، لا خلط فيها، ولا تصنع، باختصار، رجل الأناقة يعبرعن ثقافة راقية، وعاؤها هذه اللغة الهولندية.

لم يرقني السكن بالقسم الداخلي بنظامه الصارم والسلطوي لمسيريه. كان هذا النظام يضيق علي ويقيد حريتي الشخصية. مذكرة القانون للقسم الداخلي على ما أتذكر، تنص على خلق الظروف المناسبة والإيجابية لتنمية القدرات العقلية والنفسية والجسمية للطالب حتى يتمكن من متابعة دراسته متابعة موفقة. يسهر مسيري القسم الداخلي على راحة الطلبة وخدمتهم ومساعدتهم على تخطي الصعاب في مسارهم الدراسي. وكما أن القانون الداخلي ينص على حرمة التعدي على حقوق الآخرين واحترام خصوصياتهم. المحافطة على الهدوء والأمن في كل مرافق القسم الداخلي، مطلب يجب أن يلتزم به كل طالب.. إلخ.

طبيعة التكوين النفسي لأغلبية المدرسين والمشرفين على عملية التعليم، لا تمنح الفرصة للطالب ليعبر عن آماله ويكشف عن قدراته بحرية ليبدع وينتج.

المذكرة كتبت بكلمات جميلة ورائعة، ولكن لا أثر لها في الواقع. ما كنا نراه في الواقع يتنافى كلية مع ما ورد في المذكرة. نرى السلوك العنيف والمشين يصدر من بعض الطلاب المغروري بهم ولا أحد يوقفهم عند حدهم. ومن المؤسف والمخجل أن هؤلاء السفهاء كانوا يحرمون الطلبة حتى من وجبات الطعام المعينة لهم. ولا محاسبة لهؤلاء المعتدين على حقوق الضعفاء، رغم الشكوى تلو الشكوى للجهة المعنية.

وأما مسيرو مؤسسة القسم الداخلي فجلهم لا أخلاق لهم، ولا يهمهم سوى مصالحم الشخصية الآنية. الحارس العام (سي علي) شعاره في التربية وتثبيت الأمن هو “العصا لمن عصى”. لا وقت لديه لسماع تفاصيل المشكلة من طرفي النزاع، كما حصل معي عندما اتخذني ذلك الشقي للتهكم والسخرية بإعاقة قدمي أمام الآخرين للتسلية والقهقهة، والصفعة التي تلقاها مني على وجهه. وهذه الحادثة خلفت جروحا في نفسيتي لم تندمل بسهولة.

وأين نحن من هذا الظلم الذي وقع علي وعلى كثير من الطلبة ومن فحوى المذكرة التي تشير إلى تنمية قدرات الطالب ومعاقبة المعتدي؟!

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق