محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (37)

17 يونيو 2024
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (37)

انقضت العطلة الصيفية ولم يبق إلا أن أشد الرحال متجها صوب مدينة وجدة. نحن الآن في شهر شتنبر وطقس مدينة وجدة ما يزال حارا حرارة مفرطة. وجدت صعوبة في التكيف مع هذه الحرارة التي تبلغ درجتها الأربعين. لم ترقني أجواء هذه المدينة منذ البداية وأحسب أن جوها المتقلب ساهم في الفشل الذي منيت به لاحقا في مساري الدراسي. مدينة وجدة طقسها مختلف كل الاختلاف عن الطقس المتوسطي المعتدل لمدينة الحسيمة. في فصل الصيف حرارة مرتفعة إلى درجة أنني أفقد الاتزان في السلوك وبالتالي عدم القدرة على الدراسة والاستيعاب والتركيز.

وفي فصل الشتاء أصاب بالإكتئاب بسبب حدوث تغيرات وتقلبات المناخ: عواصف هوجاء تهب دون انقطاع لأيام متتالية تصحبها أمطار غزيرة وثلوج وسيول. كل هذا كان يشل حركة حياتي ويصيبها بالتجمد أضطر معها بعض الأحيان إلى عرض حالتي على طبيب مختص، فينصحني مما كان ينصحني، مزاولة التمارين الرياضية وتناول حبوب الفيتامينات.

تقع الجامعة خارج المدينة، في منطقة شبه صحراوية، وهي حديثة النشأة. الحي الجامعي يتكون من عدة عمارات، كل عمارة بستة طوابق، كل طابق يحتوى على عشرات من الغرف، كل غرفة تتسع لستة أنفار بأسرة بطابقين ودولاب للثياب والجمع لكل نفر، وطاولة ثابتة على الجدار تتسع لنفرين للمذاكرة وإنجاز العمل الدراسي.

والواقع كنت أشعر في هذه الغرقة بضيق نفسي ينضاف إلى مشكلة مرض الربو واكتئاب تغيرات المناخ، فاستعصى علي التكيف في هذا الوسط الضيق. وفي الغرفة إذا أراد الطالب المجاور لي النوم فيكون من الصعب إنجاز ما علي إنجازه من الواجب الدراسي. وهذه مشكلة من المشاكل المستعصية التي كانت تجابهنا في حياتنا الدراسية في هذا الحي.

والإنسان يستغرب حقا أن هذا الحي الكبير الذي يتسع لآلاف من الطلبة المقيمين، لم يتوفر على قاعة واحدة خاصة للقراءة والمطالعة وإنجاز العمل الدراسي، يجد فيها الطالب أجواء الهدوء والسكينة لاستيعاب ما يقرأ وينجز من أعمال.

وأما المحاضرات التي تلقى على مدرجات الكلية، فكانت أغلبيتها دون المستوى، ومدرسوها غير أكفاء. أتذكر أن المدرج الذي نتلقى فيه محاضرات السنوات الأولى كان يتسع لمئات الطلبة. وإذا لم يسعدك الحظ بالجلوس في مقعد من المقاعد المجاورة لمنصة المحاضر، فكن على يقين أنك لن تسمع شيئا مما يقوله المحاضر لأن جودة أداة السمع (الميكرفون) رديئة جدا، بالإضافة إلى ذلك أن بعض المحاضرين كانوا يتلعثمون أو يتمتمون كما هو الشأن مع محاضر مادة الجبر.

وأما ما يكتب من شروح وتفسير للمادة على سبورة صغيرة الحجم ليس في استطاعة كل الطلبة رؤية وفك كل ما يكتب عليها من معادلات وصيغ جبرية للظواهر الفيزيائية المعقدة بسبب رداءة الخط لبعض المحاضرين. وهل يعقل أن مدرجا مثل هذا المدرج يتسع لخمس أو ست مائة نفر يدار بوسائل سمعية وبصرية عتيقة أكل عليها الدهر وشرب!!!

قدمت شكوى تلو شكوى لأيجاد حل ما للمعضلة… ولكن أنى للإدارة أن تستجيب، صم بكم عمي فهم لا يفقهون!..

وكما هو معلوم فإن مقرر شعبة الفيزياء المعمول به في كليات العلوم عالميا عبارة عن مجموعة تجارب معملية تتناول جملة من المحاور، منها: الاهتزازات والموجات، الديناميكا الحرارية الكهربية، الحرارة وغيرها من مكونات المقرر الذي صُمّم لتزويد الطالب بأساسيات الفيزياء المعملية العامة ومهاراتها، بما يمكنه من التعامل بنجاح مع الأجهزة والمعدات الخاصة بهذه التجارب… وكما يزود هذا المقرر الطالب بمهارة ربط الحقائق الفيزيائية بالحياة، وفهم الظواهر الفيزيائية المبهمة، وتحليلها.

ويركز المقرر على إكساب الطالب مهارات كتابة التقارير العلمية، كما يسهم في تعزيز قدرة الطالب في الحكم على البيانات والنتائج، كما يُقدَّم المقرر من خلال مواقف فردية وجماعية تركز على نشاط الطالب، ومشاركته الفعالة في كافة جوانب العملية التعليمية، ويُقيّم أداء الطالب من خلال اختبارات عملية واختبارات قصيرة، وكتابة التقارير العلمية.

كليتنا العتيدة التي كنا نتابع فيها الدراسة بوجدة، كانت لا تستجيب لهذا الوصف المعمول به في جامعة أمستردام مثلا التي كنت أتابع فيها الدراسة. أسرار الظواهر الفيزيائية لا يمكن فكها بالمحاضرات النظرية والأعمال الموجهة فقط. بل إجراء عمليات تطبيقية وتجريبية في المعمل ضروري وبمعدات وأجهزة كافية للوقوف على الحقائق العلمية وتفسير الظواهر الطبيعية.

مرت ما يقارب الأربعة أشهر من السنة الدراسية وإجازة أعياد الميلاد على الأبواب. وهذا يعني زيارة الأهل وبلدة النشأة لأستنشق هواءها العذب وأستمتع بأجوائها وأستعيد الذكريات عل وطأة أجواء مدينة وجدة الكئيبة تخفف عني.

وبحلول السنة الجديدة كان الأخوان جمال الدين وشعيب قد استقرا وسكنا في البيوت الجديدة بقرية بني حذيفة. بنيت بتصاميم عصرية وتقنيات حديثة مزودة بالتيار الكهربائي والماء لإنهاء معاناة قطع مسافات طويلة وشاقة لجلب الماء.

وفي هذه السنة حدث أيضا أن مشروع الأخ جمال الدين التجاري كان قد بدأ يتوسع وينمو، فطلب من زوج الأخت ارحيموا أن يعمل معه ويشاركه المشروع، ولاحقا رحل من قرية تارجيست ليستقر بصفة نهائية بقرية بني حذيفة.

كان الأخ جمال الدين موهوب بمهنة التجارة، يعرف خباياها ويحسن إدارتها حتى صار من التجار الناجحين في القرية. وهذا طبعا بمساعدة زوج الأخت الذي تولى أمر تسيير الشاحنات بحكم تجاربه في هذا الميدان منذ أن كان في سن دون العشرين. ولكن هذا الرفاه التجاري لم يستمر للأسف، فانهار المشروع عن آخره وخسرا كل الأملاك والأرباح التي كسباها بالجد والعمل المتواصل. وهذا الخسران هما المسؤولان عليه لا أحد غيرهما ولا يلومان إلا أنفسهما.

تبعد القرية عن البيت الذي ولدت فيه بمسافة تقدر بميل واحد، يفصلهما جبل يسمى بجبل الغربان. لكم قطعت هذه المسافة في صباي ذهابا وإيابا إلى المدرسة. برحيل الأخوين (جمال الدين وشعيب) يكون البيت قد هجر تماما وطويت صفحة من تاريخ عائلة موح طاهر أزرقان بأفراحها وأتراحها. ومنذ ذلك الحين لم يهتم به أحد من الإخوة ولا فكر أحد في ترميمه، وحتى الوالد لم يأخذ مبادرة ترميمه رغم أنه وعد بذلك أكثر من مرة.

صار البيت في طيات النسيان وتحول بفعل الزمن إلى خراب ولم يبق منه إلا الأطلال. وبقيت أنا أسكب الدموع على أطلاله، مثلي في ذلك كمثل الشاعر الألماني (غوته) الذي أنشد يقول:

دعوني أبكي ، يحوطني الليل

في الصحراء الشاسعة.

الجمال راقدة، الرعاة كذلك راقدون،

والأرمني سهران يحسب في هدوء.

أما أنا فأرقد إلى جواره، وأعد الأميال

التي تفصلني عن زليخا، وأتفكر باستمرار

في الدروب الملتوية المزعجة التي تطيل الطريق.

دعوني أبكي، فليس هذا عارا.

الرجال الذين يبكون طيبون

لقد بكى أخيل حبيبته بريزيس

والإسكندر بكي رفيق عمره الذي قتله بنفسه

دعوني أبكي. إن الدموع تحيي التراب،

وها هو ذا يخضر.

هذه الأبيات للشاعر (غوته) مقتبسة من ديوانه الشرقي الذي كتبه متأثرا بشعراء المعلقات. ويبدو من الأبيات أن شاعرنا يعاني فراق الحبيبة والأحبة. والعاطفة الغالبة هي الرغبة في إطلاق الدموع دون حاجة إلى خجل أو تبرير. إنها التجربة الخالدة للشاعر الكبير (غوته) نجدها تعيد نفسها في كثير من قصائده وكتاباته الرومانسية، تجربة فراق الأحباب والبكاء عليهم، وليس هذا بالشيء القليل.

وكذلك تجربتي مع هجرة البلد والأحبة والبيت الذي شهد مولدي. أذرف الدموع كلما تذكرت هذا الماضي المجيد وتذكرت الأماكن التي كانت مرتع صباي.

لست مولعا بقراءة الشعر أو نظمه، مع أنني أجد روحي تتألق وترقص لقراءة القصائد، موضوعها استعادة الماضي والذكريات أو وصف منظر من مناظر الحياة أو وضع من أوضاع الإنسانية.

يصدر الشعر عن إلهام روحاني للإنسان لا يمكن أن تختزله في سلوك معين. إنه نشاط إبداعي داخلي، محتواه النهائي والأصيل الإلهام والرغبة والنية أو في كلمة واحدة مختصرة (الحرية)، حرية الروح. والروح لا تحتمل القيود والقوالب. إبداعاتها تختلف من إنسان إلى آخر.

يقول الفيلسوف (بكوفيتش) في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب:”حتى الأعمال التي يمكن بحكم طبيعتها أن تتكرر (كالموسيقى)، فإنها تتجدد خلال شخصية الفنان الذي يقوم بعزفها. يقول (أرثر روبنشتين)، إنه برغم قيامه بعزف سمفونية (بيتهوفن) الرابعة عدة مرات، فإنه لم يعزفها أبدا بالطريقة نفسها في كل مرة. وقد كرس (ماير هولد) مسرحه لعرض مسرحية (هاملت) فقط. وفي كل مرة يأتي مخرج جديد فيجعل منها مسرحية جديدة. وهذا ممكن، لأن الفن ليس في العمل، إنما في الحياة الجوانية الشخصية للفنان، وهذه الشخصية حرية خالصة. والنتيجة: أن يمارس الفنان والمشاهد معا العمل الفني بطريقة جديدة”.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق