محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (6)

30 مايو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (6)

عند اقتراب موعد بدء المسلسل تكون المقهى مزدحمة، لا يسمح لك بالبقاء إن لم يكن في استطاعتك أداء ثمن المشروب. وحتى لا أحرم من متابعة المسلسل، لجأت إلى حيلة لم أبح بها لأي أحد لمدة طويلة. أمر خفية على المكان الذي يبيض فيه الدجاج خارج الأحواش لأخذ بيضتين ثمنا للمشروب.

مسلسل البيت الصغير بين المروج جسد لي معاناة أسرة في مواجهة صعاب الحياة التي عايشتها مع أسرتي من قريب أو بعيد، وخاصة المناظر الطبيعية للقصة كانت بالنسبة لي أخاذة وتسحرني روحيا، تشبه البيئة الطبيعية التي نشأت فيها إلى حد كبير. لم أكن أفهم كلام أبطال المسلسل الناطق باللغة الإسبانية، ومع ذلك كنت أحرص كل الحرص على ألا تفوتني حلقة من حلقاته. ومنذ ذلك الوقت (سبعينيات القرن الماضي) إلى الآن (وقت كتابة هذه المذكرات) أجزم أنني شاهدت المسلسل عشرات المرات دون ملل.

كنت مرة مع ابنتي مريم في زيارة للمكتبة لاستعارة الكتب وأفلام الأطفال، فإذا بها تناديني: أبي أنظر، القصة التي حدثتني عنها وهي تشير إلى أقراص مدمجة مكتوب عليها “البيت الصغير بين المروج” باللغة الهولندية.

ومريم كانت محقة لأنني سبق لي أن حدثتها عن المسلسل وكيف كنت أتابعه أيام طفولتي بشغف ومتعة وانسجام تارة، وتارة أخر أبكي لمواقف حزينة ومؤثرة… أنفعل وأتجاوب مع مشاهد الدراما وأنا أتابع الابنة الوسطى (لورا) بحيويتها ومبادراتها وحبها لأهلها. شاهدت المسلسل مع مريم مرات عدة على شاشة التلفزيون الهولندي وعبر الأقراص المدمجة المستعارة من المكتبة.

إن المجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في سلوكه وأفكاره ومساعيه وأعماله.

في بداية السبعينات انتقلت إلى بلدة تارجيست لمتابعة دروس الصف الخامس من المرحلة الابتدائية. جاء هذا الانتقال عندما طلبني زوج الأخت لأقيم معه وأنوب عنه في مساعدة الأخت على نوائب الحياة، عندما يكون في سفر بعيد بحكم طبيعة عمله كسائق شاحنة.

قرية تارجيست أكبر من قرية بني حذيفة من حيث العمران والسكان، بيأتها تختلف في عدة وجوه عن بيأة بني حذيفة. لم تكن النظم التقليدية لبلدة بني حذيفة تفسح المجال كثيرا – كما هو الحال في قرية تارجيست – للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الهجرة التي عرفتها بلدة تارجيست.

فبانتقالي من بني حذيفة إلى تارجيست، وجدتني في إطار جديد أمام عناصر ومؤثرات تختلف عن سابق نشأتي.

انتظمت في متابعة الدراسة مع زملاء جدد لا أعرف أحدا منهم، عدا أخ لزوج الأخت من أبيه. لم أفلح لعقد علاقة مع التلاميذ الذين تجمعني بهم الدراسة إلا في حدود. ورغم الدفء الذي أحطت به من طرف الأخت وزوجها، إلا أن الحنين إلى مهد الطفولة ببني حذيفة وتعلقي الشديد بطبيعتها ومشهد الوالدة حين المغادرة والدموع في عينيها، لم يخف.

لم أستطع التكيف مع الواقع الجديد. علاقتي الاجتماعية كانت مقتصرة على دكان والد زوج الأخت أقضي بعض الوقت مع أخيه، أو أذهب إلى سيد فاضل (موح سلام) من عائلة زوج الأخت، يملك مخبزة. كان الرجل – وهو الآن في عداد الموتى يرحمه الله – يرحب بي ويقدم لي قطعة خبز ساخن بزيت الزيتون وكوب شاي بعشبة النعناع. والواقع أنني كنت ألتهم تلك القطعة من الخبز بشهية كبيرة.

في زاوية من زوايا القرية حين كنت يوميا أمر على أطلال بنايات يعود عهدها إلى الاستعمار الاسباني وأنا في طريقي إلى المدرسة، كانت أفكار غريبة تخالجني وتتملك نفسي لم أبح بها لأحد مطلقا. الأرواح الشريرة التي حدثتني الوالدة عنها وصلتها بإعاقة قدمي تسكن في هذه البنايات، مع أنني كنت أختلف مع الوالدة وأقول لها إن سبب مشكلة قدمي ليس الجن والأرواح الشريرة وإنما هناك سبب آخر.

لم تمر السنة الدراسية بسلام بسبب الظروف التي لم أستطع أن أتأقلم معها، بالإضافة إلى مشكلة سوء التفاهم مع أخت زوج الأخت. لم أتم السنة الدراسية في قرية تارجيست للأسف، فضاعت مني سنة أخرى في مساري الدراسي.

لم يستطع الوالد تحمل هذا الفشل، لأن حرصه على مستقبل دراستي كان كبيرا. فحمل أعباء الفشل للوالدة التي أصرت على ذهابي مع الأخت. وبعد الأخذ والرد أخذ الوالد قرارالذهاب معه إلى مقر عمله في بلدة حد الرواضي لمتابعة دروسي في مدارسها. تبعد قرية الرواضي عن بني حذيفة بمسافة ليست بقليلة.

والواقع كنت أفضل أن أستأنف مشوار دراستي في بلدتي الوديعة بني حذيفة، وبقرب والدتي المريضة. يعز علي فراق مدرسة بني حذيفة التي تعلمت فيها رغم المعاناة، وطبيعتها الخضراء التي منحتني الصفاء الذهني والانسجام مع نفسي عندما كنت أتنزه بين أحضانها مع رفاقي، بل ويعز علي فراق والدتي المريضة. كلها مشاعر أحسست بها شديد الإحساس. ولا أدري ما سبب كل هذه المشاعر والإحساسات التي شعرت بها في الأيام الأخيرة قبل المغادرة. ربما حالة الوالدة ومرضها الذي زادت حدته وألزمها الفراش.

أتذكر أن الوالد حرص على أن نحل بقرية حد الرواضي بأسبوعين قبل بدء السنة الدراسية ليعرفني على المرافق الحيوية للقرية. كان في استقبالنا أعضاء الحظيرة العسكرية المتكونة من بضعة أشخاص مرتدين زيهم العسكري. وبعد أن عرفني الوالد بهم رحبوا بي وقال لي أحدهم بابتسامة ساخرة: مرحبا بك في ثكنتنا العسكرية الصغيرة، وأنت الآن واحد منا تعمل على ضبط أمن القرية. قال له الوالد: دعك من هذا يا سيد أحمد، فابني محمد جاء لمتابعة دراسته ويتخرج مهندسا كبيرا وليس ليمتهن مهنتك أنت!.. هيا ساعدني على نقل الأمتعة إلى محل الإقامة. محل السكن جزء من أبنية مقر الحظيرة العسكرية، يحتوي على غرفتين، مطبخ وحمام غير مجهز بالماء والتيار الكهربائي. كنت قد تعودت على التيار الكهربائي عندما كنت مقيما مع الأخت بقرية تارجيست، وهذا يعني أنني سأعود إلى عادتي القديمة والمتعبة: إنجاز الواجب المدرسي باستخدام قنديل الغاز.

كانت حديقة خضراء كبيرة من أجمل الحدائق تحيط بالسكن. أغلبية أشجارها تثمر ثمار الإجاص. سررت غاية السرور لهذا الاخضرار والنعمة من الخالق، وكذلك حساسيتي تجاه الطبيعة كبيرة. ولا شك أن هذا المنظر الخلاب من حولي سيمنحني قوة ويمدني بطاقة على مواجهة صعاب الدراسة.

بعد ترتيب أغراضي في الغرفة وأدواتي المدرسية على منضدة، كان الوالد قد طلبها خصيصا لإنجاز الواجب المدرسي، دعينا لجلسة شاي للتعرف أكثر على أفراد الحظيرة العسكرية التي تعمل تحت إمرة الوالد كقائدها. السيد أحمد هو من يتولى زمام الأمور في غياب القائد، أي الوالد. ولذلك حرص الوالد على أن يعرفني به أكثر بقوله: هذا السيد أحمد سيساعدك إذا احتجت شيئا في غيابي عندما أكون في زيارة عمل أو زيارة الأسرة ببني حذيفة. فلا تتردد أو تخجل في اللجوء إليه والاستعانة به عند الحاجة.

استأذن الوالد أفراد الحظيرة العسكرية بالخروج لنلقي نظرة استطلاعية على القرية. كانت المدرسة التي سأتابع فيها دروس الصف الخامس ابتدائي، تقع على مقربة من مقر الحظيرة.

حرص الوالد على أن يعرفني أولا بطاقم التدريس، بدءا بمدير المدرسة والبواب، ثم مدرس العربية والفرنسية. بدا لي منذ البداية أن المدرسة نظامها نظام صارم والمدرسين تبدو عليهما الصرامة والجدية، خاصة مدرس اللغة العربية لم أطمئن لشخصيته. رجل قصير القامة، شاحب الوجه، سمته وقسمات وجهه لا تبعث عن الارتياح والاطمئنان.

بعد ذلك تجولنا في القرية ليعرفني الوالد على معارفه من الحرفيين وملاك الدكاكين  والمقاهي. وقبل عودتنا إلى البيت أخبرني بأننا هذا المساء سنطبخ طاجين لحم دسم تكريما لقدومي إلى قرية حد الرواضي، فمررنا على الجزار والخضار لشراء اللحم ومستلزمات طبخ الطاجين.

أتذكر أن الوالد قام بطبخ طاجين لحم بالخضرفأحسن طبخه. أكلت منه بشهية كبيرة. شاركنا في مناسبة العشاء السيد أحمد، نائب الوالد في قيادة الحضيرة العسكرية. اغتنم الوالد هذه الفرصة ليعرفني أكثر بالسيد أحمد.

قرية حد الرواضي تقع في قبيلة بقيوة القريبة من ساحل البحر المتوسط، بنيتها الجيولوجية معقدة، تتكون من تربة كلسية تعود إلى زمن بعيد، ولكن مناظر طبيعتها من جبال ووديان وعيون تترك أنطباعا قويا في نفسية الزائر. هكذا كان إحساسي وانطباعي عن طبيعة قبيلة بقيوة ومناظرها الجميلة، عندما قمنا برحلة عبر سهولها وجبالها برفقة أحد أصدقاء الوالد، حيث انتهت بنا الرحلة عند جزيرة باديس الإسبانية. وبقرب الجزيرة توجد ثكنة عسكرية يتولى حراستها بعض جنود القوات المساعدة بدون أسلحة. بينما الجزيرة يحرسها جنود إسبان مدججين بالعتاد والأسلحة الحديثة، لا يحق لأحد أن يقترب منها.

لم يبق إلا بضعة أيام ليبدأ الموسم الدراسي. كان الوالد لم يدخر جهدا في سبيل أن يوفر لي كل الإمكانيات المادية والمعنوية من أجل الحصول على شهادة الصف الخامس (شهادة التعليم الابتدائي).

كانت السنوات الضائعة تقلق الوالد غاية القلق، ذلك أن أمله كبير ليراني من بين خريجي المستويات العليا. أتذكر كيف كانت خيبة أمله عندما لم أوفق في إنهاء دراستي الجامعية. كشف لي عن هذا الشعور عندما كنت في زيارته في مدينة طنجة قبل المغادرة بأيام إلى بلاد هولندا، بقوله: كم يحز في نفسي أن أراك يا محمد عاطلا، لا عمل، لا دراسة ولا مستقبل. بذلت جهدي لأساعدك وأقف بجانبك لتحصل على درجة عالية في سلم الدراسة. ولكن لم يتحقق هذا، وأنا لا أملك إلا أن أقول: قدر الله وما شاء فعل…

مر على إقامتي في قرية حد الرواضي أسبوعان. تعرفت فيها عن كثير من أهالي القرية ووجهائها. كنت إذا مررت أمام دكان أو مقهى يرحب بي الأهالي وينادونني بابن “البركادي”. والواقع أن أغلبية هؤلاء الأهالي كانوا يكنون لي كل الاحترام والتقدير، وجعلوني أن أربط صلة الصداقة بهم، رغم فارق السن وميولي إلى التقليل من العلاقات الاجتماعية.

في مقهى من مقاهي القرية، يملكها سيد يكنى “عمي بوعلال”، توثقت صلتي بعدد من السادة يشتغلون ككتاب في إدارة جماعة القرويين. ومنذ ذلك الحين صارت مقهى “عمي بوعلال” مقر لقائي مع هؤلاء السادة يوم السبت والأحد، أستمع إلى حديثهم ونقاشهم في المواضيع المختلفة، وبعض الأحيان ينضم إلى المجلس بعض المدرسين في مدرسة القرية. الوالد من جهته لم يكن له اعتراض على هذه الجلسات في المقهى شرط أن تكون في أوقات الفراغ، أي يوم السبت والأحد وفي حدود المعقول.

انتظمت في متابعة دروس الصف الخامس بقصد الحصول على شهادة التعليم الابتدائي، لئلا أخيب أمل الوالد. كانت حصص اللغة الفرنسية والحساب تعطى في الصباح وحصص اللغة العربية نتلقاها بعد وقت الظهيرة.

حصة الحساب أجد فيها ذاتي وأفضلها على حصة اللغة الفرنسية. كنت أعاني نقصا ضارا في التعبير الشفوي والكتابي باللغة الفرنسية. وكان المدرس ينزعج أيما انزعاج من سوء ورداءة خطي.

الكتابة بخط جميل كنت لا أعير لها أي اهتمام رغم المجهود الذي بذله المدرس لأحسن من خطي. لم أدرك دور الكتابة بخط جميل إلا عندما كنت أدرس في المعهد تكوين المدرسين بأمستردام، لأرى جمالية خط الزملاء الطلبة. ولا حقا عندما قرأت كتاب مشكلة الثقافة للمفكر الجزائري مالك ابن نبي، عرفت حينها أن الخط جزء لا يتجزأ من ثقافة القوم.

“إن الله جميل، يحب الجمال” عبارة مقتبسة من حديث، يرددها المسلم في خطاباته وأحاديثه، ولكن لا يدرك قيمتها وبعدها النفسي والاجتماعي. ومن المنطق أن الصورة القبيحة لا توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيال أقبح. إن المجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في سلوكه وأفكاره ومساعيه وأعماله.

يقول مالك بن نبي: “إن الأفكار هي المنوال التي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسة الموجودة في الإطار الاجتماعي فتنعكس في نفس الفرد الذي يحيا في هذا الإطار، لتصير صورا ذهنية يصدرعنها تفكيره وسلوكه، فجمال الألوان والأصوات والروائح والحركات والأشكال، كلها توحي للفرد بأن يصيغ أفكاره وأعماله بطابع ذوقي – جمالي”.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق