انتهت الإجازة الصيفية التي أمضيتها كلها في بني حذيفة بجوار الوالدة المريضة. تلقيت الدعوة من إدارة ثانوية الباديسي بمدينة الحسيمة أن الشروع في الدراسة يكون بعد منتصف شهر شتمبر. وكان علي بقية أيام الإجازة الصيفية أن أعد العدة وأستعد للسفر. الوالدة لم تتدخر جهدا رغم أوجاع مرضها، لتتولى معي تدبير وترتيب كل ما أحتاجه وأستعين به من ألبسة وأفرشة، وكعادتها عملت على تزودي بقدر من مالها الخاص، توفره من بيع الدجاج والأرانب.
ويوم موعد سفري، لم تكن الوالدة في وداعي خارج البيت كما تفعل كعادتها. افتقدت كلماتها الحنونة ودعواتها التي تمنحني السلم والطمأنينة. ركبنا سيارة الأجرة بصحبة الوالد متجهين نحو مدينة الحسيمة حيث مقر متابعة دراستي الثانوية.
كان حضورنا مبكرا إلى مقر القسم الداخلي، كنا من الأوائل. طلب منا الموظف الجالس وراء الشباك ملء بعض الاستمارات، ثم تسديد الرسوم المستحقة. القسم الداخلي بناية متكونة من جناحين، كل جناح تعلوه أربعة طوابق ومطعم بالطابق الأرضي. البناية محاطة بسور مرتفع ثبتت فوقه أسلاك شائكة، يشبه السجن. في هذا المكان المحاط بهذا السور العظيم سأقضي مرحلة السنوات الثلاثة للتعليم الثانوي. وحتى الموقع الخارجي لم تطمئن إليه نفسي، منطقة تربتها رملية، يكثر فيها شجر الصفصاف، تفتقر إلى الغطاء النباتي المتنوع. وأظن أن المنطقة تعرضت في الماضي لزحف كثبان رملية من جهة البحر المتوسط، وانجراف التربة بفعل الرياح ونقلها من مواضعها إلى مواضع أخرى. وبحسب علم طبقات الأرض (الجيولوجيا)، فإن عملية التعرية أو الانجراف يكون سببا في حدوث الصحراء. فالمنطقة بدت لي منذ البداية صحراوية قاحلة، تزحف عليها الرمال من جهة البحر، ومن الجهة المقابلة البناء العشوائي الذي يزيدها تشويها ولا جمالية.
لم يكن لي بد إلا أن أكيف نفسي مع هذا المعطى الجديد. ثمة فرق كبير بين قرية تارجيست وطبيعتها المتنوعة وبين المنطقة المحاطة بالقسم الداخلي لثانوية البادسي، مقر سكناي لمدة ثلاث سنوات كاملة.
ما كنت أخشاه هو أن تؤثر هذه الظروف على مساري الدراسي. لم أبح به لأحد، بل احتفظت به لنفسي! وحتى الوالد عندما سألني: هل يروقك المكان؟ أجبته بالإيجاب!
بعد الانتهاء من إجراءات القسم الداخلي انتقلنا إلى إدارة الثانوية لإتمام إجراءات التسجيل، وكانت فرصة أن يعرفني الوالد بالحارس العام الذي يعرفه معرفة شخصية منذ زمن. ولم يفت هذا الحارس العام أن يتلوى علي زبوره الأمني: الاهتمام بدروسك، والابتعاد عن مثيري الشغب والفوضى، وعدم المشاركة في الإضرابات، والحرص على محافظة الأمن داخل فصول تلقي الدروس، وعدم التعرض للمدرسين بالسخرية والإهانة… ومن ثم إذا احتجت شيئا أو لديك مشكلة، فمكتبي مفتوح لك، لا تتردد بالمجيء.
وحين انتهينا من إجراءات التسجيل، أراد الوالد أن يعرفني عن المرافق الحيوية للمدينة، فانطلق بي تجاه محطة الحافلات التي تعرف باسم (فلوريدو)، مشينا في شارع محمد الخامس الرئيسي الذي يمتد عبر المدينة إلى غاية حي (باريو)، تكثر فيه المحلات التجارية والمؤسسات الإدارية. ولم يفت الوالد أن يعرفني على شاطيء من شواطئ المهمة للمدينة (كيمادو).
والمنطقة المحيطة بالحسيمة المدينة، منطقة تضاريسها جبلية وعرة، تقطنها تجمعات بشرية متفرقة، جعلت منها أرخبيل شواطئها نقاطا سياحية رائعة. شواطئها مقارنة بالمدن الساحلية الأخرى ليست مزدحمة، لذلك يقصدها السياح الذين تستهويهم رياضة التزحلق على الماء والغوص في الأعماق، وهي أماكن مثالية هادئة لقضاء العطلة الصيفية.
وبعد قضاء يوم كامل في والتجوال والنظر إلى المدينة، رجعت عند غروب الشمس إلى مقر القسم الداخلي منهكا بالتعب. تسلقت السلم المؤدي إلى الطابق الثالث، حيث الغرفة التي تحوي سريري بجانب الأسرة الأخرى. نمت نوما عميقا بسبب التعب الذي لحق بي أثناء التجوال في المدينة.
الأسبوع الأول مخصص لاستلام جدول الأوقات الأسبوعية الرسمية، والتعرف على أسماء المدرسين، وحصص المواد المقررة والمراجع المعتمدة ولوائح الفصول. المدرسون من جنسيات مختلفة. مدرس الرياضيات فرنسي، مادة الفيزياء والكيمياء روماني، مادة التاريخ والجغرافيا من سوريا، والباقي مغاربة.
ومن الطبيعي أن يكون العرض التعليمي أوسع وأشمل من العرض الذي سبق أن تلقيته في المرحلة الإعدادية. لذلك قررت ومنذ البداية ألا أضيع الوقت في التسويف والتأجيل، فخصصت هذا الأسبوع الأول لاقتناء الأدوات والمستلزمات المدرسية من أقلام وكراسات وكتب، تجنبا للازدحام الذي ستشهده المكتبات في الأسابيع القادمة ونفاد الكتب.
وفي الأسبوع قبل بدء الدروس، بدأ الطلبة يلتحقون بكثرة بالقسم الداخلي، وإلا اتخذت إجراءات قاسية في حقهم، كحرمانهم من المنحة الدراسية مثلا. امتلأت الأسرة في الغرفة التي أنام فيها. الغرفة تحتوى على أكثر من عشرين أسرة، أسرة فوق بعض (سرير طابقين). جاري صاحب السرير السفلي طالب الصف السادس، شعبة أدبي. كان صاحبي هذا يحب الخوض والتحدث في مواضيع شتى، أدبية اجتماعية سياسية، يطرحها علينا للنقاش بلغة عربية سليمة. وكان يحفظ الشعر والأمثال والحكم العربية القديمة ويستشهد بها كثيرا في نقاشاته وحديثه.
لقد كان ثائرا على كل الأوضاع الاجتماعية، ولم أره يوما يمدح أحدا أو شيئا من الأشياء، كان ينتقد الناس جميعا والأشياء كلها، وكان ذلك نوعه، ولم يكن هذا النوع يثير مشكلة، لم يتمكن بعد من تكوين عقيدة خاصة له، لذا فقد وضع كثيرا من القضايا الاجتماعية موضع بحث وتدقيق، إلا أنه لم يوفق ويسعده الحظ للوصول بنهاية تفكيره إلى نتائج اجتماعية حاسمة.
هكذا كان نسق ثورته على الثقافة السائدة، يضع قشا على الجمرة المشتعلة في النفوس عندما يجمعنا به النقاش والحديث في المقهى أو يوم السبت مساء في لقاء مفتوح. وكانت فصاحته العربية تمارس سحرها وتأثيرها في العقول.
أما حكاياته ومغامراته – وهي في غالبها من نتاج مخيلته، وكان مولعا بالأدب الخيالي، كتلك التي أوردها كتاب ألف ليلة وليلة، فقد كان يقصها علينا فتجد لدينا آذانا صاغية. بل كنا ندفع عنه ثمن كوب القهوة لنسمعه يتحدث كما يتحدث.
وكانت لدية أقاصيصه الشخصية، وسواء كانت صحيحة أم مختلقة فقد داعبت أحلامنا. وكان يبدو لي أحد الرحالة أو الباحثين عن الآفاق الجديدة، ويسترسل في أحاديثه عن التجوال والتنقل والترحال لاكتشاف العالم وثقافة وأساليب حياة شعوبه. وكان يكثر الكلام عن الرحالة (ابن بطوطة) ومغامراته الاستكشافية لهذا العالم، يرى فيه المثل الذي يجب أن يحتذى به في مجال السفر والسياحة في أرض الله الواسعة.
أتذكر عندما كان يحدثني عن مغامراته وخطة رحلته إلى أستراليا بعد إنهاء الثانوية العامة، كانت تبدو لي ضربا من الخيال، إلا أنه فتح لنزعتي إلى التنقل والترحال بعدا جديدا.
لم يدر في خلدي أن هذا الحديث عن التجوال والترحال سيفعل مفعوله في نفسي مع مرور الزمن للإقبال على المغامرة والسفر إلى بلد بعيد وغريب عني، فتحول الخيال إلى الواقع، وحتى صديقي هذا الذي استفدت كثيرا من أفكاره وفصاحته العربية، سافر هو أيضا إلى البلد البعيد الذي وضعه نصب عينه – بحسب الأخبار التي وصلتني – وبذلك تكون أمنيته قد تحققت. تمنيت لو بقي التواصل معه لأعرف كيف تطور مساره الفكري.
كان الجو الفكري في السبعينيات في بلد المغرب يسوده الفكر الثوري اليساري-الماركسي. وكانت الثانوية التي كنت أتابع فيها الدراسة لم تنج من جاذبية هذه الأفكار. بدأت أشعر بهذا الانقسام الإديولوجي – على الأقل في أوساط الطلبة – الذي أوجد انطلاقا من باب المدرسة ومن باب المقاهي، حدودا أخلاقية فاصلة بين هؤلاء الثورين الذين يزعمون بالانتصار للطبقة العاملة والمقهورين، وبين أولئك المحافظين (الرجعيين) المدمنين على قراءة أدبيات الحركات الإسلامية السياسية ونصوص دينية بالية.
كانت الحياة في قرية تارجيست حياة بسيطة ولكنها فكرية تأملية نشيطة، تمنحني قوة العقل والروح. منطقة تارجيست، منطقة حباها الله بالمراعي والجبال والبحيرات، غابتها تكسوها أشجار مختلفة، خاصة شجر السنديان (البلوط). وهذه المناظر الطبيعية توفر الانسجام مع النفس وتمنحها الأمن والسلام.
وكانت غابة البلوط الواقعة على جهة الشرق لقرية تارجيست تسحرني وتأسر نفسي، عندما يبدأ شجر البلوط يتلون باللون الداكن بداية فصل الربيع، وعندما أجلس وسط هذه الأشجار، على ضفة الوادي، أنجز الواجبات المدرسية، أشعر باستجماع قوايا العقلية والروحية، وكل ما أقرأه وأنجزه من معادلات جبرية وهندسية أستوعبه استيعابا كاملا.
(يتبع)