إني أكتب -كشاهد – عن هذه الحقبة التي عانى منها البلد من فساد هؤلاء الذين يحسبون على السياسة وعن مكرهم وخداعهم للشعب المغربي. ولكن لا بأس أن نذكر هنا حكمة (أبراهام لنكولن): “قد يخدع رجل كل يوم، ويخدع شعب بعض الأيام، إلا أنه لا يخدع شعب كل يوم”.
مرت عقود على الاستقلال، وهؤلاء المزيفون يخدعون الشعب باسم السياسة وأوراق الانتخابات. كانت مصالحهم وزعامتهم هي السبب الرئيسي في تكريس الاضطهاد والقمع وقتل روح الإبداع والعمل المنتج لدى الشعب في ظل الحكم المستبد، مهما تشدقوا أنهم يتبنون الفكر اللبيرالي أو الديني أو حتى الاشتراكي.
ثمة فرق كبير بين لفظة (السياسة) ولفظة (البوليتك) كما يقول مالك ابن نبي في إحدى مقالاته الصحفية: “.. إن الصراع بين السياسة والبوليتك قديم جدا، وإذا أردنا أن نحددهما من الوجهة النفسية قلنا إن الأولى استبطان القيم، بينما الثانية قذف مجرد للكلمات. والأولى محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب، والثانية مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه”.
أفهم السياسة – من خلال احتكاكي بالشعب الهولندي – أنها ذلك العمل الذي تقوم به كل جماعة منظمة ومنطوية تحت دولة، وظيفتها يحددها ويحكمها الدستور. وهذا الدستور جاء كنتيجة لمخاض اجتماعي طويل وتقاليد عريقة، كما هو الحال في بلد هولندا الذي نعيش في كنفه. فالجماعة التي تدخل في مضمون السياسة، هي مجموعة الأفراد الذين تجمعهم روابط ثقافية وتاريخية وجغرافية. وهذه العوامل كلها هي التي توجه الجماعة نحو هدف واحد وتحدد مصيرها في إطار دولة أو في إطار (أمة) باصطلاح الفقه الإسلامي.
فبلد كبلد المغرب – إلى يوم كتابة هذه المذكرات – لا زال في حالة ما دون التكوين والتمرين في كل مجال، أي في مرحلة التي تفرض عليه التفكير وبجدية في قضية العمل الموجه والمنظم. وعلى الصادقين الذين تتوفر فيهم القدرة والإرادة أن يضعوا في حسبانهم أن وضع تصور للعمل لا يكفي وحده، بل يجب عليهم استحضار الشروط الفنية التي يفرضها العمل، حتى لا يصبح دون هدف، أو يتجاوز حدود الهدف، أو بتعبير آخر، لا تفريط ولا إفراط فيه، الوسطية – كما نادى بها الدين الحنيف -. فحالة التفريط تفضي بنا إلى حالة سلبية بحيث تشوب سياستنا للعمل (اللافعالية)، وأما حالة الإفراط فتشوه سياسة العمل وتحوله إلى سياسة الإجحاف.
إن العمل السياسي الإيجابي الفعال في مستوى الدولة يقوم على الركائز التالية:
- تحديد سياسة العمل بأكثر ما يمكن من الوضوح.
- وضع وسائل حماية هذا العمل من الإحباط والسلبية، حتى لا يتحول إلى حبر على ورق على شكل نص دستوري كما يحدث غالبا في بلدان العالم الثالث.
- وضع ميثاق أو جهاز يحمي المواطن من إجحاف العمل عندما يصدر عن جهل أو سوء نية منفذيه.
- الشرط أو الركيزة الرابعة هي المراجعة وتقييم العمل من أجل الاتعاض والاستفادة من الأخطاء.
تعلمنا التجربة أن القانون أحيانا عندما يكون في يد من لا يحسن تنفيذه، أو يستعمله ليقضي به مصالحه ومآربه يؤذي المواطن ويكون مفسدة له. وفي هذه الحالة يصير منفذ القانون مستبد في صورته المصغرة باسم الدولة، يذيق المواطن الويلات، وبالتالي يتذمر هذا المواطن ويكره منفذ القانون ويصير سلبيا.
والواقع أن الدولة التي خلقها المستعمر والمتعاونون معه ما بعد الاستقلال لا تخدم إلا مصالحها ومصالح الفئة التي تحرص مصالح الدولة المخزنية. وإلى الآن لم يرتق مسيري هذه الدولة بالشكل المطلوب والعمل على مصارحة أنفسهم أولا ثم مصارحة الشعب بانتهاج السياسة بالشروط التي أسلفنا ذكرها أعلاه. وقد رأينا في الانتخابات الأخيرة كيف يلفون ويدورون للانقلاب على الديمقراطية التي يتبجحون بها وتزوير إرادة الشعب المغربي بفرض أناس (تكنوقراط) لا يفكرون إلا في مصالحهم ومصالح المخزن.
فمن الواجب ومن مصلحة الدولة العليا أن تضع من أجل المواطن جهاز دفاع يحميه من عملها، حين يصبح هذا العمل إجحافا. والجهاز هذا موجود بصورة دستورية في البلاد المتطورة كبلد هولندا، ولا مانع من أن يستفيد المغاربة، خاصة (صانعي القرار) من مثل هذه الدساتير المتطورة ليعيدوا الثقة للمواطن المغربي بالدولة. والشروط الأخلاقية الأربعة التي أوردناه أعلاه هي أقل ما تتطلبه السياسة الجادة التي تخدم مصلحة المواطن، لأن المواطن هو المادة الخامة للدولة منذ قيامها في التاريخ.
وأحسب أن الوقت قد حان لمسيري ومنظري الدولة المغربية أن يعيدوا حساباتهم ومراجعة أفكارهم السياسية وإحداث أجهزة حماية المواطن وصيانة كرامته من إجحاف القانون باسم الدولة. ويحضرني في هذا المجال ما قاله لينين: “إن كل الأحزاب الثورية التي فشلت وأخفقت حتى الآن، قد أخفقت لأن الغرور قد استولى عليها، ولم تكن تقدر قدر نفسها وقوتها، كما كانت تخشى الحديث عن جوانب الضعف فيها. أما نحن فإننا لن نخفق، لأننا لا نخشى الحديث عن ضعفنا ونتعلم كيف نتغلب عليها”.
الأسبوع الأخير من شهر غشت هو موعد سفر الأخوين والخال إلى بلاد فرنسا. وبالتالي يكون وداعهم إعلانا لنهاية الصيف واستعداد الطلبة للعودة إلى متابعة الدراسة. كان سفر الأخوان والخال يشكل للوالدة فراقا قاسيا، ليس من السهل عليها نسيانه إلا بمرور فترة تقدر بأسابيع.
وكنت أسألها:
لمَ كل هذا الحزن عن فراقهم؟
فتجيب بقولها: المرض… هذا المرض اللعين الذي نهش جسدي لسنوات طوال وأنا لا أعرف طبيعته… ولربما غيبني عما قريب عن هذه الدنيا وهم بعيدون عني كل البعد… ولا يستطيعون إلقاء النظرة الأخيرة علي!..
قالت لي هذه الكلمات وهي في حالة مثيرة للشفقة. ولكأني بها تعد الأيام المتبقية من حياتها. كانت هذه الكلمات ترعبني وتشل حركات حياتي، ذلك أن شعوري بأني أبدأ حياتي بوالدتي وبها أنهيها. وبحضورها الداعم وبطاقتها الغير المحدودة على تدليلي – أو هذا ما كنت أتخيله – كان بمثابة الضمان الرفيق والخفي لحياتي خلال سنوات وسنوات. فعندما كنت أعاني وأكابد معاناة متابعة الدراسة، كنت متأكدا من أنني أستطيع الاعتماد اعتمادا كاملا على شخص الوالدة المثالي وصوتها واهتمامها وحنوها الأمومي الغامر. وعندما توقفت عن الدراسة وصرت من العاطلين قبل الهجرة إلى بلاد هولندا، وقفت إلى جانب تدعمني بكلماتها الحنونة لتخفف عني، ناسية أوجاع مرضها وهمومها. ما أعظم هذه المرأة… ما أعظمها!
إن حنانها ترك أثرا في نفسي لا يمحى أبدا. عانت أشد المعاناة في حياتها. كنت صغيرا وأنا أسألها مما تشكو؟
فتجيب بقولها: أنا نفسي لا أدري مما أشكو يا بني… حياتي… وجودي صار عبئا عليكم… مرضي يحيرني… صار لغزا!..
ما أغرب تصاريف هذه الدنيا المغرورة بنا!..
انقضت الإجازة الصيفية ولم يبق لي إلا أن أحزم حقيبتي للسفر متجها نحو مدينة الحسيمة لاستئناف الدراسة. السنة الدراسية هذه هي الأخيرة في ثانوية البادسي، وهي الحاسمة في إنهاء التعليم الثانوي التي تخول لي الولوج إلى سلك التعليم الجامعي. وبحكم توجهي العلمي كان يتحتم علي أن أبذل جهدا لتذليل الصعاب، خاصة المواد العلمية للشعبة. والواقع أننا واجهنا معاناة جمة في هذه السنة بسبب عدم كفاءة المدرسين وتماطل الادراة عن إجاد حل لهذه المشكلة.
أتذكر أنني أصبت بداية السنة بقلق نفسي لا يستهان به على مصير ومستقبل دراستي!.. ماذا عسانا أن نتوقع من مدرس غير متمكن من اللغة ليشرح لنا الظواهر الفيزيائية المعقدة شرحا واضحا وكافيا؟.. كنا نمضي ساعتين كاملتين في الفصل نستمع لشرح مدرسنا العتيد بلا فائدة. مرت شهور والحال كما هو.. لا تغير ولا تحسن!.. وكلما قدمنا الشكوى للإدارة كانت تجابهنا بأن لا حل لكم إلا أن تواظبوا على متابعة الدروس وتجتهدوا. وأما المدرسون الذين تطلبونهم غير موجودين.
تيقنا أن هذه مشيئة الإدارة لا تزحزح، ولم يبق لنا ولن ينفعنا إلا أن نشمر عن ذراعينا ونتعاون فيما بيننا. فشكلت مجموعات صغيرة متكونة من ثلاثة – أربعة أنفار. وفيما يخص مجموعتي فكانت مشكلة أصلا منذ العام الفائت (حسن المالكي، رشيد الخضيري وأنا). كنا نتواعد يوم السبت والأحد في مقهى من مقاهي المدينة، ننكب على محتوى المواد لتذليل الصعوبات. كنا نقضي ساعات طوال في الجدال والنقاش، بل في بعض الأحيان يصل بنا الأمر إلى الخصام وخاصة عندما لا نتفق عن مسألة من المسائل. كان رشيد الخصيري ذا مزاج حاد وسريع الغضب إذا لم يفهم المسألة التي نحن بصدد نقاشها.
كانت هذه السنة أصعب السنوات التي قضيتها في مدينة الحسيمة، معاناة نفسية من خوف وقلق على مصير الدراسة، بل القلق كل القلق أن يخيب أمل والدي وخاصة الوالدة المريضة التي تنتظر ذلك اليوم لتشهد فيه حفلة تخرجي تتويجا لسنوات الجهد والاجتهاد. قلت علاقاتي مع أصدقائي الطلبة الأدباء بسبب انشغالي بتحضير مواد امتحان الباكلوريا. كنت فيما مضى أتردد على مجالس هؤلاء الزملاء الطلبة للاستماع إلى قص حكايات وروايات أدبية رائعة. أعترف أنني لم أكن استوعب كل ما كانوا يتحدثون به لأن بضاعتي في مجال الأدب كانت ضعيفة جدا. ولكن كنت أشعر بنفسي تتجاوب مع هذه الروائع الأدبية تنمي روحي وتتأثر بها. وكانت نفسي تحدثني أنه سيأتي يوم لأدرك فيه سر هذا النماء الروحي.
وبعد ما يقارب عشر سنوات، عندما هاجرت إلى بلاد هولندا تحققت نبوأتي، فانكببت على القراءة والبحث في مجال الأدب والفن، ونلت الخير الكثير من هذه القراءات المباركة. هي مباركة من حيث أنها فتحت لي آفاقا روحية جديدة، أو بكلمة أخرى، وجدت فيها حريتي كإنسان، أي توكيد لقيمتي باعتباري إنسانا. ومن يقرأ روائع الأدب الروسي الكلاسيكي مثلا قراءة متأنية يجد أن موضوعه الرئيسي هو روح الإنسان كما تصفه الكاتبة (فرجينيا وولف) في هذه العبارات:
“إن الروح هي الشخصية البارزة في النثر الفني الروسي، نراها عند (تشيكوف) ناعمة مهذبة، وعند (دستوفسكي) أعمق وأعظم، تميل إلى نوبات عارمة من العنف والغضب، ولكنها دائما مسيطرة… تنثر روايات (دستوفسكي) الأنواء والزوابع الرملية، ودفقات الماء المندفع في فقعات وقرقرة فتستحوذ علينا… إن قوامها الروح فحسب”.
والأدب الفرنسي يبرز أيضا هذا المثل الإنسانية النبيلة في شخصيات أدبية كشخصية “فانتين” و “جان فالجان”.
(مقتبس من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لبيكوفيتش).
(يتبع)