محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (4)

16 مايو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (4)

عندما أتأمل في الروايات التي رويت لي في هذا الشأن وأنا أخط هذه السطور، أجد أنني كنت حقا ضحية لثقافة العين والأرواح الشريرة. أصرت الوالدة على أن السبب الوحيد لإعاقتي هو عين الناس والجن، مع أن الأمر لم يكن يصل إلى ما وصل إليه لو عرضت مشكلتي على طبيب مختص. ولكن كان قدري المحتوم أن يتولى مصيري نساء جاهلات لا يفهمن شيئا في التدليك. التدليك له قواعد تؤسس على المعرفة، يقوم به صاحب اختصاص وعلم.

وفي سن الثالثة أو الرابعة عشر – كما أتذكر – عرضت حالتي على طبيب مختص في جراحة العظام، فوجد أن عظم القدم انكمش بسبب كثرة الضغط الذي مورس عليه وهو في طور النمو. كان من الممكن جدا أن يعالج قدمي لو تولى أمري أهل اختصاص. أما في سن الثالثة عشر فمعالجته ليست أمرا هينا: إجراء عملية جراحية معقدة تشمل عظم القدم والساق، احتمال نجاحها ضعيف برأي الطبيب الذي استشاره الوالد.

دخلت المدرسة في سن السادسة من عمري. المسافة التي تربط البيت بالمدرسة تقدر بكلومترين. كنت أقطعها خمسة أيام في الأسبوع ذهابا وإيابا أعرج على قدمي اليمنى. وجدت صعوبة الاندماج في البيئة المدرسية. نجلس ساعات طوال على مقاعد خشبية غير مريحة في قاعة تضم أكثر من ثلاثين طفلا، وأمامنا مدرس يمسك بقضيب طويل يشير به إلى الحروف الهجائية المرسومة على السبورة. لم أكن أفهم ما يقوله هذا المدرس الناطق باللهجة العربية المغربية. لغة الأم هي اللهجة الأمازيغية ولم يسبق لي أن سمعت أو نطقت بالعربية.  وكان يشق علي فهم ما يقوله المدرس وما يطلبه مني.

السنوات الأولى من مساري الدراسي كانت سنوات عذاب نفسي ونفور من المدرسة، إضافة إلى سخرية واستخفاف التلاميذ بي والتهكم علي بسبب إعاقتي.

هذه التجربة السيئة جعلتني أكره المدرسة وأرفض الذهاب إليها، فكلم الوالد إدارة المدرسة  لإيجاد حل لمشكلتي، وتعمل على تأديب من يسبب لي معاناة نفسية، ولكن عبثا.  فلقد باءت كل محاولات الإدارة بالفشل.

لم أعد أحب أن أسمع شيئا يسمى مدرسة. كنت أختلق كل الأعذار الممكنة لأعفى من الذهاب إلىها. مرت السنة الدراسية الأولى بين الحضور والغياب، والنتيجة هي الرسوب في جميع الاختبارات، فأعدت السنة الدراسية الأولى من حيث بدأت.

رأى الوالد أن سياسة الترهيب والترغيب لا تجدي معي في شيء، عندما أخبر بأن نتائج السنة الدراسة الثانية التي حصلت عليها لا تؤهلني للانتقال إلى السنة التالية. لم يستطع الوالد أن يتحمل الفشل والرسوب الذي منيت به في السنتين الأولى والثانية. لجأ إلى الصرامة ولا أعذار من اليوم! علي بالذهاب إلى المدرسة والمواظبة على متابعة الدروس وكفى! ولذلك كلف الأخت لتصحبني إلى المدرسة في الذهاب والإياب.

خضعت لنظام صارم في متابعة الدروس خمسة أيام في الأسبوع، لأن الوالد والوالدة كانا يريان أن لا حل لي إلا الاجتهاد والتفوق في دراستي بحكم إعاقة قدمي، والتي لا يمكن معها أن أمتهن المهن التي تتطلب جهدا جسديا كما حصل مع الأخت ارحيمو والأخ شعيب وجمال الدين الذين يكبرونني سنا. الأخت ارحيمو لم تُنه مرحلة التعليم الأساسي، فتولت مهمة تربية المواشي ومهمات أخرى داخل وخارج البيت. الأخ شعيب لم يُنه هو أيضا مرحلة التعليم الأساسي، فامتهن فلاحة وزراعة الأرض. وأما جمال الدين فقد أنهى مرحلة التعليم الأساسي، ولكن لم يستمر في مساره الدراسي. اتجه إلى التجارة التي كانت تستهويه وتحفزه بحيث أدرّت عليه أرباحا لا يستهان بها.

هذه التجربة السيئة جعلتني أكره المدرسة وأرفض الذهاب إليها، فكلم الوالد إدارة المدرسة  لإيجاد حل لمشكلتي، وتعمل على تأديب من يسبب لي معاناة نفسية، ولكن عبثا.

وخلافا لوضعيتي، كان الوالد يرى أن حالي لا ينصلح إلا بمتابعة دروسي متابعة جدية لا تسويف ولا تأجيل فيها، ويوصيني بقوله: أريد أن أراك متفوقا في دراستك وتذهب فيها بعيدا، وبالتالي تحصل على درجة عالية لتأمن بها مستقبلك.

لم نكن نرى الوالد بيننا في البيت إلا في أوقات محدودة، عندما تمنح له إجازة زيارة العائلة، بحكم عمله في الجيش. وفي زيارته لنا كان يحرص كل الحرص على معرفة أحوال المدرسة ويحثني على الاهتمام  بدروسي وأجتهد من أجل الحصول على نتائج مشرفة ومتفوقة، وأن آخذ الأمر بجدية، وألا أشغل بالي إلا بمستقبل دراستي. وإذا احتجت إلى نقود أو إلى ملبس أو كتب، فما علي إلا أن أطلب، فطلبي منفذ في الحال.

وهذا الجميل أقدره للوالد وأقدر كفاحه وجهاده من أجل مستقبل أبنائه. وقد عمل في صفوف الجيش الإسباني وبعد الاستقلال استمر في عمله في صفوف الجيش الملكي مدة تقارب خمسة عقود. شهد الحرب الأهلية في اسبانيا وأصيب بجروح خطيرة في ساقيه، كادت أن تودي بحياته. وعندما أتيحت لي فرصة زيارة الأهل في بلد المغرب في شهر مارس عام 2000م، بعد خمس عشرة سنة متتالية قضيتها في هولندا، وجدته رجلا آخر، نحيفا، ضعيفا، أنهكه المرض، فتساءلت: هل هذا هو الرجل الذي كنت أعرفه ببنيته الجسدية القوية، وصاحب الشكيمة والعزيمة التي لا تعرف التراجع والانكسار؟!

حقا لم أصدق عيناي!.. وحزنت لحاله إلى درجة البكاء، وهو بدوره لم يتذكر أنني ابنه!.. سأل زوجته: من هذا الرجل الذي دخل علينا في هذا الوقت المتأخر من الليل؟

 لم يعد يسمع ويتعرف على الناس بسهولة. أدركت حينها أن الوالد صار من الذين يردون إلى أرذل العمر- كما يخبرنا كتاب القرآن. إن هذا الموقف قد أفهمني معنى الآية ومقصدها، فالواقع هو خير من يفسر النصوص.

وفي زيارتي الثانية في فصل الصيف لعام 2000م، وجدته طريح الفراش لا يستطيع الحركة، زاد ضعف سمعه إلى درجة أنه لم يعد يسمع إلا بصعوبة كبيرة. حرصت في هذه الزيارة أن أكون بجانبه،  نتحدث عن ذكريات الماضي وذكريات إقامتي في هولندا. كان يشعر بالاغتراب والوحدة، فيقول: تفرق الأبناء وشغلتهم الدنيا عني، وحتى أنت أطلت الغياب في تلك البلاد البعيدة، ولم أعد أراك وأتحدث إليك، والأمر كما ترى، وحيدا في هذه الغرفة، أقضي فيه الأيام الأخيرة من حياتي…

ادع لي بالرحمة والمغفرة ولا تنسى والدتك بالدعاء، وقد ذكرت اسمك وأثنت عليك بخير في لحظاتها الأخيرة قبل أن تسلم الروح إلى بارئها.

ما أغرب تصاريف الزمن!…

إنه تكرار الموقف، نفس الكلمات ونفس العبارات، وهي مؤثرة غاية التأثير، سمعتها من الوالدة سابقا عبر الشريط السمعي الأخير الذي راسلتني به قبل انقضاء نحبها.

لم يعش الوالد إلا بضعة شهور بعد زيارتي هاته في الصيف، ليصلني خبر وفاته ويسدل الستار عن مشهد حياته، وهو الآن يرقد في مقبرة المجاهدين بمدينة طنجة، تبعد ليس بقليل عن المقبرة التي ترقد فيها الوالدة. تمنيت لو أنهما دفنا في نفس المقبرة.

واضبت على متابعة الدراسة خمسة أيام في الأسبوع دون تسويف أو تأجيل، لأن الوالد والوالدة كانا ينتظران مني بذل الجهد للحصول على نتائج حسنة ومتفوقة. وكان الأخ جمال الدين لا زال يتابع دروس الصف الأخير من التعليم الأساسي، نذهب معا إلى المدرسة باكرا ونعود مع نهاية النهار.

مرت السنة الدراسية الثالثة (الابتدائي الثاني) بسلام لأنتقل إلى السنة الرابعة (المتوسط الأول). كان العرض التعليمي للصف الثالث (الابتداء الثاني) يتكون من مادة اللغة العربية والحساب واللغة الفرنسية. اللغة الفرنسية بالنسبة لي هي اللغة الأجنية الثانية بعد اللغة العربية بحكم الأمازيغية كلغة الأم.

والمتأمل في مثل هذا العرض والمجموعة المستهدفة التي تتلقاه، يجد – دون شك – أنه ليس من العقل ولا المنطق أن تدرج لغة ثانية أجنبية ضمن مقرر الصف الثالث (الابتدائي الثاني)!

وكان من الواجب على صانعي القرار في وزارة التعليم أن يكتفوا بإدراج لغة واحدة كلغة التدريس ضمن مقررات مرحلة التعليم الأساسي. والنظريات التربية تؤكد على أن التدريس بلغة الأم في مرحلة التعليم الأساسي في غاية الأهمية في اكتساب القدرات العلمية والأدبية. وأنا نفسي كانت اللغة العربية في هذه المرحلة، تتطلب مني جهدا مضاعفا لفهم قواعد أصولها، وما بالك بلغة أجنبية ثانية!

وما يأسف له المرء هو أن الأجيال لم تتمكن لا من اللغة العربية ولا من الفرنسية، لأن لا المنظومة التربوية ولا تكوين المدرسين كانا في مستوى المطلوب لتحقيق الهدف المنشود.

والمغامرون، واضعو المناهج التربوية في وزارة التعليم، عندما أقدموا على إدراج اللغة الفرنسية ضمن المناهج التعليمية الابتدائية، كانوا لا يهمهم المستوى التعليمي للأجيال وكسب القدرات المعرفية، بل همهم الوحيد هو تنفيذ ما خططه لهم المستعمر الفرنسي.

فرض علينا هؤلاء الفرنكوفونيون عرضا تعليميا ملفقا معقدا غريبا، لا صلة له بالعالم الذي نحيا فيه. نصوص كتب اللغة الفرنسية المقررة تتناول مواضيع جرت أحداثها في بيئة تختلف كل الاختلاف عن البيئة التي عشنا ونشأنا فيها.

النصوص التي تتناولها الكتب المقررة للصف الثالث والرابع والخامس، تتحدث عن نفسية الطفل الفرنسي الذي نشأ في مجتمع مختلف عن مجتمعنا، همومه مختلفة عن همومنا. فمثل هذه المقررات لا يمكن لها أن تنمي القدرات العقلية والنفسية للناشئة، بل تخلق لهم شكوكا وعدم الثقة بالنفس وازدواج الشخصية.

وهذه البرامج التعليمية الملفقة أنتجت جيلا تائها ضائعا، لا يعرف ذاته ولا يدرك مصيره وما يراد به. ولا زال – للأسف – صانعو برامج التعليم في الوزارات المتعاقبة في بلد المغرب المنكوب، يتمادون ويصرون على وضع البرامج التربوية الملفقة.

لم يستقر لي الحال على متابعة الدروس إلا في الصف الثالث من المرحلة ابتدائية، إلا أن الصعوبات التي كانت تجابهني تحد من قوى نشاطي ورغبة متابعة الدروس متابعة تفضي إلى نتائج متفوقة ترضي الوالدين.

ولهذه الصعوبات أسباب متعددة، منها:

– صعوبة استعاب العرض التعليمي الذي لم يكن مشوقا ولا جذابا.

– عقلية المدرسين، عقلية عنيفة، يلجأون إلى العنف والضرب والسلطوية. ولكأن عملية إعطاء الدرس لا تستقيم إلا بوسائل التعنيف. المدرس له الحق أن يفعل بنا ما يشاء، لا يخضع للمحاسبة والمساءلة.

هذه هي المنظومة التعليمية التي تلقينا في رحابها التعليم والمعرفة اللذين يعتبران العمود الفقري لنهضة كل مجتمع عبر التاريخ، خاصة في زمننا الذي استطاع الإنسان فيه أن يخترق الأجواء العليا، يغزو القمر والكواكب البعيدة عن كوكبنا الأرضي. وهذا كله لم يتم لهذا الإنسان إلا بفضل اكتسابه شتى المعارف والعلوم. وأما إنساننا، فمصيره ممارسة العنف عليه وقهر نفسيته وقتل روح الابداع فيه. والعنف يمارس عليه بطريقة منهجية، في البيت، في الشارع، في الإدارة، في المدرسة، في السياسة، أينما حل وارتحل يُقابَل بالعنف والتخويف.

والمدرسون الذين يستعملون العنف، هم نتاج المجتمع الذي يسبح في ثقافة العنف والعنف المضاد والتذمر النفسي، بحيث إنهم لا يرون في التلميذ سوى ذلك الشقي الذي يقلق راحتهم!

وهنا تحضرني حادثة لن أنساها ما حييت وذلك عندما طلب مني المدرس استظهار سورة من سور القرآن القصيرة، فلم أستظهرها استظهارا وافيا، غضب وشتمني ثم ضربني ضربا مبرحا حتى وقعت طريح الأرض، مغشيا علي.

طلب الوالد مقابلة هذا المدرس بحضور مدير المدرسة لتوضيح سبب استعمال العنف، إلا أنه نفى أن السبب هو استظهار القرآن وإنما عدم تنفيذ ما طلبه مني.

لم يرض الوالد من استخفاف هذا المدرس المعتوه فقرر مقاضاته، ساعده في ذلك كبير الجيش الذي كان يعمل تحت إمرته. جاء الحكم بأن يفصل عن مهنته جزاء لفعلته الخسيسة وسلوكه العنيف، إلا أن المدير تدخل يستعطف الوالد بأن يعفو عليه، بشرط أن يستمر في مهنته ضمن مجموعة المدارس التي تقع في مكان ناء، بعيدا عن القرية.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق