
توشك السنة على الانتهاء وامتحانات الدورة الأولى على الأبواب. ولكن أي امتحانات هذه التي ستجرى عما قريب!..لم أستوعب المادة استيعابا يمكنني اجتياز الامتحانات اجتيازا وافيا! وهذا يعني الفشل المحتوم!.. عاودني ذلك الشعور القديم حينما منيت بالفشل في دراستي الابتدائية بسبب معاناة إعاقة قدمي اليمنى، بل الشعور الذي كان يقض من مضجعي هو خيبة أمل والدي!
اجتزنا امتحانات الدورة الأولى ولم أفلح إلا في مادة واحدة وهي مادة الرياضيات. حزمت حقيبتي واستقلت الحافلة المتجهة نحو بني حذيفة. كان الجو جوا ساخنا والناس منهمكين في جمع المحصول الزراعي ونقله بواسطة الدواب إلى البيدر ريثما يحين الوقت لتدريسه. طلبتني الوالدة من مدينة طنجة لأقضي معها بعض الوقت ولكن اعتذرت لها بتأجيل الزيارة إلى ما بعد إجراء الدورة الثانية بداية شهر يوليوز.
قررت في هذه الأسابيع بأن أخضع نفسي لنظام صارم، أهيأ وأستعيد فيها ما ضاع مني من استعاب حصص المواد. بعد تناول طعام العشاء أخرج للاسترواح مع الأصدقاء، تارة على سطح المقهى، وتارة مشيا على الأقدام إلى غاية منتصف الليل.
أعود بعد ذلك إلى البيت لأبدأ في المذاكرة والدراسة. أبحث عن الحلول لمعادلات معقدة تصف الظواهر الكهربائية والمغناطيسية والفيزياء الحرارية إلى غاية إعلان صلاة الفجر. أصلي الفجر في المسجد القريب من البيت ملتمسا من الرب الكريم أن يمنحني القوة والثبات في اجتياز هذه الامتحانات اجتيازا سليما. بعد ذلك أرجع إلى البيت لأخلد إلى النوم ولا أستيقظ إلا والوقت متأخر.
جاء موعد السفر فسافرت ليلا كعادتي، مستقلا الحافلة القادمة من مدينة طنجة. وصلت مدينة وجدة وقواي منهكة بوعثاء السفر. أخلدت إلى الراحة إلى ما بعد منتصف النهار. موعدنا مع الامتحانات بعد يومين كما أتذكر وقررت ألا أفتح كتابا، أذهب إلى المدينة للهو والتسلية، أتغذى في مطعم الموسم وأتناول القهوة في مقهى من المقاهي ذات الوجهة الفاخرة على شارع محمد الخامس.
جاء اليوم الموعود واجتزنا امتحان مادة الفيزياء لمدة أربع ساعات كاملة واليوم الثاني مادة الكيمياء لثلاث ساعات. دخلت قاعة الامتحانات ومعنوياتي مرتفعة وإيجابية، تختلف عن تلك المعنويات للدورة الأولى. وبعد الانتهاء حدثني قلبي أن حظوظ النجاح كبيرة. شعرت براحة وانفراج في نفسي وأنا أنتظر إعلان نتائج على أمل الفوز والسفر إلى مدينة طنجة، أحمل البشرى للوالدة والوالد اللذين كانا ينتظران قدومي عليهما.
كنت أتعمد الذهاب إلى المدينة قبل ظهور النتائج للجلوس في المقهى والتسكع في الأسواق وأزقة المدينة، ولا أعود إلى الحي الجامعي إلا والوقت متأخر، وهذا كله نسيانا وتخفيفا من عذبات انتظار النتائج. وبعد أيام أعلنت الادارة أسماء الفائزين، ولكن اسمي لم يكن من بين الفائزين!..
شعرت بدوران في رأسي!..
يا إلهي!..
ما سبب هذا الفشل!..
كان لدي أمل بالنجاح!..
كانت كل كلمة… كل جملة تخطر على بالي أتلفظ بها كالمجنون.
التقيت بأحد السادة أعرفه وأنا في طريقي عائدا إلى الحي مكسور الارادة، مشوش الأفكار، متجهم الوجه… وعندما رآني على هذه الحالة قال لي كلامات قليلات ولم يزد عليهن، لن أنساها أبدا، بقيت محفورة في ذهني كأنها قيلت لي يوم البارحة.
قال لي السيد: لا تحزن يا أخي!.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا!..
انتبه لنفسك ثم ودعني فذهب!!
منحت لي هذه الكلمات القليلات سلاما لروحي، هدأت من روعي وأعادت لي رشدي. شعرت بالضيق ولم أتحمل البقاء في هذه المدينة، مناخها وطقسها متقلب من حرارة مفرطة في الصيف وبرودة مرتفعة في فصل الشتاء يصحبها رياح هوجاء لا تفتر لأيام عدة.
حزمت حقيبتي فسافرت بالليل متجها نحو مدينة الناظور. ومن الناظور استأنفت السفر في حافلة خط الناظور – تطوان التي تمر عبر الحسيمة ثم قرية بني حذيفة.
نزلت من الحافلة قبل دخولها القرية تحاشيا لعيون الأصدقاء والمعارف وأسئلتهم. دخلت البيت ولم يرني أحد فنمت نوما عميقا ولم أنتبه إلا ومكبر الصوت يعلن لصلاة المغرب.
دخلت على أفراد الأسرة المجتمعين على مائدة الطعام، فبدأني أحدهم بالكلام بقوله:
ها أنت عدت ولم تشعرنا بعودتك!.. ما الذي حصل لك؟..
قلت: كنت مرهقا ومتعبا بمشقة السفر بالليل فغلبني النوم عندما دخلت البيت من باب الخلفية ثم نمت على طول. هذا كل ما في الأمر، وأعرف أنكم تريدون أن أخبركم بالنتيجة، ثم سكت…
قال زوج الأخت: هيا تكلم، هل فقدت لسانك!..
قلت: النتيجة سلبية… ولا… ولا أدري ما سبب ذلك!..
نظر بعضهم إلى البعض فساد الصمت…
قال الأخ جمال الدين مقاطعا هذا الصمت ومقهقها: لا تشغل بالك ودع عنك هذه الجامعة الصاخبة، فسوف نسند لك مهمة إدارة الدكان.
لم يسرني كلامه وقهقهته… لبثت قرابة دقيقة أنظر إليه صامتا أتأمل كلامه… ستبقى هذه الدقيقة أتذكرها طوال حياتي.
قلت له: ماهذا الكلام… أترك الجامعة وتسند إلي مهمة إدارة الدكان… عن أي دكان تتحدث؟..
قال: أقصد من كلامي أن تجلس وراء المنضدة تستقبل الزبناء وأنا أتولى تدبير شؤون الإيراد والتصدير.
قلت: أنا لم أخلق لهذه المهمة…
صدرت منه قهقهة أخرى خبيثة لا تسر السامع…
قلت له بحركة عنيفة: كفاك هذرا واستخفافا بي… دعني وشأني.
قال فجأة ومستدركا وقد تقلص وجهه وتقبض:
لا… أنا لا أريد أن أكون سببا في ألمك… وإنما… وإنما…
قلت: وإنما ماذا؟
قال: إنما قصدت فقط مساعدتك وإنقاذك من هذه الحالة البئيسة.
قلت: لم أطلب مساعدتك وإنقاذك لي.
تدخلت الأخت ارحيموا بامتعاض وقالت بغضب:
لم تكلمه بهذا الكلام!.. والداه بذلا في سبيل دراسته الغالي والنفيس وهما ينتظران اليوم الذي يصير فيه مهندسا أو محاميا كبيرا يحسب له الحساب، وأنت تتمنى أن ينهي دراسته ليتولى لك أمر الدكان!.. أصمت بربك وضع حدا لهذا الكلام، فوالداه ينتظران قدومه ليقضي معهما أيام عطلته ويسعد وينعم بقربهما، وأما رسوبه في الامتحانات فهو أمر طبيعي، لا ضير في ذلك… وإذا لم يوفق في هذه المرة، فسيوفق في المرة القادمة بإذن الله.
أوردت هذا الحدث هنا بتفاصيله لأنه بقي محفورا في ذاكرتي، وقد سبب لي آلاما نفسية قاسية، ليس من السهل نسيانها.
وعلى إثر هذه الأحداث المتلاحقة شعرت بثورة بداخل نفسي لا تتصور. كانت أسئلة كثيرة تلاحقني وتستفز عقلي مثل: ما الذي يجعل الإنسان أن يكون سببا في آلام الآخرين ويتلذذ بها؟! فالإنسان الذي يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة يكبر في أعين الناس ويشيرون إليه بالبنان، وأما الذي لا يسعفه الحظ فيفشل ويسقط ينظرون إليه بعين الاحتقار…
ما الذي يجعل هذا رفيع الشأن عند قومه وذاك حقير الشأن؟!
أليس هو المجتمع الذي يتحمل المسؤولية الكبيرة في هذا الأمر الخطير؟!
وأسئلة أخرى كثيرة كانت تقلقني وتلح علي بالإجابة…
ولكن هيهات… من أين لي بالإجابة عليها وبضاعتي في هذا المجال كانت قليلة، بل تكاد تنعدم!
وأنا على يقين أن البحث الذي واعدت به نفسي في السنوات اللاحقة وخاصة في المهجر تعود جذور أسبابها إلى هذه الأسئلة المستفزة لعقلي.
كانت ثورة فكرية تغييرية تلوح لي في الأفق البعيد وشاءت إرادة الله أن تعانق روحي هذا الانتقال النفسي الفكري في سنوات المهجر ببلاد الأراضي المنخفضة، وما زلت أشتغل عليه إلى غاية كتابة هذه الأسطر، وسأبقى على العهد الذي عاهدت به نفسي بأن أسلك سبيل هذا الطريق لا أحيد عنه إلى أن تسلم الروح إلى بارئها.
إن المجتمع الذي نشأت فيه مجتمع مثبط ومدمر للذات، يتشبث بتقاليد بالية عفنة. طبيعة الإنسان طبيعة خيرة، لكن المجتمع هو الذي يفسدها، كذلك أفكاره وأراؤه الفردية التي ينبغي أن يؤصلها في نفسه ليتمكن من إثبات ذاته وقدرته على المشاركة في ترقية ونهضة الإنسان.
كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. فالحديث يشير هنا إشارة واضحة إلى هذه المعضلة الاجتماعية بجانبيها الروحي والزمني. والمجتمع مجتمعين، مجتمع متنور العقل يوفر ضمانات لأفراده، ومجتمع بالي التقاليد متخم بأعراف وعادات يقتل الروح في الانسان.
فكرت قبل سفري إلى مدينة طنجة في قضاء بعض الأيام بين أحضان الطبيعة لأستعيد ذكرى أيام الطفولة عندما كنت أذهب إلى الأماكن التي حباها الله بأشجار التين والعنب والوديان التي يغمرها الماء المنحدر من سفوح الجبال.
كنت في أمس الحاجة إلى تجدير لنفسي بسبب أحداث الدراسة الجامعية، وكنت أعلم أن هذه الأماكن تعيد لي صوابي وتشفيني من قلقي.
وعندما أصل إلى المكان مع شروق الشمس، وأقف أتأمل ما حولي وأنظر إلى الأفق البعيد اللانهائي ينتابني شعور داخلي لا يتصور!..
إنه لشيء فريد يعجز اللسان عن وصفه!..
أتأمل من أعلى الرابية هذا الوادي الجميل، فما أكثر ما شعرت بانجذابي إلى جميع هذه النواحي!..
ها هنا الغابة الصغيرة…
آه! ليتني أستطيع أن أدلف إلى ظلها!…
وهناك ذروة الجبل…
ليتني أستطيع من هنا أن أعانق ذلك الامتداد الرحب!..
وتلك الروابي المتسلسلة بعضها من بعض، وتلك الوديان الصغيرة الهادئة…
كنت أطير بروح إليها وأعود دون أعثر على ما أبحث عنه. مثل البعد كمثل المستقبل: أفق عريض، ملفوف بالأسرار، يستقر أمام روحنا، يضل فيه الشعور مثلما يغيب البصر، ونحن نشتاق إلى أن نمنح حياتنا كلها لنمتلىء بجميع ملذات الشعور الوحيد والعظيم والفخم. نحن نركض ونطير…
لكن واأسفاه! إذا بلغنا ما كنا نصبو إليه، وإذا صار البعيد قريبا، رأينا كل شيء على حاله، ووجدنا أنفسنا فيما كانت فيه من شقاء ومن حدود ضيقة، ومن جديد تتوق أنفسنا إلى السعادة التي أفلتت منها.
هكذا كان شعوري وأنا أتنقل بين روابي وهضاب هذه الأماكن التي شهدت مرتاع صباي ومنتزهات طفولتي.
(يتبع)