إن تجربتي مع الخلوة في سني المبكر لم تأت هكذا عبثا، وإنما هي نتيجة أسئلة كثيرة مقلقة أثيرت في نفسي. كنت أبحث عن جواب وتفسير لها علني أجد مخرجا لهذه المحنة النفسية. وعندما هاجرت بلد المولد ليستقر بي المقام في بلد هولندا المبارك، واصلت الجهاد والكدح من أجل إيجاد إجابة ما على أسئلة متعلقة بمصيري وجودي في هذه الحياة.
الجهاد والبحث، سمتان إنسانيتان معقولتان، بهما يتحقق الاعتدال والصفاء للإنسان إذا ما آمن أن النتيجة النهائية ليست بيده، إنما عليه أن يسعى ويعمل، أما الباقي فبين يدي الله. ولكي يدرك الإنسان حقيقة وضعه في هذا العالم، ينبغي أن يستسلم لله ويرضى بقدره، فيتنفس السلام، ويحيا في سلام، ويموت في سلام، ويبعث على السلام.لأن الله مصدر الرحمة وألزم نفسه بالرحمة واسمه السلام:”والله يدعو إلى دار السلام”. وحياة الأنبياء بدأت بالسلام وختمت بالسلام: “والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا”.
إن التسليم لله هو الطريقة الإنسانية المثلى للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها ولا معنى … إنه طريق للخروج بسلام دون تمرد ولا عصيان ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار. إنه شعور باطني بطولي لا مثيل له، يشعر به الإنسان العادي -مثلي- عندما يقوم بأداء واجبه، ويؤدي دوره في هذا الوجود مع تقبل مصيره وقدره.
والإسلام، كما يقول الفيلسوف البوسني بكوفيش: “.. لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظمه ولا نواهيه ومحرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يبذلها الإنسان، وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة الوعي الباطني… من قسوة النفس في مواجهة محن الزمان… من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود… من حقيقة التسليم لله. إنه استسلام لله.. والاسم إسلام”.
وفي الواقع يستطيع الإنسان أن يكتشف العالم من خلال الطبيعة، بل كل شيء يمكن اكتشافه بواسطة عملية التفكير والدرس والاختبار والمقارنة فيما عدا الذات الشخصية. فهذه الذات لا تخضع للتجارب والاختبارات التي يجريها العلم. من خلال الذات نتصل باللانهائي، خلال الذات – ومن خلالها فحسب – نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر. الإنسان وحده فقط يستطيع أن يشهد بوجود عالم الروح والحرية. فالحرية حرية الروح، وبالذات فقط يشعر الانسان بحريته ويشهد عالم ما وراء الطبيعة. لأن كل شيء بجانب الذات الإنسانية هو وجود خارجي موضوعي.
عندما يتأمل الإنسان ويستغرق في الذات، تحبب له الخلوة والابتعاد عن الصخب. إنها محاولة للوصول واكتشاف حقيقة حياته ووجوده. فالإنسان المتأمل لا تعنيه الأسئلة التي تثار حول المجتمع والعالم الخارجي. هو معني فقط بالتساؤلات التي يضعها هو أمام ذاته: ما حقيقة وجودي في هذا الكون؟.. ما مصيري؟.. ما الروح.. وما الموت؟.. كلها تساؤلات تمثل الحقيقة الكبرى، لا يجد لها أجوبة في العلم الذي يفسر الظواهر الطبيعية الخارجية، بل تراه يسلك طريق التأمل عله يجد بعض الأجوبة عن تساؤلاته، عن السر الوحيد الأكبر. هذا السر هو الحقيقة التي تعني كل شيء بالنسبة إليه، ولا تعني شيئا بالنسبة لعالمه الخارجي.
أغلقت أبواب الثانوية والقسم الداخلي، فغادرت مدينة الحسيمة متجها نحو بلدة بني حذيفة لقضاء أيام عطلة الصيف بين الأهل والأحبة. استقبلتني الوالدة بالترحيب وسعدت بقدومي. ولكن سعادتها كانت أكبر عندما أطلعتها على النتائج الموفقة التي حصلت عليها. عودتني الوالدة عند انتهاء السنة الدراسية بإقامة مأدبة عشاء تكريما لي واحتفالا بنجاحي، يجتمع فيها كل أفراد العائلة وأفراد أسرة أخيها. ويكون اللقاء فرصة لتبادل أطراف الحديث عن العلاقات الاجتماعية في المدشر والمحصول الزراعي وأخبار الأخوين والخال المقيمين في بلاد فرنسا وانتظار قدومهم إلى بلاد المغرب أواخر شهر يوليوز لقضاء أيام جميلة بين ذويهم.
قضيت أيام شهر يوليوز أتنقل بين البيت و(عنصر اللوز) الذي تكثر فيه أشجار التين والعنب وجداول المياه المعدنية، المنحدرة من سفوح جبل الحمام. و(عنصر اللوز) هو المكان الذي كنت أفضله لأقضي فيه جل أيام عطلة الصيف منذ أن كنت تلميذا في صفوف التعليم الابتدائي إلى وقت التعليم الجامعي، بل أتذكر أن آخر زيارتي إلى هذا المكان المبارك كانت في فصل الصيف لسنة 1984م، أي سنة قبل المغادرة إلى بلاد هولندا.
وعندما تعود بي الذاكرة إلى تلك الفترة أتساءل وأنا أخط هذه المذكرات، لماذا كان يحبب لي هذا المكان على الأماكن الأخرى؟.. لا أدري بالضبط!.. ربما الهدوء والسكينة التي تنفرد بها بقعة (عنصر اللوز) في المنطقة كلها!
كانت فترة الصباح (من شروق الشمس إلى حدود وقت الظهيرة) هي الفترة المفضلة لدي لقضائها في هذا المكان. أتنقل بين أشجار التين والعنب وشجر الصبار، آكل من ثمارها وأشرب من ماء جداولها العذبة. كانت أصوات الطيور، خاصة طائر السنونو، وخرير الماء وكل ما جادت به الطبيعة تبعث الطمأنينة والأمن والآمان في النفس.
كانت هذه الفترة بمثابة التأمل والتعبد، أشعر فيها بانسجام تام مع النفس وتمنحني القوة لروحي والصفاء لذهني… إنها أجمل ذكريات أستذكرها عبر كتابة هذه المذكرات لطفولتي.
عند عودتي إلى البيت نتاول طعام الغذاء، ثم يليها وقت القيلولة إلى بعد وقت العصر. بعدها أذهب إلى قرية بني حذيفة حيث يحلو الجلوس على سطح المقهى، يجمعني مع بعض الأصدقاء الطلبة للحديث عن إمكانيات إتمام الدراسة بالخارج وفرص الشغل بعد التخرج. وأحيانا أخرى يكون الحديث في مواضيع أدبية سياسية اجتماعية. كانت جلستنا تستمر إلى ما بعد وقت صلاة المغرب. وأما إذا انضم إلينا صاحب الدكان المجاور للمقهى، فيطول بنا المقام والحديث إلى وقت متأخر من الليل. صاحبنا البقال لم تسعفه الظروف لإنهاء الثانوية العامة. وبانضمامه إلينا يطرح علينا أسئلة في السياسة لاختبار معرفتنا بها – بزعمه -. وحتى يظهر بمظهر ذلك العارف الفاهم، ترِد في كلامه مصطلحات وألفاظ سياسية، مثل الاشتراكية، تقسيم الثروات بالعدل، الرجعية… وعندما نقول له: ولكن أين مكان الاشتراكية وتقسيم الثروة بالعدل في الواقع، لم نر شيئا تحقق في المجتمعات، وحتى في المجتمعات التي تبنت هذه المنظومة الاشتراكية لم تقسم فيها خيرات البلاد بالعدل!.. يغضب صاحبنا، فيقول: أنتم الطلبة ينقصكم الوعي السياسي، قد احتوتكم الأرقام الحسابية والصيغ الرياضية، بعيدون عن الساسية كل البعد!..
يذكرني صاحبنا البقال بمشكلة السياسة في بلد كبلد المغرب، مع أنني لا أحب السياسة ولا أحب السياسيين، لأنني أراهم كما قال الكاتب والروائي الانجليزي (جورج أرويل): “السياسيون في العالم مثل القرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا الزرع”. وأحسب أن الكاتب أرويل بحكمته هاته يقصد أن ساسة البلدان الغربية تحكمها مصالح عندما يتعلق الأمر بالشعوب الغير المحسوبة عن المنظومة الغربية.
ولكن السؤال: كيف هي وضع السياسة في بلدان العالم الثالث؟ وما موقف الشعوب منها؟
لم يمر زمن طويل عن استقلال بلد المغرب حتى انتبه الشعب أن أوراق الانتخابات وصناديق الاقتراع يتخذه السياسيون للاختلاس وتزييف إرادة الشعب، مثلهم في ذلك كمثل سحرة فرعون حينما استرهبوا الناس وسحروا أعينهم.
لا زلت أتذكر الوالد كيف كان متحمسا للمرشح (أبرقاش حدو) من فريق الحركة الشعبية أواسط سبعينيات القرن الماضي. قام الوالد والمرافقون له بتنظيم الحملة الانتخابية بالدعاية والترويج لترشيحه بحماسة كبيرة في قرية بني خذيفة وبني عبدالله ونواحيهما. وبعد فوزه في الانتخابات لم يوف بأي وعد من وعوده التي وعد بها أهل أيت عبدالله وأيت حذيفة، فخيب أملهم وسخطوا عليه. وكان الوالد من أشد الساخطين عليه، نعته بالكذاب المخادع، لا يصلح لشيء، قضى مآربه وذهب!..
ولكن الشعب المغربي، على الرغم من المغالطة الماهرة التي خيبت أمله أكثر من مرة لم يفقد صحوته، فلم يمر عليه زمن طويل حتى اكتشف الخدعة، فميز بين السياسة والصورة التي زيفت عليها، فسمى هذه الصورة المخادعة والمزيفة (البوليتيك). (البوليتيك) هي تلك الصورة التي تتخذها الفئة المحسوبة على السياسة في بلد المغرب للدجل وتحقيق المآرب والمصالح الشخصية على حساب مصالح المواطن. لقد رأينا هذه الفئة التي تروج للسياسة في سوق (البوليتيك) عندما كنا طلبة في التعليم الثانوي، ثم اتضح لنا خداعهم وفساد خلقهم أكثر وأوضح عندما كنا طلبة في الجامعة.
كانت الجامعة مرتعا وساحة للصراعات السياسية بين الاشتراكيين التقدميين ومنظمة إلى الأمام من جهة والمحافظين من الإسلاميين من جهة أخرى.
(تفاصيل عن هذه النقطة تؤجل عند الحديث عن الفترة الجامعية).
(يتبع)