محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (8)

20 يونيو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (8)

كتاب “حكايات أمي الإوزة” للكاتب الفرنسي (شارل بيرو، 1628 – 1703): من كلاسيكيات الأدب الأوربي الموجه للناشئة وهو من الكتب التي اهتمت في تاريخ جد مبكر بجمع الحكايات الشعبية أو ما يعرف في التراث الأوروبي (بحكايات الجنيات) وبنقلها من التقاليد الشفاهية إلى الأدب المكتوب.

قرأت الكتاب باللغتين العربية والهولندية. كتب بعنابة، وجمع نصوصه بأسلوب يجذب قراء من مختلف الأعمار لما يجدون فيه من فتوة للسرد والحكي وعذوبة للغة وانتشار باذخ للخيال.

إن موضوعات صفحات الكتاب أحيت حقا في نفسي ذكريات الطفولة عندما كنت أجلس في أيام فصل الشتاء أستمع إلى تلك السيدة (والدتي)، وهي تقص علينا حكايات بأسلوب أمازيغي رائع مشبع بالخيال والفانتازيا. وكانت تبدأ ب (كان ياما كان …) لتغوص بنا عبر أزمنة وأحداث لا يصدقها العقل. كانت الوالدة تأخذ وقتها في سرد أحداث القصة، تقف بنا عند المحطات المهمة للقصة لتعقب عليها وتربطها بالوقائع الاجتماعية، كمثل قولها: يجب على الإنسان أن يحب الخير لأخيه الإنسان، ويكف عن الشر ويعطف على المعوزين وذوي الحاجة. أفهم من هذا الأسلوب للوالدة أنها لم يكن غرضها فقط الحكي والسرد من أجل السرد والتسلية، وإنما كانت تعطي بعدا إنسانيا لقصصها عندما كانت تقف عند الجوانب المهمة للقصة لتلفت انتباهنا إلى المعاناة الإنسانية، وهي التي واجهت مشهدا من هذه المعاناة في حياتها.

ابن المقفع كان يحمل هم مسؤولية المثقف في نقد الأوضاع السائدة والتصدي للفكر الاستبدادي العفن

إنني أتصور أن كتاب أدب الناشئة لو علموا بهذه السيدة وهي تقص علينا حكاياتها، لسارعوا بتسجيلها وصياغتها في كتبهم. لم تعش الوالدة للأسف في مجتمع يقدر ويهتم بنوع هذا الأدب الشفوي للناشئة. وقد تكونت مداركي الأولى في رحاب هذا الفن القصصي التي كانت الوالدة تحكيه لنا.

وقد رافق هذا الأدب في صيغته الشفوية فجر جميع الثقافات، واعتبارا من القرن السابع عشر حوله لفيف من الكتاب الفرنسيين إلى جنس أدبي مكتوب قائم بذاته وله أساليبه ومناخاته وقواعده. ولئن كان أغلب رواده الكبار وبخاصة (شارل بيرو) الذي نحن بصدد الحديث عن كتابه، وماري كاترين دونو، قد أوقفوا عليه جل نشاطهم الإبداعي مكتفين بالكتابة للناشئة، فإن العديد من كبار كتاب الأجيال والقرون اللاحقة قد خضعوا لجاذبية هذا الجنس من الأدب، فخصوه بأثر أدبي أو أكثر أضافوه إلى إبداعاتهم المنضوية تحت لواء أجناس أخرى.

بفضل صنيعهم هذا، لم يعد أدب الناشئة محبوسا في إطار الشائق والعجيب أو في مناخات قصص الساحرات والجنيات، بل صار يخترق كلا من التاريخ والواقع المعيش وجغرافية العالم وآفاق الفكر الرحبة ويضيئها من داخلها مصورا إياها بعين الأجيال الصاعدة وحساسيتها.

وهكذا مارس هذا الجنس الأدبي أساطين في فنون السرد، من بينهم رائد الرواية التاريخية ألكساندر دوما والكاتب الواقعي غي دو موباسان، وآخرون عديدون.

إن الغاية من هذا الأدب الروائي هي تثقيف الناشئة وتوعيتهم وتوسيع مدارك خيالاتهم. وقد كتب هذا الجنس من الأدب، بمراعاة وتحاشي التبسيط المفرط فيها والإفقار العامد للغة، واللذين غالبا ما يُفرضان على هذا النمط الأدبي القصصي.

أعدت قراءة “حكايات أمي الإوزة”، ولكن هذه المرة مع ابنتي مريم. كنت أقرأها لها قبل النوم منذ أن كانت صغيرة لتنمية عقلها وذكائها. وقد عمل المترجمون الهولنديون على ترجمة هذه الحكايات على شكل سلسة متتابعة ومترابطة، بلغة هولندية جد مبسطة ومدعومة بصور تجسد للطفل فهم معاني وأحداث الحكاية.

وكانت الحكايات فعلا تأسر روح مريم وتستولي على لب عقلها عندما كانت تنصت بغاية من الهدوء والاهتمام وأنا أقرأ لها حكاية “ذات القبعة الحمراء”، تسمى بالعربية “ليلى والذئب”، أو “حذاء سندريلا”، أو “الجمال النائم”.. إلخ من قصص خرافية تنضوي تحت لواء تلك الأساطير التي سطرها قلم المبدع شارل بيرو، والتي جمعها في كتابه الشهير: حكايات الأوزة الأم أو أمي الأوزة.

لم يدر بخلد شارل بيرو أن تكون لحكاياته الشعبية الخرافية شهرة في عالم القصص على مر العصور. وقد أنتجت لقصصه أعمال عالمية لم يكن يحلم بها في عصره، منها ما كان في الأوبرا والباليه. وخاصة تلك المقطوعة الموسيقية الرائعة، المعروفة بمقطوعة الجمال النائم التي ألفها الموسيقار الكلاسيكي تشايكوفسكي. وكذلك أنتج العالم على إثر قصصه المسرحيات، والمسرحيات الموسيقية، والأفلام التي تنوعت بين الأداء التمثيلي والرسوم المتحركة المسجلة على أقراص مدمجة لتكون في متناول الطفل في أي وقت يريد.

وهذا هو السر للإبداع الفكري والأدبي، إنتاج الكتاب والمفكرون لا يفنى، يبقى في متناول الأجيال، ينمي روحهم ويخاطب فيهم عقولهم ويطور جوانب شخصيتهم. جسد المفكر ووري في التراب ليفنى ويتلاشى، ولكن روح إنتاجه وفكره انخلع عن جسده ليبقى يفيد ويخصب عقول الأجيال.

كتاب كليلة ودمنة للأديب عبدالله ابن المقفع (106 – 142 هـ)(724 م ـ 759 م): يتناول حكايات حيوانية خرافية، عبارة عن حوارات بين حيوانات مختلفة لها دلالات ومغزى فلسفي – أخلاقي – إصلاحي. دار الحوار بين الفيلسوف الحكيم “بيدبا” والملك المستبد “دبشليم”. ومن خلال القراءة والتأمل في حوارات الكتاب يتبين أن الفيلسوف الحكيم كان عازما وصابرا على التصدي للحاكم الظالم وحماقاته، حتى نجح في تحقيق هدفه النبيل، وهو شفاء هذا الظالم من داء الظلم والاستبداد.

نقل الكتاب إلى العربية الأديب الكبير عبد الله بن المقفع، بهدف تناوله بالقراءة، واستدامة النظر فيه، والتماس جواهر معانيه. كان قصد ابن المقفع من ترجمته لهذ ا الكتاب، هو تنبيه المستعبد لينتبه من غفلته وعبوديته، وكما هو أيضا تنبيه المستكبر لينتهي من ظلمه ويكف عن غيه وشره للعباد ويثوب إلى رشده. والمغزى من الكتاب ليس الإخبار عن حيلة بهيمتين، أو محاورة سبع لثور، فينصرف بذلك عن الغرض المقصود، يقول ابن المقفع في فصل غرض الكتاب.

إن الأديب، ابن المقفع، عندما ترجم هذا الكتاب مع إضافات قيمة من عنده، صبها في قالب بديع من إشراق العبارات وعمق المعنى، كان يعلم علم اليقين أن الجو الذي عاش فيه هو جو عفن فاسد. جو ساده التجسس (الوشاية) وقتل الناس على الشبهة بالزندقة بسبب عداوة شخصية.

عاش ابن المقفع وصاحب كتاب الحيوان، الجاحظ، في جو من الإرهاب والرعب مع تأسيس الدولة العباسية التي جاءت لإقامة العدل بزعم بعض الروايات، مع أن الانقلاب العباسي لم يزد الأمور إلا بؤسا واستبدادا. وقد سئل العتابي لماذا لا تتقرب بأدبك إلى السلطان؟ فيكون جوابه: “لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون”. كان العتابي أعقل من عشرة وزراء بني العباس.

في هذه الأجواء لمع ابن المقفع وترك لنا في تراث الثقافة الإسلامية كتابه “كليلة ودمنة” الذي يعتبر بحق قمة في الفكر السياسي الأخلاقي، عمل على تصنيفه بعناية، جمع مادته من ثقافات شتى. وقد اشتهر ابن المقفع بكليلة ودمنة ولم يشتهر بكاتبه الآخر “رسالة الصحابة”. ومن يقرأ هذين الكتابين بوعي تاريخي، لا يملك إلا أن يدرك أن ابن المقفع كان يحمل هم مسؤولية المثقف في نقد الأوضاع السائدة والتصدي للفكر الاستبدادي العفن.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق