محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (35)

11 مايو 2024
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (35)

توشك السنة الدراسية على الانتهاء، وهذا يعني أننا على موعد مع امتحانات ستقرر مصيرنا الدراسي: النجاح واستئناف الدراسة الجامعية أو الرسوب وإعادة السنة من نقطة البداية.

خصصنا الشهور الأخيرة قبل الامتحانات للمراجعة وخاصة منها المواد الرئيسية. وأتذكر هذه الشهور الأخيرة كم كانت قلقة ومتوترة! كانت ثقيلة على النفس، الشعور بعدم الارتياح، والشعور بالخوف والترقب، والشعور بأن العقل في حالة تسارع متزايد أو في حالة تجمد وانحسار. بل البعض كان سريع الاستثارة والصراخ بسبب ضغوطات هذه الفترة الحاسمة.

ينتابني إحساس وكأن عقلي أصبح فارغا تماما من معلومات الجهد الذي بذلته لشهور. وهذه الحالة أقلقتني وأزعجتني إلى درجة الهلع. والواقع، والحالة هذه نحتاج إلى من يهدأ من روعنا وقلقنا وليس: استعد جيدا وراجع المواد كما كنا نسمع يقال لنا!.. وأتصور في هذه الفترة أن جل الطلبة كانوا يحتاجون إلى من يعيد لهم ثقتهم بالنفس ومواجهة أعراض القلق والمبالغة في الخوف… لم نجد من يرشدنا إلى تعديل أفكارنا واتجاهاتنا نحو القلق. كل هذا القلق والتوترات النفسية الحادة سببت لي متاعب صحية نفسية بعد اجتياز الدورة الأولى.

وبعد بضعة أيام أخبرت بأنني لم أوفق في هذه الدورة. كنت ساعتها جالسا على سطح المقهى مع الأصدقاء نحتسي القهوة ونتبادل أطراف الحديث. وكان بي حاجة ملحة لأخلو بنفسي للتأمل والتفكير في الحدث. وهذا هو شأني كلما أصابني مكروه أو منيت بفشل. استأذنت أصدقاء الجلسة ومشيت صوب جبل الغربان والأماكن التي كانت فيما مضى مرتع طفولتي، أفكر في أمر فشلي وأتساءل:

لما لا أوفق؟..

كنت أعلم أن بعض مواد الامتحان لم تمر بخير كمادة الفلسفة واللغات، إلا أن المواد الرئيسية لم أجد فيها صعوبة تذكر… مرت بسلام وبكل ثقة في النفس!

فأين الخلل ياترى!؟..

أعترف أن هذه التساؤلات أزعجتني أشد الإزعاج… أصبت على إثره بنوبة نفسية تشبه الانهيار العصبي.

لم تكن الوالدة حاضرة لتواسيني في مصيبتي وتقف بجانبي، وتشد من أزري وتمنحني القوة لروحي فأجدد الثقة بنفسي. شعرت هذه المرة أن مؤازرتها وحنانها ترك فراغا كبيرا في نفسي.  كان علي أن أنهي هذا الصراع النفسي وأتخلص منه حتى لا يكون سببا في فشل آخر في الدورة الثانية. لم يكن لدي الوقت الكافي لترميم ما لحق بي من معاناة نفسية جراء الدورة الأولى، لأن الفارق الزمني بين الدورتين شهر واحد.

ذهبت إلى الدورة الثانية بمعنويات ليست على ما يرام، لأن شبح الرسوب والفشل بقي يطاردني بحيث أضعف من ثقتي في النفس. عدت إلى القرية بعد اجتياز الدورة  أحمل  حظوظا ضعيفة للنجاح. سألني أفراد العائلة وبعض الأصدقاء عن أجواء الامتحان وأخبرتهم أن نفسي تحدثني بأن حظوظ النجاح تكاد تقترب من الصفر بالمائة!

الانتظار قطعة من العذاب -كما يقال- وخاصة إذا كان هذا الانتظار يهم تقرير المصير الدراسي. شهادة الباكلوريا هي تتويج لختم مرحلة التعليم الثانوي وهي الجسر الذي يوصل إلى سلك التعليم العالي بمختلف اتجاهاته. كانت أحلام عريضة تراودني لتحقيق هذا الهدف وإرضاء لوالدي اللذين سهرا معي  منذ أن كنت طفلا صغيرا في مرحلة التعليم الأساسي. أتذكر أن هذا الأمر أقلقني وأقض من مضجعي. كانت الوالدة – كما سبقت الاشارة – تنتظر اليوم الذي أصير فيه من أولئك الحاصلين على الدرجات العالية في سلم الدراسة.

لم أخبر الوالدة بنتيجة الدورة الأولى. طلبت من أفراد العائلة ومن الوالد أن نخفي عنها الخبر حتى يظهر خبر نتيجة الدورة الثانية لطفا وإشفاقا بها. بعد ما يقارب الأسبوعين – كما أتذكر – ظهرت النتائج. كنت يومها جالسا على سطح المقهى وجاءني أحد السادة يقول إن الأخ جمال الدين يطلبني حالا ليكلمني في دكانه.

وعند دخولي الدكان هنأني الأخ جمال الدين ومن كان معه. فسألت:

عمّ تهنأونني؟..

فقال الأخ جمال الدين:

أبشر يا سمحند (كما كان يناديني، بكسر وتشديد السين وضم الميم)، لقد أسعدك الحظ هذه المرة، نجحت في الإمتحان، هنيئا لك!

قلت: ومن أخبرك؟

من أتاك بالخبر من الحسيمة؟..

أجابني بقوله: السيد المسناوي، أبو أحمد المسناوي، وصل اللحظة من الحسيمة، فتأكدت أن الخبر خبر يقين، فتنفست الصعداء…

ما أسعدني اليوم… ما أسعدني!

ولكن السعادة لن تكتمل إن لم يوفق الصديق رشيد الخضري وحسن المالكي، رفقاء الدرب طيلة السنة الدراسية المتقلبة الأحداث، قاسينا وكابدنا من أجل انتزاع تلك الشهادة، شهادة إنهاء المرحلة الثانوية.

تساءلنا مع بداية السنة:

كيف يتسنى لنا أن نواجه مقرر هذه السنة ونفهمه بدون مدرسين أكفاء؟.. هذا السؤال كان يؤرقنا ويقلقنا أشد القلق!.. حاولنا مع الإدارة لإيجاد حل لهذه المعضلة، ولكن دون جدوى وعبثا نحاول!..

تواعدنا نحن الثلاثة على أن نواجه مصيرنا بأنفسنا وألا نعول كثيرا على المدرسين من الأصول البولونية والغير المتمكنين من اللغة الفرنسية. وفقنا في الدورة الثانية أنا وحسن المالكي، وأما رشيد الخضيري فلم يسعده الحظ للأسف! وهكذا ختمنا هذه المرحلة من مراحل مسارنا الدراسي ختاما مشرفا أسعد والدي غاية السعادة. لاحظت هذه السعادة تغمر وجه الوالدة عندما أخبرتها في مدينة طنجة. شعرت بسعادة ما بعد سعادة وراودتني أمال عريضة في تحقيق أمنية والدي: خريج معهد من معاهد الدراسات العليا لأصير إنسانا مشرفا، وأحقق مجدا ومكانة اجتماعية بين عشيرتي وقومي، وبالتالي أهتم بوالدتي المريضة وأعرض حالتها على أخص الإخصائيين. ولكن سرعان ما رفض ملف التسجيل في هذه المعاهد بمدينة الرباط بسبب تجاوز سني عن العشرين.

استغللت وجودي بمدينة الرباط فذهبت إلى مقر كلية العلوم التابعة لجامعة محمد الخامس طالبا التسجيل، فكان جواب موظف من وراء الشباك أن أذهب إلى جامعة محمد الأول بمدينة وجدة لأسجل اسمي فيها، لأن إقليم الحسيمة يحسب على الجهة الشرقية للمملكة. شعرت باستياء وقلق في نفسي وخيبة أمل لتلك الآمال العريضة التي راودتني في الماضي. لم يبق لي في مدينة الرباط  إلا أن أستقل القطار باتجاه مدينة وجدة الشرقية للتسجيل وأداء الرسومات الإدارية المستحقة وحجز غرفة للسكن في الحي الجامعي.

وصل القطار باكرا إلى مدينة وجدة. وبعد تناول وجبة الفطور، ركبت الحافلة المتجهة نحو مقر الجامعة الواقع خارج المدينة. بدت لي المنطقة المحيطة بالجامعة شبه صحراوية. لو يرق لي جو المنطقة منذ الوهلة الأولى، بل جو المدينة كلها لم يرق لي. بعد الانتهاء من إجراءات التسجيل أحببت أن ألقي نظرة عن المدينة والتعرف على شوارعها وأحيائها، ولكن لم أقدر بسبب الحرارة المفرطة التي تبلغ في فصل الصيف درجة عالية، تفوق الأربعين. بحثت عن ظل يقيني من شدة الحر إلى أن يحين المساء، وقت مغادرة القطار قاصدا مدينة طنجة هذه المرة. في المقهى التي كنت جالسا فوق سطحها المظل سمعت صوتا من بعيد يناديني: السي أزرقان… السي أزرقان… أنت جالس هنا أيضا… وعندما استدرت رأيت زملاء الدراسة جالسين يتناولون مشروبات غازية باردة لإرواء عطشتهم.

قضينا وقتا ممتعا معا نتحدث عن تقلبات السنة الدراسة التي ودعنها، وعن الجهد الذي علينا بذله للتغلب على الصعوبات التي تنتظرنا. وتحدثنا أيضا عن الطموح وآفاق متابعة الدراسة في الخارج بعد إنهاء الدراسة الجامعية أو قل الحصول على دبلوم سنة ثانية جامعي الذي يخول لنا متابعة الدراسة في إحدى المعاهد العليا في بلاد فرنسا.

كانت أحلامنا عريضة في الذهاب بعيدا في تحقيق الدرجات العالية في سلم الدراسة، إلا أن الواقع كان شيئا آخر… لم نتمكن من تحقيق هذه الآمال العريضة إلا القليل منا.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق