عندما انتقلت إلى مدينة الحسيمة وجدت نفسي أمام معطى جديد، نقاشات وتجاذبات أيديولوجية لا فائدة ولا طائل من ورائها، تدار رحاها بين الثوريين والمحافظين. تنفر منها الروح وتكرس الاستقطاب والبؤس الفكري الثقافي.
منذ البداية اتخذت موقفا محايدا، لا أنساق لا مع هؤلاء ولا مع أولئك، أقف بعيدا عن نقاشاتهم وصراعاتهم، ذلك أن روحي كان تتوق إلى شيء آخر، بعيد المنال، لم أستطع استبانته بين ركام الثقافة العفنة التي يحيا فيها المجتمع المغربي.
إن كل مجتمع يصنع بنفسه الأفكار التي ستقتله. وهذه الأفكار نوعان: نوع مندس في الموروثات الاجتماعية، أي يرثها المجتمع من التراث الفكري الديني، ونوع آخر يستعيرها من الحضارة المسيطرة. فيصبح مصير المجتمع تتقاذفه أمواج الأفكار المستعارة من المجتمعات المتحضرة، وأفكار مميتة يستمدها من تراثه الثقافي – على حد تعبير مالك ابن نبي –
المشكلة أن النخبة المثقفة المسلمة لم تنتبه إلى طبيعة هذا الصراع بين الذين يحملون الأفكار المستعارة من الغرب، وبين الذين يدعون إلى الأفكار التي فقدت روحها ومفعولها الاجتماعي. وهذا الصراع الناتج عن الأفكار كان يجد لها أرضية خصبة في هيئات دينية وسياسية وتربوية وإعلامية، ثم تحول إلى صراع دموي يأتي على الأخضر واليابس، كما يحصل الآن في منطقة الشرق الأوسط، حيث دمرت دول بأكملها.
ومن الواضح، وحتى لا أكن مبهما في كلامي وقصدي، أن المسؤول في الأمر ليس مضمون الثقافة الغربية الذي يتضمن فعلا هذا الجانب الضار للأفكار، ولكن اتجاه الأفكار البالية التي ابتلي به المسلمون ما بعد سقوط الحضارة الاسلامية واندثارها. وهذه الوضعية المزرية فتحت الأبواب على مصراعيها للثقافة الغربية دون اتخاذ احتياطات ضد أسباب العدوى الخطيرة لهذه الثقافة. كان من الواجب على المؤسسة الدينية والنخبة المتشبعة بالفكر الديني أن يدرسوا الثقافة الغربية دراسة مستفيضة ليعرفوا الجانب السقيم والقاتل فيها، والجانب الحيوي الذي ينفع ويمكث في الأرض، وبالتالي يكسب الأجيال المناعة ويمنح لهم جهاز المراقبة ومهارات التعامل مع الحضارة الغربية، كما فعل (توما الأكويني) مع الفكر الرشدي الأندلسي. درس فكره دراسة عميقة كلفته معاناة لا يستهان بها والمعروفة في التاريخ: “محنة القديس توما الاكويني مع تراث ابن رشد”. وبعدما توضحت له معالم هذا الفكر، أخذ منه ما يناسب توجهاته الفكرية وترك منه ما يراه تراثا دينيا إسلاميا خطرا، لا يفيد توجيه النهضة الأوروبية في شيء.
أتصور لو أقدمت هذه النخب الإسلامية على مثل هذه الخطوة وقامت بدراسة الفكر الغربي بعقلانية وموضوعية، لفوتت الفرصة على أساتذة الغرب الذين يمسكون بيدهم خيوط توجيه عقول أجيال المسلمين فكريا وثقافيا. فالمشكلة الجوهرية لفشلنا الفكري والسياسي والاجتماعي تكمن في الأفكار المميتة والمندسة في موروثاتنا الثقافية وتراثنا الاجتماعي. لأن هذه الأفكار تخدع بسهولة قوة الدفاع الذاتي فيه، وهي تفتك أشد الفتك بالكيان الإسلامي من الداخل. وما لم نُجر عليها عملية تصفية، ستبقى تفتك بالجسم الإسلامي العليل إلى أن ترديه جثة هامدة لا روح فيه.
وهذا الواقع الذي أتحدث عنه عبر هذه الأسطر، أراه يتجسد في هذه البلاد التي نعيش فيها. فلا يعقل أن شبابا مسلمين نشأوا وتربوا في مجتمعات غربية بعيدا عن تجاذبات بلدان أصل آبائهم وأجدادهم، وصل بهم الحال ليتأثروا بهذه الأفكار التي تخدع جهاز الدفاع الذاتي فيهم، ويضحوا بأنفسهم ومستقبلهم وأولادهم، إلى درجة تفجير أنفسهم في محطات قطارات الأنفاق والمطارات، وقتل الأبرياء. إنها حقا لأزمة فكر وروح يعاني منها المسلم أينما حل وارتحل. حاله حال بئيس، يبعث عن الشفقة والرحمة. وهذ مما كسبت أيدي هذه النخب المثقفة والمتدينة بالدرجة الأولى التي غفلت عن طبيعة التعامل مع أصول وروح هذه الحضارة.
في هذه السنة (الصف الخامس من المرحلة الثانوية) وجدت صعوبة في التأقلم والتكيف مع المحيط الجديد. كنت أميل إلى العزلة وصرت إنسانا عزوفا عن الآخرين. وكنت أحس باطنيا أن هناك شيء جوهري أفتقده، ولكأن بروحي تريد وتسعى إلى نوع من الرعاة الروحانيين الأبرار، تلتمس لديهم تخفيفا لما أعيشه من صنوف الصراع.
كانت دروسي في مواد الرياضيات والطبيعة تسير سيرا حسنا. وأما اللغات وآدابها، فنقصها باق يلاحقني ويشكل لي إعاقة لغوية وفكرية طوال مرحلة الدراسة.
(يتبع)