محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (7)

11 يونيو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (7)

ومن الواضح أن المجتمع المغربي الذي نشأت فيه يفقد ذوق الجمال ولا يعير له أي اهتمام. ويكفينا للتدليل على ذلك ما نراه من شأن فرد الجالية عندما يسير في شارع من شوارع أمستردام: لبسته لا توحي بأي ذوق، ملامحه تعبر عن التعاسة والبؤس، مشيته تتناقض مع مشية رجل الأناقة الهولندي، وهو الذي يخاطبه القرآن: “واقصد في مشيك”. ولن تكفينا عشرات الخطب من فوق منابر المساجد لنغير ما بنا من قبح وتعاسة وبؤس شنيع. ذلك أن سببه ناتج عن التفريط في حياتنا.

فينبغي أن ننظر إلى جمالية الخط ضمن المنظومة الثقافية التي أشارنا إلى بعض جوانبها. لقد حاولت أن أحسن من خطي منذ أن كنت أتابع الدراسة في المعهد التربوي لتكوين المدرسين، ولكن بعد فوات الأوان، فلم يكن في ميسوري قط أن أصلح الإهمال الذي فرط مني في مرحلة التعليم الأساسي رغم المجهود الذي بذله معي مدرس اللغة الفرنسية. ومما كان يخاف منه هذا المدرس هو سوء خطي الذي يمكن أن يكون سببا من أسباب رسوبي في امتحان شهادة التعليم الابتدائي.

إني اليوم من الذين يعتقدون بأن الأطفال يجب أن يتعلموا فن الرسم قبل أن يتعلموا كيف يكتبون. دع الطفل يتعلم أحرفه بالملاحظة، كما يتعلم أشياء مختلفة، كالأزهار والأطيار والأشكال، إلخ. على ألا يتعلم الخط إلا بعد أن يتعلم كيف يرسم الأشياء بذوقه. إن خطه خليق بأن يصبح، عندئذ، بارعا جميلا.

بعد حصة اللغة الفرنسية والحساب، أعود إلى البيت لتناول وجبة الغذاء. الغذاء يكون عبارة عن طاجين أو طبق من القطنيات. وأما عندما يسمح الوقت فيهييء الوالد طبقا من السمك المقلي والمشرمل. وبالنسبة لي يكون هذا اليوم بمثاية يوم العيد، آكل من الطبق بشهية كبيرة، وألتهمه بنهم. وكان الوالد يعرف أن السمك هو طبقي المفضل، فيحرص على أن يكون غذاؤنا سمكا مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.

“تنمية مهارة القراءة والكتابة وتذليل الصعوبات والسعي من وراء كسب المعارف البشرية غير واردة في قاموس المجتمع المغربي”

بعد منتصف النهار أعود إلى المدرسة لمتابعة حصص اللغة العربية. حصة النحو والصرف والإعراب مادتها جافة وغير محببة، تثقل كاهلي وتشكل لي صعوبة في الفهم مما كانت تعرضني لغضبة المدرس. الحصة المفضلة لدي هي التعبير الكتابي، خاصة عندما يكون الموضوع للاختيار، أعبر فيه عما يجول في ذهني من أفكار ومشاعر، وعما أحسه وأراه.

أتذكر أن أول موضوع اخترته للكتابة فيه هو “إعاقة قدمي”. تحدثت فيه عن إصابتي بالإعاقة عندما كنت رضيعا، وعن اعتناء الوالدة بي وسهرها الليالي من أجلي. أعجب المدرس  بالموضوع وطلب مني أن أقف أمام التلاميذ لأقرأه عليهم بغض النظر عن الأخطاء وجودة اللغة.

والواقع أن مواضيع معاناة الإنسان والكون والطبيعة وفكرة الوجود، كانت تستحوذ علي وتأسرني وتثير في نفسي أسئلة كثيرة منذ حداثة عمري. وهي أسئلة فلسفية، تبدو لي عبثية ولكن كانت تتراءى لي في الأفق البعيد، تحتاج إلى بحث ودراسة باستمرار. لم أجد للأسف من يساعدني وينمي في نفسي مهارات الكشف والبحث عن هذه القضايا الكبرى، فخبت النبتة إلى حين، حتى هاجرت إلى بلد هولندا حيث أتيحت لي فرصة البحث والقراءة في المواضيع التي طالما أثارت روحي.

إن المنظومة التربوية في بلد كبلد المغرب منظومة حشو، تقمع عقل التنشئة ولا تنميه. علاقة المتلقي والمدرس علاقة عقيمة، لا يوجد فيها شيء اسمه أخذ وعطاء، وبالتالي تخرج الأجيال صفر اليدين من حيث الإنتاج والعطاء، ضعيفة العقل والروح ولا تقوى على التعاطي مع إشكاليات فكرية معرفية.

إن العرف الاجتماعي هو أن تتفوق في دراستك لتحصل على درجة عالية من أجل تقاضي أجرة مالية كبيرة ومكانة اجتماعية محترمة. هذا هو الهدف من التعليم في بلد المغرب المنكوب. تنمية مهارة القراءة والكتابة وتذليل الصعوبات والسعي من وراء كسب المعارف البشرية غير واردة في قاموس المجتمع المغربي. والمجتمع الذي يهمل قدرات أبنائه وإثارة الأسئلة فيهم حول قضايا فكرية وتأسيس لحوار بناء ونقدي، هو مجتمع مفلس ومنتحر تاريخيا.

كنت أدرس بجد طيلة أيام الأسبوع. وبما أنني كنت أحرص على إنجاز واجباتي المنزلية يوم السبت، فإن الوالد كان يمنح لي متسعا من الحرية يوم الأحد لأمضي وقتا في مقهى “عمي بوعلال”، أتابع فيه فيلما من أفلام رعاة البقر على شاشة التليفزيون ريثما يجتمع الأصدقاء، كتاب جماعة أحد الرواضي للاستماع إلى حديثهم في السياسة والفكر الاشتراكي: تشي غيفارا، ماركس، الدين أفيون الشعوب … كلمات من هذا القبيل كنت أسمعها ترد كثيرا في حديثهم ونقاشهم السياسي. لم أكن أفهم ما يقصدون بهذه المفردات. وكان حري بي أن أسألهم عما يقصدون، ولكن من أين لي الشجاعة ومهارات طرح الأسئلة والمشاركة في النقاش. وكم كان يحز في نفسي أني لم أفهم شيئا مما كانوا يقولون. وهذه التجربة بالنسبة لي هي أول تجربة نقاش منظم أشهده في حياتي، ولكن لم أستفد منه للأسف، لأن الموروث النفسي – الثقافي الذي تربيت عليه منذ نعومة أظفاري حرمني من الاستفادة من هذا العالم وهو عالم الأفكار.

حزمت حقيبتي استعدادا للسفر إلى بلدة النشأة، بني حذيفة، بمناسبة عطلة نهاية السنة الملادية.  أتذكر كم كنت سعيدا بهذا السفر، ذلك أنني اشتقت كثيرا إلى الأحبة والأهل وعلى رأسهم والدتي المريضة.

استقللنا يوم الأحد – بعد انقضاء السوق الأسبوعي- شاحنة نقل البضائع متجهين نحو قرية بني حذيفة عبر طريق يمر على قبيلة بني يطفت وسنادة. وصلنا البيت وظلام الليل قد أرخى سدوله على المنطقة. رحبت بنا الوالدة وسعدت كثيرا بقدومنا ووجودنا بين أفراد الأسرة. وبعد تناول وجبة العشاء، استمر سمرنا إلى غاية منتصف الليل نتجاذب أطراف الحديث، باستثناء الوالدة، فقد اضطجعت في إحدى زوايا الغرفة بسبب أوجاع مرضها.

في الصباح، بعد وجبة الفطور، استأذنت الوالدة بالخروج لإلقاء نظرة على الحقول المحيطة بالبيت وأماكن نزهاتي. مشيت صوب الوادي الذي لطالما لجأت إليه في صباي لسماع صوت خرير الماء المنحدر من سفوح الجبل. كان هذا المشهد الطبيعي الخلاب يمنحني الطمأنينة والتأمل في نفسي وفيما حولي. ولكن الطبيعة في فصل الشتاء لها وخز خاص على نفسية الإنسان. لم أر إلا بعض أهالي البلدة منهكين في زراعة وحراثة الأرض، ولم أسمع إلا بعض أصوات الطيور وخاصة منها الطائر الدويري.

لم أر من تمنيت رؤيتهم إلا بعض أصدقاء الصبا وبعض أفراد العائلة من أعمام وأخوال، التقيت بهم صدفة يوم الاثنين، موعد انعقاد السوق الأسبوعي بالقرية. وفي ليالي فصل الشتاء الطويلة يحلو الجو بعد تناول وجبة العشاء للتجمع في غرفة كبيرة تحتوي على مدفأة في إحدى زواياها للاستماع إلى حكايات الكبار عن تجاربهم وأحداث جرت لهم في سنوات شبابهم بسبب الأمطار الغزيرة وفيضانات الأودية. بالمقابل يروون ذكريات عن سنين عجاف، عز فيها المطر وجف الزرع وتراجع المحصول.

وأما الوالدة، عندما تخف أوجاع مرضها، فكانت تفضل أن تقص علينا حكايات خرافية خيالية يلذ سماعها ولا نسأمها، قصص من مثل: الذئب وكياسة القنفذ، أو الغولة العجوز، أو حذاء الأميرة…

والواقع أن هذه الحكايات تعتبر بالنسبة لي المدرسة الأولى التي تكونت فيها مدارك عقلي – كما سبقت الإشارة إليها -. وأود هنا أن أقف قليلا عند دور الأسطورة والحكاية في تنمية الخيال وإثرائها. لم يدر بخلدي أن مثل هذه الحكايات والخرافات الشعبية الخيالية تأخذ حيزا لا يستهان به ضمن كتابة الأدب القصصي عبر التاريخ.

قرأت كتبا مختلفة في هذا المجال، خاصة منها كتاب حكايات أمي الإوزة للكاتب الفرنسي (شارل بيرو) وكليلة ودمنة للأديب (عبدالله ابن المقفع).

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق