توشك إجازة فصل الصيف على الانتهاء ونستأنف الدراسة، سنة رابعة إعدادي. لم أستمتع هذه المرة بأيام عطلة الصيف في المنطقة التي حبتها الطبيعة بالغابات المنيفة، والمراعي الواسعة، والنبات المختلف، والزهور البديعة، وهي تارة ترتفع في شكل جبال شاهقة، وتارة تنخفض على هيئة سهول منبسطة، وتارة تستقيم، وتارة تتلوى، فتعرض على الناظر إليها مجموعة متنوعة من المناظر الطبيعية الخلابة، تحرك في النفس أعمق الأحاسيس، وتحفز الوجدان الخلاق على إبداع كل جميل.
شغلني مرض الوالدة عن الاستمتاع بهذه المناظر الطبيعية. كانت حالتها الصحية تأبى التحسن، تزيد سوء على سوء إلى درجة أن أفراد العائلة ظنوا أن أجلها قد دنا لا محال فيه. رأيت الوالد يدنو من سريرها بقلب منكسر، يطلب منها أن تسامحه على كل عمل مسيء صدر منه إلى درجة الدموع.
لم أر الوالد في المرات السابقة يبكي الوالدة كبكائه هذه المرة، ويتأثر لحالتها غاية التأثر. إن التعاطف والائتلاف الروحي بين الزوجين يعزز بذلك الإحساس الذي يخلق بالألفة والمودة بينهما. مع أنني أعلم علم اليقين أن هذا الإحساس لم يحصل إلا نادرا بين الوالد والوالدة. بدأت الوالدة تشكو من علل وأمراض منذ السنوات الأولى بعد زواجها، مما أدت هذه الوضعية بالوالد إلى التذمر من الحياة الزوجية.
بقي الوالد وفيا لروح الحياة الزوجية رغم تذمره من حالة مرض الوالدة، ولم يتزوج إلا في السنوات الأخيرة من حياتها، ولكن هذا الزواج لم يستمر. فبعد قضاء نحب الوالدة تزوج للمرة الثانية، فكان مآله أيضا إلى الطلاق. عاود الكرة، فتزوج للمرة الثالثة حيث استقر مستقره مع هذه السيدة إلى أن مات بين ذراعيها… ولكن اسم زوجته الأولى، وهي الوالدة كان على شفتيه، وصورتها في قرارة فؤاده!
كل معرفة لا تغير من واقعنا تبقى معرفة نظرية مبهمة لا فائدة يرجى من ورائها
عندما زرته في مدينة طنجة بعد طول غيابي في بلد المهجر، مدة عقد ونصف من الزمن، اتضح لي من خلال حديثي معه أن له رغبة شديدة في الحديث عن الوالدة. وأتذكر أنني سألته: أراك تكثر الحديث عن الوالدة، ألم تكن علاقتكما يعتريها التوتر والنفور في غالبية الأحيان؟
وكانت هذه العبارة وحدها كفيلة بأن تبعث الدمع إلى عينيه، وتجعله ينطق بمثل هذه العبارات:
آه!..
ألا ردها إلي!..
كن عزائي عن فقدها، واملأ الفراغ الذي تركته في نفسي!..
كم تحملت!..
وحرمت لذة الحياة!..
فليرحمها الله ويغفر لها!..
كان كلاما مؤثرا! وهو بمثابة شهادة اعتراف لشريكة حياته التي تحملت وقاست من أجل الأسرة، ومن أجلي أنا خاصة…
كانت تخصني برعاية واهتمام خاص، رغم معاناة المرض الذي كان يغيبها عن هذه الحياة يوما بعد يوم إلى أن توقف قلبها عن النبض، ففاض روحها يوم 12 دجمبر، عام 1990م.
وهكذا كان الاثنان اللذان أوجداني، ولم يورثاني سوى هذه العبارات الرقيقة الروحية التي تصدر عن حس مرهف. وستبق مسجلة في طيات الذاكرة، أصل بها روحي بروحهما في عالم الآخر. وسأبقى أعزهما وأبكيهما كلما تذكرتهما إلى أن يأذن الرب الخالق بالرحيل واللحاق بهما.
السنة الرابعة إعدادي هي السنة النهائية والحاسمة في مرحلة التعليم الإعدادي. قبل المغادرة إلى بلدة تارجيست، أوصاني الوالد بقوله:
“اهتم بدراستك ولا تشغل بالك كثيرا بمرض والدتك، وخاصة هذه السنة تتطلب منك مضاعفة الجهد حتى تتمكن من الانتقال إلى الصف الخامس، مرحلة الثانوي، ويكفي ما ضاع منك من سنوات التربص…”.
بهذه الوصية ودعني الوالد قبل ركوب الحافلة المتجهة نحو بلدة تارجيست.
لم تكن الوالدة في وداعي خارج البيت قبل المغادرة، تدعو لي بالتوفيق والنجاح في دراستي. شعرت بفراغ روحي وقلق وخوف في نفسي، لأن دعواتها هي بمثابة التزود الروحي عند المغادرة، تمنحني القوة والطمأنينة والأمن والأمان والسلام.
ولكن هذا الشعور بالقلق والخوف سرعان ما اختفى لأبدأ متابعة الدراسة بنشاط وجد. لا أدري كيف استحوذ هذا النشاط والحيوية على عقلي وغمر الأمن والسلام روحي. إني أتذكر جيدا ما حصل لي في بداية هذه السنة: غادرت البيت تاركا ورائي الوالدة على فراش الموت، ينتابني شعور غريب لم أستطع مقاومته رغم وصية الوالد، وإذا بهذا الشعور يتحول إلى طمأنينة في نفسي لا تتصور.
بدأت الدراسة بهذه الروح والعزيمة، فكانت نتائج مواد الدورة الأولى جد مشرفة، باستثناء بعض مواد اللغة العربية والفرنسية، ونفس النتائج حصلت عليها في الدورات التالية، وخاصة مادة الرياضيات ومواد الطبيعة. كانت نتائجها من بين النتائج الأولى في المجموعة، وجهت على إثرها توجيها علميا.
لم يسبق أن رأيت الوالد قلقا كقلقه هذه السنة على مصير دراستي، كما أخبرني هو بنفسه. كان مرض الوالدة يشغل باله وعلاقته بمسار دراستي، وخاصة هذه السنة الحاسمة في تحديد توجيهي إما علميا أو أدبيا. كان ينتظر بشغف سماع التوجيه العلمي، كما كان يتمنى، ليراني متخرجا من أفضل وأعلى كليات الهندسة في البلاد.
أتذكر عندما قرع الحاجب باب حجرة الفصل، ثم دخل وحيا المدرس وأبلغه بأن على الطالب (محمد أزرقان) أن يحضر معي إلى مكتب المدير. شحب لوني من الخوف، ومشيت مترنحا بجانب هذا الحاجب صوب المكتب دون أن يخبرني بشيء، ووساوس تساورني متسائلا: ماذا فعلت… ماذا ارتكبت… ليدعوني المدير إلى مكتبه؟ أنا لم أرتكب جرما!..
دخلت المكتب وإذا بالوالد جالسا بجانب المدير ينتظرني. استقبلني المدير ببشاشة على وجهه، لم أعهدها منه، طلب مني الجلوس، فجلست مقابل الوالد، فراح يحدثني عن الأخلاق الحسنة التي تميزت بها طوال السنوات الأربع، وعن الجهد الذي بذلته في متابعة الدراسة والنتائج التي حصلت عليها. ثم قال: إن المدرسين في الاجتماع الأخيرأجمعوا على أن تتوجه توجيها علميا، لأن نتائج المواد العلمية التي حصلت عليها، نتائج حسنة ومتفوقة، فهنيئا لك، وأتمنى لك الحظ في حياتك.
التفت إلى الوالد وإذا ببسمة عريضة ترتسم على شفتيه، أسعده غاية السعادة ما سمعه من فم المدير من أخبار سارة، انتظرها بفارغ من الصبر، وقد عجل بلقاء المدير ليطلعه على نتائج الامتحانات، قبل وقت ظهورها، ويعرف هل وجهت توجيها علميا أم أدبيا؟
كان الوالد يحدوه الرجاء بأن أحصل على منصب عال في سلم دراستي، أضمن به مستقبلي وتكون لي مكانة اجتماعية رفيعة في البلاد، لأن الثقافة السائدة هي أن تجتهد وتتوفق في الدراسة بين أقرانك ويعلى شأنه ليشار إليك بالبنان.
وختاما للمرحلة الإعدادية أقيم حفل توزيع الشهادات أو (ديبلوم البروفيه Brevet) – كما كان يسمى في ذلك الوقت -.
تلقينا دعوة الحضور إلى مقر الإعدادية للمشاركة في الحفل وتسليم شهادة إنهاء مرحلة الإعدادي. تصورت أن الحفل سيقام في الفناء الواسع للمدرسة، يحضره الطلبة المتخرجون والمدرسون والمدير وكل موظفي المدرسة، وتزين المدرسة بالأعلام، بمختلف الأشكال والألون، تشبه تلك الزينة التي نراها يوم عيد العرش. هذه هي الصورة التي طافت في مخيلتي وتوقعت رؤيتها.
وجاء اليوم الموعود، فأخذت سيارة الأجرة متجها نحو قرية تارجيست، أجلت زيارة الأخت إلى ما بعد الحفل، كنت من الحاضرين الأوائل إلى مقر الإعدادية، دخلت فناء المدرسة ولم أر إلا فئة قليلة من الطلبة ينتظرون تسليم الشهادة، وبعض المدرسين في مكتب الحارس العام.
لم أر ما توقعته من زينة المدرسة بالأعلام الملونة التي توحي بأجواء الحفل، لا شيء من ذلك بتاتا، كل شيء يبدو على نحو ما كان يبدو عليه عادة.
طلب منا الشاوش أن نتجمع قرب مكتب الحارس العام وننتظر حتى ينادي منادي على كل واحد منا باسمه لتسليم الشهادة من أحد المدرسين الجالسين في الداخل. وكان من المصادفات العجيبة أن أتسلم الشهادة من مدرس اللغة العربية، سنة أولى إعدادي. لم أر هذا الرجل لمدة شهور، ظننت أنه رحل عن قرية تارجيست لأسباب صحية وعائلية بحسب الإشعاعات التي كنا نسمعها.
عرفت الرجل بشخصيته المتزنة والهادئة، يحب مهنته ويتقنها ويؤديها خير أداء. وكان المدرس الوحيد للمرحلة الإعدادية الذي كان يوجهنا إلى قراءة القصص والروايات، ويحثنا على مناقشتها وتداولها بيننا لتنمية اللغة وآدابها والثقافة العامة. وكانت له منهجية خاصة تختلف عن المنهجية المعتمدة.
إني أتذكر هذا المدرس كلما تناولت قصة أو رواية من روايات الأدب العربي والعالمي بالقراءة. أذكره بخير لجديته ونضاله من أجل تنمية روح الأجيال، وإخصابها بالمعرفة، في زمن قل فيه ما نجد مثل هذا الاهتمام. ويصح بحق أن يلقب هذا المدرس بمدرس اللغة العربية وآدابها، ويصح أن يكون مثالا لزملاء مدرسي اللغة العربية.
ولم ينج من تعرضه لضغوطات وأذى من قبل إدارة المدرسة والزملاء المدرسين، لا لشيء، إلا أنه يخلص في عمله ويحمل هم الأزمة المعرفية للأجيال. هكذا كانت الأخبار المتداولة بين الطلبة عن هذا المدرس والمضايقات التي كان يتعرض لها، بزعم أنه لا يلتزم بالخطة التعليمية التي رسمتها الإدارة. مثله في هذا كمثل الطائر الذي يغرد خارج السرب. وغيابه عن أداء مهنته لفترة تقدر بشهور، احتماله كبير أن تكون هذه الضغوطات والمضايقات.
وهذه الحالة يفسرها لنا القانون الاجتماعي الذي أورده المفكر خالص جلبي في كتابه: سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي فيقول في صفحة )112، 113(: ” فلو أراد فرد أومجموعة صغيرة أن تغير ما بنفسها، فقد يحصل العكس، فقد تتعرض للسحق تحت قانون (الدجاجة الجريح) الذي ذكره المؤرخ توينبي، من أن الخارجين عن الانضباط الاجتماعي، يصبحون مثل الدجاجة الجريح، فتأتي بقية الدجاجات، وتنقر محل الجرح النازف حتى الموت؟!! ولذا كان المجددون والأنبياء والمصلحون الاجتماعيون يعيشون حياتين: داخلية غنية خصبة، مليئة بالمعاني والقيم، وأخرى خارجية صعبة وغير مريحة، في حين أن أصحاب العقارات والملايين، يعيشون بالوضع نفسه ولكنه مقلوبا، لأن المال عندهم يسبح بين الحسرة والقلق، الحسرة على المزيد، والقلق على الموجود، لذا كان على عاشقي الحكمة ومحبي العلم ألا يكنزوا لهم كنوزا على الأرض، حيث يفسد والصدأ، وينقب الناقبون ويسرق اللصوص؟!”
مشكلة العرب والمسلمين هي الغفلة وجهل قوانين المعرفة، والعمل على دراستها وفهمها وبالتالي تغيير ما بالنفس والمجتمع. فالتاريخ لا يعمل بشكل عبثي، وإنما يخضع للقانون (السنة بتعبير كتاب القرآن) الذي يحكمه. ففهم هذه القوانين هي جوهر المشكلة المعرفية التي تعترض طريقنا إلى الخلاص الروحي والعقلي. وإن لم نسع جادين وملحين لفهمها، وبالتالي تسخيرها لخدمة توجهاتنا وكرامتنا، فسنظل – دون شك – نئن تحت وطأة الأمم الأخرى، يسخروننا لمصالحهم ويسخرون منا.
فلا بديل ولا حل لمشكلتنا النفسية والاجتماعية، إن لم ندرس القوانين التي تحكم وجودنا في هذا العالم. ولكل قانون طبيعته – بتعبير خالص جلبي (ص.109)- فقانون الفيزياء، غير قانون البايولوجيا، كما أن قانون الذرة وانشطارها هو غير قانون المجرة، وقوانين ميكانيكا الكم هي غير قوانين النسبية للعلامة (آنشتين). والمجتمع له أيضا قوانينه التي تسيره ويخضع لها، على الإنسان أن يدرسها بإرادة وعزيمة حتى يتمكن من فهمها ويجعلها تحت قيد تصرفه، وبالتالي يحصل له التغيير والتطور، وإلا فلينتظر المسلم مزيدا من المأساة الاجتماعية والانتحار الحضاري.
ليس هناك محاباة ووساطة ورشاوى فيما يتعلق بقوانين الكون الذي نحيا فيه، وليس هناك قربى ومحسوبية وزلفى إلا بالعمل المتقن والإخلاص فيه والاستفادة من الأخطاء دون غفلة. ويجب أن يعلم المسلمون علم القين أن العدو المسلط على رقابهم ويسومهم سوء العذاب، فهو من عند أنفسهم ومما كسبت أيديهم، كما عذب اليهود والنصارى من قبل: “وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه !! قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق”. فهو قانون عام، يسري على الجميع، لا فرق عنده بين المسلم، أو اليهودي، أو النصراني، أو العربي، أو الأمازيغي…
يحضرني في هذا المجال قول المنظر الاجتماعي (مالك بن نبي)، حيث يقول: “إن كل قانون يفرض على العقل نوعا من الحتمية، تقيد تصرفه في حدود القانون، فالجاذبية قانون، طالما قيد العقل بحتمية التنقل برا أو بحرا، ولم يتخلص الإنسان من هذه الحتمية بإلغاء القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة، تجعله يعبر القارات والفضاء كما يفعل اليوم. فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئا، إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة، لا ينصب أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجهه بنوع من التحدي، يفرض عليه اجتهادا جديدا للتخلص من سببية ضيقة النطاق… وبذلك تتغير وجهة النظر في سير التاريخ، إذ إن المراحل التي تتقبل أو لا تتقبل التغيير – حسب طبيعتها – تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير، لأن الحتمية المرتبطة بها، أصبحت اختيارا يتقرر في أعماق النفوس”.
كل منظومة معرفية لا تنتج العقل الذي يستطيع أن يعبر عن أفكاره تعبيرا حرا علنيا، ويفصح عنها في ضوء النهار، تحت سمع الجميع في مؤتمرات وندوات ولقاءات، بدون خوف من الاتهام بالزندقة والهرطقة، هي منظومة فاسدة لا تنفع الناس
أفهم من هذا النص (لابن نبي) أن الكون يخضع لقوانين، وهي قابلة للاكتشاف والسيطرة عليها، كما حدث مع الجاذبية على سبيل المثال. فالنفس الإنسانية لا تشكل حالة شاذة في منظومة الوجود، فهي قابلة للتغيير أيضا إذا أحسن فهم قوانينها التي تحكمها. وكتاب القرآن كان واضحا وجليا في مجال تغيير ما بالنفوس: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”. آية من سورة الرعد صريحة في مسوغاتها، والتي تشكل بحق البناء الأساسي للقانون المعرفي.
“إن فكر (ابن رشد) و(ابن خلدون) السنني لم يترك أثره بكل أسف، في العقل الإسلامي حتى اليوم، فالطريق الذي شقه (ابن خلدون)، لم يتفطن أحد إلى خطورة اكتشافه، ولهذا لم يتابع أحد هذه الومضات الخالدة، وهذا التحليق المدهش، أما (ابن رشد) فهو متهم حتى الآن؟! والذي استفاد من هذا الفكر السنني هم رواد النهضة الغربية، خاصة في إيطاليا، حيث أطلق تيارا عقليا تحرريا، بدأ ينتبه إلى فكرة السنن في إدراك الوجود والبحث التجريبي الذي يقوم على طريقة جديدة في فهم الوجود، هي الطريقة (الإستقرائية -INDUCTION) بدلا من الطريقة الأرسطية القديمة التي تقوم على الطريقة (الإستنباطية -DEDUCTION) التي تعتمد البحث النظري فقط للوصول إلى حقائق الوجود.
كانت طريقة (ابن خلدون) الاستقرائية ثورة على الفكر القديم بتدشين العودة إلى الواقع، لأن أي ضخرة هي أدل على نفسها من أي نص كتب عنها أيا كان مصدره، أي بربط الفكر النظري بالواقع، بتأمل قوانين المجتمع كما هي وكيف تعمل؟ لا كيف يجب أن تكون، كما فكر من قبل أرسطو وأفلاطون، وهي نقلة نوعية في الفكر” (مقتبس من كتاب: سيكولوجية العنف واستراتيجية الخل السلمي للمفكر خالص جلبي).
لم ينتبه العقل المسلم لهذه القوانين النفسية – الاجتماعية التي اكتشفها (ابن خلدون). كان ابن خلدون يرى أن المنطق القديم لا يطابق الحياة الواقعية، وأن الواجب يقضي على أن من يريد فهم الواقع لا بد من أن ينظر فيها حسب منطق آخر، لأن المنطق القديم أو المنطق الأرسطي – بتعبير خالص جلبي – يصبح منطقا جامدا ما إن يستغرق المفكر فيه حتى يمسي وكأنه يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع التخلص منها.
كل معرفة لا تغير من واقعنا تبقى معرفة نظرية مبهمة لا فائدة يرجى من ورائها. لم تنتبه حركة الإصلاح والحداثة لهذه القوانين الجوهرية التي وضعها (ابن خلدون) وتعمل على دراستها وبلورتها وجعلها قوانين تغير النفس والمجتمع.
وأحسب أن مدرس اللغة العربية كان يسعى جادا وجاهدا في خلق الأجواء الملائمة للقراءة وإتاحة الفرصة لممارسة النقاش وتبادل الأفكار والنقد والنقد المضاد.. وكلها آليات تجعل الطالب يعي ذاته وينمي روحه ويكتشف مواهبه، بل هي آليات تفضي به إلى اكتساب المعرفة التي تغير ما بالنفس والمجتمع.
وأما المعرفة لأجل الحصول على مكانة اجتماعية لمصلحة ما أو التقرب من أصحاب العظمة والسلطة، فهي ليست معرفة تغييرية ولن تكن كذلك أبدا. وكل منظومة معرفية لا تنتج العقل الذي يستطيع أن يعبر عن أفكاره تعبيرا حرا علنيا، ويفصح عنها في ضوء النهار، تحت سمع الجميع في مؤتمرات وندوات ولقاءات، بدون خوف من الاتهام بالزندقة والهرطقة، هي منظومة فاسدة لا تنفع الناس، لا تقوى على تغيير النفوس والمجتمع ومسايرة التطورات والمستجدات.
وكتاب القرآن يلعن أشد اللعن أولئك الذين يتاجرون بالمعرفة ويكتمونها عن الناس، ويؤجرون أقلامهم لأصحاب السلطة والنفوذ، فيشترون به ثمنا قليلا. وقد أقسم القرآن بالقلم وما يسطرون وبالطور وكتاب مسطور، وأول كلمة أنزلت كانت أمرا بالقراءة، وفي الإنجيل: “في البدء كانت الكلمة”. إنها فلسفة القرآن التي تؤسس لأصول الأفكار الحرة والتعبير عنها وترفع القيود والأغلال عن العقل لينمو ويتطور.
(يتبع)