كنت أعلم أن دراسة الرياضيات والطبيعة تساعدنا على فهم مكونات الطبيعة وخصائصها، ولكن المشكلة أن المنظومة التربوية التي تلقينا ضمنها هذه المواد، لم تفلح في عرض مادة الرياضيات من وجهة نظر التاريخ، فصارت الرياضيات بالنسبة لي مادة جافة لم تساعدني على إيجاد حل لأزمتي الروحية. مع أن الرياضيات حين نقرأ في تاريخها ساهمت في خلق شبكة موسيقية روحية رفيعة.
ارتبطت الرياضيات منذ الأزل بالطبيعة والجمال والتناسق. الفيثاغوريون كانوا يرون أن كل شيء مرتب وفق العدد. ونادى آخرون أن جوهر الحقيقة الفيزيائية للكون مرتبط بالعدد، وأن جماله قائم على ركائز حسابية.
في القرن السابع والثامن عشر بنى المؤلفون الموسيقيون الكبار مؤلفاتهم على أساس من التأملات الرياضية. وفي هذه العصور بلغت الموسيقى والرياضة معا تقريبا القمة الكلاسيكية، كثرت بينهما علاقات الصداقة والإخصاب المتبادل. ومنذ القدم ونغمات الموسيقى تستولي على روح الإنسان بسحرها، وهي حاضرة كفكرة عظيمة، موجودة دائما، تختلف مضامينها وصورها باختلاف ثقافات الشعوب عبر الأزمنة والعصور.
الموسيقى مكون من مكونات “عالم الأدب والفن”. وعالم الأدب والفن كان أساس أكاديميات الرياضيين في القرنين السابع والثامن عشر ليمتد ويصل إلى الفلسفات الرومانتيكية وإلى رموز الأحلام السحرية عند الشاعر الألماني نوفاليس الذي قال:”إن سلطان الموسيقى الخفي للنشيد يحيينا في الدنيا بتحورات له خالدة”.
الفكر يشكل نفسه حسب القدرة المحددة. ويجري قياسا رمزيا يستخدم فيه الأعداد والأشكال الهندسية ويعتمد عليها، على اعتبارها معادلات. ولذلك كانت مقاربة الفلاسفة والرياضيين والفنانين للكون مقاربة هندسية رياضية.
إن كل إنتاج بشري مضمونه خدمة وإسعاد الإنسان في هذا الكون. الإنسانية هي الشغل الشاغل لهذا الإنتاج. إنها – باعتقادي – تبقى وتسعد بالصفاء، بالانسجام، بالاعتدال بالفكر، بالتأمل، بالعقل، بالمعيار، بالشجاعة. ولهذا أدرك كيف أقدر هذا الإنتاج الذي أنتجته العقلية البشرية منذ القدم، بدءا بعصور الثقافات القديمة (السومرية والبابلية والمصرية)، وثقافة الهند والصين، فثقافة اليونان بمدارسها المختلفة، ثم عصر ازدهار الحياة الفكرية المتنورة للمسلمين والعرب في الأندلس (عصر الأنوار الإسلامية على حد قول أحد الفلاسفة الفرنسيين). امتد هذا التنوير الإسلامي إلى أوروبا، فازدهر وأينع ليؤتى أكله بعد حين، تجسد خاصة في عصر الأنوار للقرن الثامن عشر، عصر التنوير الفلسفي، والتنوير الصوفي معا.
إنه عصر يوهان سباستيان الذي ارتفع بالموسيقى، توشك أن تكون أسطورية، والتي خدمت روح الإنسان ولا زالت تخدمه. وهذه وحدها حقيقة تكفي – حسب حكمة الصينيين – للقول بأن العصر كان عصر ازدهار للناس. كان حكماء قدماء الصينيين يقيمون حكمهم على ازدهار أو تدهور الدولة بكل نواحيها، على الموسيقى، الموسيقى المنسجمة الخادمة للأهداف الإنسانية النبيلة، علامة العصر المزدهر، الموسيقى النافرة علامة العصر المتدهور.
فالموسيقى فن رائع يخاطب خلجات الروح الإنسانية، بل ينميها إلى درجة أن الإنسان يسمو ويحلق بروحه في أجواء لامتناهية، يلمس من خلال هذه الرحلة بركات إلهية اللامادية، يعجز اللسان عن وصفها.
إنني عندما أستمع لسمفونية الربيع (صحت النسمات الرقيقة) لشوبرت، أستمع إلى روحي التي نفخت في جسدي من قبل الخالق. كل المعاناة الوجدانية التي عانيتها منذ أن كنت صغيرا حينما كنت أقف وسط طبيعة بادية بلدة بني حذيفة، أتأملها وأتطلع ببصري إلى الأفق البعيد، علني أجد حلا لمشكلتي الروحية، كانت له علاقة بالفن الموسيقي أو الفن الشعري أو الفن المسرحي… لم أكتشفه إلا بعد أن أتيحت لي فرصة المواظبة على القراءة في بلاد المهجر.
لقد قرأت في هذا المجال، مجال الفن والأدب، بحوثا ودراسات لا يستهان بها، ذلك أن روحي كانت متعطشة للارتواء من هذا المعين للفكر البشري. يقول جاك ماريتان “لقد انبثق الشعر كوعي مباشر بذلك السر الكبير الذي تتساءل عنه حياتنا، وقد سيطر عليها لغز كوني”، وكذلك كنت منذ طفولتي أتساءل عن هذا السر الخالد واللغز الكوني.
ويقول أندريه مالرو: “إن غالبية الناس قد لا يكون لديهم فكرة عن الرسم أو النحت أو الأدب، بقدر ما يجهلون فن المعمار. ولكنهم من خلال تجربة ميلاد أو موت، أو من خلال شخص ما يمارسون هذا الشعور الغامض بالسمو الذي تقوم عليه جميع الأديان”.
إن كثيرا من الناس يحسبون أن روايات (كافكا) من القصص الديني الرمزي، ولكن (كافكا) بنفسه يقول عن رواياته إنه يرى في تساؤلاته نوعا من الصلاة. “إن الكون مليىء بعلامات لا نستطيع فهمها”.
وهذا ما كان يتراءى لي في الأفق البعيد، ولم تكن لي القدرة والوسيلة للتعبير عنه. نشأ (كافكا) في بيئة مدته بوسيلة الكتابة ليعبر عن تلك التسبيحات الروحية المقدسة، المليئة بالأسرار والألغاز. وأما حالي فكان مختلفا، جردت من وسيلة الكتابة ومهارة التعبير، لأن البيئة التي نشأت فيها، كانت آخر شيء تهتم به، هي اكتساب المعرفة، وصاحب المعرفة ينبذ ولا يعر له اهتمام. وهذا هو الفرق بيني وبين الأديب (كافكا) الذي استطاع أن ينتج وينجز عملا أدبيا هاما في ظرف عمر قصير يقدر بأربعة عقود.
إن تركيبة المنظومة التربوية ببلد المولد منظومة فاشلة وخاسرة بامتياز، لأن البرامج التي تتلقى من خلالها الأجيال المعرفة لا تساهم في البناء المعرفي لشخصية الفرد، بل تحط من مستواه ومن قدراته. بل وحتى اقتصاديا وتقنيا وعلميا، لم تفلح هذه المنظومة التعليمية في إحداث شبكة المعاهد للتكوين المهني يمنح لشريحة الشباب فرص الشغل ويخلق عندهم روح تنظيم المشاريع والأعمال الحرة، وتيسر مشاركتهم في التعاونيات وغيرها من أشكال المؤسسات الاجتماعية أو الاقتصادية أو المالية.
المنظومة التعليمية الواضحة في مسوغاتها وبرامجها تهيء – دون شك – الأجيال معرفيا، وتخلق عندهم رغبة الابتكار والتجديد وروح اتخاذ المبادرات في إقامة المشاريع الاقتصادية والتجارية (اتخاذ المبادرات هي ميزان فعالية الفرد والمجتمع). ثم يأتي دور المؤسسات والهيئات الاجتماعية كشبكات تفعيل وتبادل الخبرات والتجارب لهؤلاء الشباب على صعيد البلد كله، دون إغفال طبعا الاستفادة من تجارب الشعوب التي قطعت شوطا في المنجزات الاقتصادية والتجارية والمالية.
فالمواطنون في بلد المغرب، إلى غاية كتابة هذه الأسطر، لا زالوا يعانون سياسة التهميش وفساد النخبة التي تدير التعليم والاقتصاد!.. التعليم منخور ومنهار، وروح اقتصاد البلد في يد نخبة لا تفكر إلا في نفسها وتأمين مصالحها، نسبة الأمية الأبجدية لا زالت مرتفعة، وخاصة في صفوف القرويين والنساء!..
جاري في غرفة النوم، صاحب السرير السفلي، كان مولعا بقراءة روائع الأدب العالمي. ويوم السبت والأحد يرخص لنا بالخروج، وكان هذا الطالب المحب للقراءة يستغل هذه الفرصة، ويقترح علينا الذهاب إلى مقهى من مقاهي المدينة ليفيدنا بآخر ما قرأه في مجال الأدب. وحسب ما أتذكره من أحاديثه، كان يحدثنا عن المشاكل والخلافات الاجتماعية، الدائرة بين العائلات مثلا، كصورة مصغرة للمجتمع، معتمدا في ذلك على الأدب الروسي. كان يستهوينا بلغته العربية الفصحى وبحديثه عن هذه المواضيع الاجتماعية ومقاربته الأدبية لها.
لم أهتم وأكترث – للأسف – بما كان يحدثنا به هذا الطالب الأديب عن هذه الكنوز والروائع الأدبية العالمية، وخاصة الأدب الروسي الذي يعتبر قمة في العطاء والابداع. لم تتح لي فرصة قراءة هذه الكنوز الأدبية إلا بعدما غادرت البلاد.
يعد الأدب الروسي الأكثر تأثيراً على نفوس القُرّاء في بلدانٍ عدة؛ نظراً لما يحتويه من تقلّبات في سرد القصص أو الروايات أو الأشعار التي تأثرت بالوضع الاجتماعي في روسيا القديمة، والحديثة أيضاً. فظهرت أعظم الأعمال الشّعرية، والنثرية، والمسرحية في القرن الثامن والتاسع عشر الميلاديين.
ومن بين الوجوه الذين خلد اسمهم في سجل تاريخ الأدب العالمي، الأديب (ليو تولستوي). إنه أحد عمالقة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، وأفضل الروائيين على الإطلاق، وهو يعتبر في نظري، أفضل داعي السلام، ومفكر أخلاقي، ومصلح اجتماعي، وفيلسوف اعتنق فكرة المقاومة السلمية النابذة للعنف.
من أشهر رواياته التي أثرت على الأدب العالمي كافة، “الحرب والسلام”. تتناول هذه الرواية مراحل الحياة الاجتماعية المختلفة، وتصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا بين فترتي “1805 – 1820”، بالإضافة لأحداث غزو نابليون لروسيا عام 1812م.
ومن أشهر مؤلفاته أيضا كتاب “أنا كارنينا”، الذي تعرض فيه لسبل علاج القضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية في شخصية “أنا كارنينا”، التي تجسدت فيها قصة مأساة غرامية.
الإنسان يحس بحريته بفضل الروح المودعة فيه. الروح هي التي تقوده إلى فعل الخيرات وإنقاذ نفسه أولا والآخرين من براثين الجهل والغفلة والاستبداد والاستعباد. والروح اليقظة الواعية والمهذبة تجعل الإنسان ينعم ببركات السلام والطمأنينة والأمن والأمان. تراه إنسانا قد حسم الصراع الداخلي وعقد السلام مع نفسه، وبالتالي يفيض هذا السلام ليشمل المجتمع بل العالم كله. هذه الملاحظات سبق لي أن سجلتها في إحدى الكراسات عندما تناولت كتاب “مملكة الرب بداخلك” لهذا الفيلسوف الإنساني. وهذا الكتاب أثر على مشاهير القرن العشرين، الذين تبنوا منهج الدعوة والمقاومة السلمية النابذة للعنف، أبرزهم (مهاتما غاندي)، قاوم الاستعمار بروحه القوية وليس بجسده النحيف. فهم دعوة الأديب (تولستوي) التي تقدم وصفة علاجية مزدوجة، للمستكبر أولا بأن يكف عن قتل الإنسان المكرم بآدميته وكرامته من قبل خالق المخلوقات، وثانيا للمستضعف بأن ينهض ويفيق من سباته ويعلن العصيان ويقود الجهاد المدني في وجه المستبد لينتهي من غيه وسفك دم الانسان.
كل هذه الأفكار التي تدعو إلى السلم والمقاومة السلمية، بلورها هذا الفيلسوف الأخلاقي في كتابه “مملكة الرب بداخلك”. وأحسب أن كتابه هذا، جاء كنتيجة تعمقه في القراءات الدينية وحكم الأنبياء. وفي هذا الصدد ألف كتابا كاملا عن جهاد وحكمة النبي محمد ابن عبد الله، سماه “حكم النبي محمد”.
ومن دون شك أن هذه القراءات جعلت منه إنسانا ينبذ العنف في شتى صوره، ويدعو إلى احترام كينونة الإنسان، لأن حرمته عند الله عظيمة وأعظم من حرمة بيت الحرام – كما جاء في الأثر-. قاوم الكنيسة الأرثوذكسية في بلده روسيا، ودعا للسلام ونبذ الاستغلال. لم تقبل الكنيسة دعوة وآراء (تولستوي) التي ما فتئت أن تلقفها أصحاب الضمائر والأخلاق ومناصري السلام والسلم بين الشعوب. فماذا كانت النتيجة؟ كفرته الكنيسة وأبعدته عنها، وأعلنت حرمانه من رعايتها!
أعجب بآرائه عدد من الناس ليس بقليل، وكانوا يزرونه في مقره بعد أن انضم إلى المزارعين البسطاء، يقاسمهم عذاباتهم ومعاناتهم، معتزلا وتاركا عائلته الثرية والمترفة، فعاش غربتين: غربة الأهل واغتراب الأفكار، وهو الذي كان شعاره “أيسر على المرء أن يكتب في الفلسفة مُجلدات عدّة، من أن يضع مبدأ واحد في حيز التطبيق”.
وأما رحيله عن هذه الدنيا فتمت في ظروف غريبة وغامضة. في قرية استابو، وفي محطة قطار، حين هرب من بيته – بعد أن سبق له أن هرب من حياة الترف – أصيب بالتهاب رئوي أثناء طريق سيره، فتوفي على إثرها في 20 نوفمبر من العام 1910م، عن عمر يناهز 82 عاما. رفض أن يدفن وفق طقوس الكنيسة الأرثذوكسية بسبب أنه كان يراها غير متعاطفة مع الفقراء والضعفاء، وتقف ضدهم، لذا تم دفنه في حديقة “ياسانيا بوليانا”. وسيبقى قبره شاهدا على أفكاره ومواقفه ضد الظلم وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. سيبقى فكره الأخلاقي ودعوته إلى الجهاد السلمي تحفز الأجيال على مقارعة الظلم والاستبداد بطرق مشروعة إنسانية وليس بالقتل والقتل المضاد، كما يحدث حاليا في عالم العرب والمسلمين، هجوم وهجوم مضاد. هي حلقة شيطانية، فستغيب مجتمعات بأكملها، كما غيبت مجتمعات في الماضي بسبب العنف والعنف المضاد. وساعتها… وساعتها فقط، سينطبق على هذا الإنسان حكم الملائكة:”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”.
كانت هذه وقفة وقراءة في الإنجاز الأدبي الإنساني لهذا الفيلسوف الروسي (تولستوي)، عندما عادت بي الذاكرة إلى تلك الجلسات في المقهى مع هذا الطالب المحب للأدب. لست أدري لماذا لم تكن لي القدرة على التفاعل مع الأفكار التي كانت تطرح في هذه الجلسات، وأنا الذي كنت أبحث عن خلاص لروحي في هذا الجانب من المعرفة البشرية.
[يتبع]